الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( قل أرأيتم إن أتاكم عذابه بياتا أو نهارا ) أي قل لهم أيها الرسول : أخبروني عن حالكم وما يمكنكم فعله إن أتاكم عذابه الذي تستعجلون به في وقت مبيتكم في الليل ، أو وقت اشتغالكم بلهوكم ولعبكم أو أمور معاشكم بالنهار ، وهو لا يعدوهما ( كما تقدم في الآيات 4 ، 97 ، 98 من سورة الأعراف ) ( ماذا يستعجل منه المجرمون ) أي شيء أو أي نوع يستعجل منه المجرمون المكذبون الآن ؟ أعذاب الدنيا أم قيام الساعة ؟ أيا ما استعجلوا فهو حماقة وجهالة ، وقيل : إن المعنى : ماذا يستعجل منه المجرمون منكم إن أتاكم ، أي أن جملة الاستفهام جواب للشرط فيما قبلها ، وفيه بحث للنحاة الذين أوجبوا اقتران مثل هذا الجواب بالفاء وخالفهم غيرهم لا نعرض له وقد تقدم في سورة الأنعام : ( قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله بغتة أو جهرة هل يهلك إلا القوم الظالمون ) ( 6 : 47 ) وتقدم في تفسيرها وتفسير ما قبلها أن الاستفهام في ( أرأيتم ) و ( أرأيتكم ) مستعمل في اللغة بمعنى أخبروني عن حالكم وما يكون من عملكم إن أتاكم ذلك ؟ .

                          [ ص: 323 ] ( أثم إذا ما وقع آمنتم به ) قرأ الجمهور ( ( ثم ) ) بالضم وهي حرف عطف يدل على الترتيب والتأخر والتراخي ، وقرئ بالفتح وهو اسم إشارة بمعنى هنالك . قال ابن جرير الطبري ومعنى قوله ( أثم ) في هذا الموضع : أهنالك ؟ وليس ( ( ثم ) ) هاهنا التي تأتي بمعنى العطف . انتهى .

                          ولم يضبطها بفتح الثاء فظاهر قوله أن المضمومة تأتي ظرفا أيضا وهذا لم يرو عن أحد من العرب ، بل قالابن هشام في المغني وقد نقله عنه : وهذا وهم اشتبه عليه ثم المضمومة الثاء بالمفتوحتها ا ه .

                          وأما على قراءة الجمهور فهذا استفهام آخر معطوف على فعل مقدر بعد الهمزة علم مما قبله من إنكار استعجال مجرميهم بالعذاب ، كما يقدر مثله بعد حرف الاستفهام الداخل في مثل قوله : ( أوعجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم ) ( 7 : 63 ) ؟ وقوله : ( أفحسبتم أنما خلقناكم عبثا ) ( 23 : 115 ) وتقدير الكلام ، أيستعجل بالعذاب مجرموكم الذين هم أحق بالخوف منه بدلا من الإيمان الذي يدفعه عنهم وعنكم ، ثم إذا وقع بالفعل آمنتم به إذ لا ينفع الإيمان ; لأنه صار ضروريا بالمشاهدة والعيان ، لا تصديقا للرسول عليه السلام ، وقيل لكم حينئذ من قبل الله تعالى تقريعا وتوبيخا : ( آلآن ) آمنتم به اضطرارا ( وقد كنتم به تستعجلون ) تكذيبا به واستكبارا ؟ وقرأ نافع ( الان ) بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام ، والجملة حالية ، والاستعجال يتضمن المبالغة في التكذيب المقابل للإيمان ، وسيأتي في هذه السورة إيمان فرعون عند إدراك الغرق إياه وأنه يقال له : ( آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين ) ( 91 ) . ( ثم قيل للذين ظلموا ) ( ( قيل ) ) هذه معطوفة على ( ( قيل ) ) المقدرة قبل ( آلآن وقد كنتم به تستعجلون ) أي ثم قيل للذين ظلموا أنفسهم بالكفر بالرسالة والوعد والوعيد ، وما يترتب عليه من الفساد والضلال البعيد : ( ذوقوا عذاب الخلد ) الخلد كالخلود مصدر خلد الشيء إذا بقي على حالة واحدة لا يتغير ، وخلد الشخص في المكان إذا طال مكثه فيه ، لا يرحل ولا هو بصدد التحول عنه . وظاهر إضافة العذاب إلى ( الخلد ) أن المراد به البقاء على حالة واحدة مؤلمة ، ويحتمل إرادة العذاب الخالد الدائم وهو الموافق للآيات الكثيرة المطلقة في الأكثر والمقيدة بمشيئة الله تعالى في سورة الأنعام ( 6 : 128 ) وقد تقدم تفسيرها وفي سورة هود وسيأتي .

                          ( هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون ) أي لا تجزون إلا بما كنتم تكسبونه باختياركم من الكفر والظلم والفساد في الأرض ، والعزم على الثبات عليه وعدم التحول عنه ، وليس فيه شيء من الظلم ; لأنه أثر لازم لتدسية النفس وإفسادها بالظلم ، حتى لم تعد أهلا لجوار الرب عز وجل وليس عذابا أنفا من خارجها ، وتقدم بيانه في تفسير قوله تعالى : ( سيجزيهم وصفهم ) ( 6 : 139 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية