الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        ما ذكرناه من أنه يرد اليمين على المدعي ، ولا يقضى على المدعى عليه بالنكول هو الأصل المقرر في المذهب ، لكن قد يتعذر رد اليمين ، وحينئذ من الأصحاب من يقول بالقضاء بالنكول ، وبيانه بصور ، إحداها طولب صاحب المال بالزكاة ، فقال : بادلت بالنصاب في أثناء الحول ، أو دفعت الزكاة إلى ساع آخر ، أو غلط الخارص في الخرص ، أو أصاب الثمر جائحة ، واتهمه الساعي ، فيحلف على ما يدعيه إيجابا أو استحبابا على الخلاف السابق في كتاب الزكاة ، فإن نكل لم يطالب [ ص: 48 ] بشيء إن قلنا بالاستحباب ، وإن قلنا بالإيجاب ، فإن انحصر المستحقون في البلد ، وقلنا بامتناع النقل ، ردت اليمين عليهم ، وإلا فيتعذر الرد على الساعي والسلطان ، وفيما يفعل أوجه ، أحدها : لا يطالب بشيء إذا لم تقم عليه حجة ، والثاني : يحبس حتى يقر فيؤخذ منه ، أو يحلف فيترك ، والثالث : إن كان صاحب المال على صورة المدعي بأن قال : أديت في بلد آخر ، أو إلى ساع آخر ، أخذت منه الزكاة ، وإن كان على صورة المدعى عليه بأن قال : ما تم حولي أو الذي في يدي لفلان المكاتب ، لم يؤخذ منه . والرابع - وهو الأصح الأشهر - يؤخذ منه الزكاة ، وكيف سبيله ؟ وجهان قال ابن القاص : هو حكم بالنكول ، ورواه عن ابن سريج ، وسببه الضرورة ، وقال الجمهور : ليس حكما بالنكول ، لكن مقتضى ملك النصاب ومقتضى الحول الوجوب ، فإذا لم يثبت دافع ، أخذنا الزكاة .

                                                                                                                                                                        الثانية : إذا مات ذمي في أثناء السنة ، فهل عليه قسط ما مضى ، أم لا شيء عليه ؟ قولان سبقا ، فلو غاب ذمي ، ثم عاد مسلما ، فقال : أسلمت قبل تمام السنة ، فليس علي جزية ، أو ليس تمامها ، وقال عامل الجزية : بل أسلمت بعدها ، فعليك تمام الجزية ، حلف الذي أسلم استحبابا في وجه ، وإيجابا في وجه ، فإن قلنا بالإيجاب فنكل ، فهل يقضى عليه بالجزية ، أم لا يطالب بشيء ، أم يحبس ليقر ، فيؤخذ منه ، أو يحلف فيترك ؟ فيه أوجه . قال الإمام : وقيد ابن القاص بما إذا غاب ، ثم عاد مسلما ، وظاهر هذا أنه لو كان عندنا ، وصادفناه مسلما بعد السنة ، وادعى أنه أسلم قبل تمامها ، وكتم إسلامه ، لم يقبل قوله ؛ لأن الظاهر أن من أسلم بدار الإسلام لم يكتمه .

                                                                                                                                                                        [ ص: 49 ] الثالثة : ولد المرتزقة إذا ادعى البلوغ بالاحتلام ، وطلب إثبات اسمه في الديوان ، فوجهان ، أحدهما : يصدقه بلا يمين ؛ لأنه إن كان كاذبا ، فكيف نحلفه وهو صبي ؟ وإن كان صادقا وجب تصديقه ، وأصحهما : يحلف عند التهمة ، فإن نكل ، لم يثبت اسمه إلى أن يظهر بلوغه ، ويقرب منه أن من شهد الوقعة من المراهقين إذا ادعى الاحتلام ، وطلب سهم المقاتلة ، أعطي إن حلف ، وإلا فوجهان ، أحدهما : يعطى ، ثم قيل : هو إعطاء بلا يمين ؛ لأن احتلامه لا يعرف إلا منه ، فصدق فيه ، كما تصدق المرأة في الحيض ، ويقع الطلاق المعلق عليه ، وقيل : لأن شهود الوقعة تقتضي استحقاقهم السهم ، وأصحهما : لا يعطى ، قال ابن القاص : وهو قضاء بالنكول ، وقال غيره : إنما لم يعط ؛ لأن حجته في الإعطاء اليمين ولم توجد .

                                                                                                                                                                        الرابعة : مات من لا وارث له ، فادعى القاضي ، أو منصوبه دينا له على رجل وجده في تذكرته ، فأنكر المدعى عليه ونكل ، فهل يقضى عليه بالنكول ، ويؤخذ منه المال ، أم يحبس حتى يقر ، أو يحلف ، أم يترك لكن يأثم إن كان معاندا ؟ فيه ثلاثة أوجه ، ويجري فيما لو ادعى ولي صبي ميت على وارثه أنه أوصى بثلثه للفقراء ، وأنكر الوارث ، ونكل . ولو ادعى ولي صبي أو مجنون دينا له على رجل فأنكر ونكل ، ففي رد اليمين على الولي أوجه ، أحدهما : ترد ؛ لأنه المستوفي ، والثاني : لا ؛ لأن إثبات الحق لغير الحالف بعيد . والثالث : إن ادعى ثبوته بسبب باشره بنفسه ردت ، وإلا فلا ، وأجري الخلاف فيما لو أقام شاهدا هل يحلف معه ، وفيما لو ادعي على الولي دين في ذمة [ ص: 50 ] الصبي هل يحلف الولي إذا أنكر . والوصي والقيم في ذلك كالولي ، ويجري في قيم المسجد والوقف إذا ادعى للمسجد أو للوقف ، وأنكر المدعى عليه ، ونكل . وتحليف الولي والصبي سبق لهما ذكر في آخر كتاب الصداق ، ثم ميل الأكثرين إلى ترجيح المنع من الأوجه الثلاثة ، ولا بأس بوجه التفصيل ، وقد رجحه أبو الحسن العبادي ، وبه أجاب السرخسي في " الأمالي " ، فإن منعنا رد اليمين إلى الولي والوصي ، انتظرنا بلوغ الصبي ، وإفاقة المجنون ، وكتب القاضي المحضر بنكول المدعى عليه ، وتصير اليمين موقوفة على البلوغ ، والإفاقة ، ويعود في قيم المسجد والوقف الوجهان في أنه يقضى بالنكول ، أم يحبس ليحلف أو يقر ، والأصح في مسألة من لا وارث له أن لا يقضى بالنكول ، بل يحبس ليحلف أو يقر ، وإنما حكمنا فيما قبلها من الصور بالمال ؛ لأنه سبق أصل يقتضي الوجوب ، ولم يظهر دافع . ولو ادعى قيم المحجور عليه ، ونكل المدعى عليه ، حلف المحجور عليه أنه يلزمه تسليم هذا المال ، ولكن لا يقول إلي ، وقيمه يقول في الدعوى : يلزمك تسليمه إلي .

                                                                                                                                                                        الخامسة : للقاذف أن يحلف المقذوف أنه لم يزن كما سبق ، فإن نكل ، فالصحيح الذي قطع به الجمهور أنه يرد اليمين على القاذف ، فإن حلف اندفع عنه حد القذف ، وقيل : يسقط بنكوله حد القذف ولا يرد اليمين ، حكاه الهروي .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية