الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                                      صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 315 ] ومعنى كذلك كنتم من قبل أي: كفارا، عن الحسن، وابن زيد . ابن جبير : متخفين بدينكم من قومكم.

                                                                                                                                                                                                                                      فمن الله عليكم أي: من عليكم بالإسلام، أو بإظهار دينكم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة : قال مالك: هذه الآية دالة على أنه ليس لأحد المقام بأرض يسب فيها السلف الصالح، ويعمل فيها بغير الحق، قال : و (المراغم) : الذهاب في الأرض، و (السعة) : سعة البلاد.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : (مراغما) : متحولا من أرض إلى أرض، (وسعة) : في الرزق.

                                                                                                                                                                                                                                      قتادة: سعة من الضلالة إلى الهدى; أي: سعة من تضييق ما كان فيه مع

                                                                                                                                                                                                                                      أهل الضلالة من كتمان دينه.

                                                                                                                                                                                                                                      و (المراغم) في اللغة و (المهاجر) سواء، سمي مهاجرا و مراغما; لأنه كان يعادي قومه ويهجرهم إذا أسلم، كأن (راغمته) : عاديته ولم ألتفت إليه وإن لصق أنفه بالرغام; وهو التراب.

                                                                                                                                                                                                                                      واستدل بعض العلماء بهذه الآية على أن للغازي - إذا خرج إلى الغزو ثم مات قبل القتال - سهمه وإن لم يحضر الحرب، رواه ابن لهيعة، عن يزيد بن أبي [ ص: 316 ] حبيب ، عن أهل المدينة، وروي ذلك عن ابن المبارك.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة : قال بعض العلماء: هذه الآية فيها منع قصر الصلاة لغير الخائف، ثم نسخ ذلك بفعل النبي صلى الله عليه وسلم.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: القصر في صلاة الخوف بنص القرآن، وفي السفر بالسنة.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال بعضهم: الآية في قصتين، وحكمين; فقوله: وإذا ضربتم في الأرض إلى قوله: أن تقصروا من الصلاة يعني به: السفر، وتم الكلام، ثم ابتدأ فريضة أخرى، فقدم الشرط; فالتقدير: (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا، إذا كنت فيهم، فأقمت لهم الصلاة) ، فالواو زائدة، والجواب: فلتقم طائفة منهم معك ، وقوله: إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا اعتراض بين بعض صلاة الخوف وبعض.

                                                                                                                                                                                                                                      وكذلك روي عن ابن عباس : أن قوله: وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة نزلت في الصلاة في السفر ، ثم نزل: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ ص: 317 ] في الخوف بعدها بعام.

                                                                                                                                                                                                                                      ابن عباس : معنى (القصر) ههنا: أن تقصروا من ركوعها وسجودها في حال الخوف، ويصلي إلى القبلة، وإلى غير القبلة، وهو اختيار الطبري، واستدل بقوله: فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي: بتمام ركوعها وسجودها.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: فليس عليكم جناح : إباحة، وقيل: هو فرض للمسافر ، كما روي عن عائشة ـ رضي الله عنها ـ أنها قالت: "فرضت الصلاة ركعتين ركعتين، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر".

                                                                                                                                                                                                                                      وروي: أن في قراءة أبي: (فلا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة أن يفتنكم الذين كفروا) على معنى: كراهة أن يفتنكم، وهو مذهب مالك : أن من أتم الصلاة في السفر; أعاد ما دام في الوقت.

                                                                                                                                                                                                                                      وعن ابن عباس : من صلى في السفر أربعا; كمن صلى في الحضر ركعتين.

                                                                                                                                                                                                                                      أبو حنيفة، وأصحابه : إن صلى في السفر أربعا، فقعد في الثانية قدر التشهد; فصلاته تامة، وإن لم يقعد قدر التشهد; فصلاته فاسدة.

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 318 ] الشافعي، وأبو ثور: المسافر بالخيار، إن شاء أتم، وإن شاء قصر.

                                                                                                                                                                                                                                      ويقصر المسافر عند مالك والشافعي في مسافة أربعة برد، وعند أبي حنيفة : ثلاثة أيام بلياليهن سير الإبل، ومشي الأقدام.

                                                                                                                                                                                                                                      الحسن ، والزهري: في يومين، ابن عباس : في يوم، لا فيما دونه، الأوزاعي عن أنس بن مالك : في خمسة عشر ميلا، وقد بسطت هذا في "الكبير".

                                                                                                                                                                                                                                      واختلفت الآثار في عدد ركعات صلاة الخوف، وفي ترتيبها; ففي حديث يزيد بن رومان ، عن صالح بن خوات ، عن سهل بن أبي حثمة : أن صلاة الخوف التي صلاها مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يصلي الإمام بالطائفة الأولى ركعة، وتقوم الأخرى وجاه العدو، فإذا قام في الثانية; أتمت الأولى لأنفسها ومضت، وجاءت الطائفة الأخرى، فصلى بهم الثانية، وثبت حتى يتموا [ ص: 319 ] لأنفسهم، ثم يسلم بهم.

                                                                                                                                                                                                                                      وفي رواية القاسم عن صالح: أنه يسلم، ثم يقضون بعد سلامه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقال مالك برواية يزيد بن رومان، ثم رجع إلى رواية القاسم.

                                                                                                                                                                                                                                      حذيفة بن اليمان: صلاة الخوف للإمام ركعتان، وركعة ركعة لمن خلفه، وروي نحوه عن جابر بن عبد الله ، وابن عباس، وغيرهما، قال الضحاك : فإن لم يقدر; فليكبر تكبيرتين حيث كان وجهه.

                                                                                                                                                                                                                                      قال إسحاق: يجزئ في صلاة الخوف ركعة واحدة يومئ بها إيماء، فإن لم يقدر; فسجدة، فإن لم يقدر; فتكبيرة.

                                                                                                                                                                                                                                      ومذهب مالك ، والشافعي، وأكثر الفقهاء : أن الخائف في السفر يصلي ركعتين حيث ما توجه، وكيف تيسر، ويصلي الخائفون في الحضر عند

                                                                                                                                                                                                                                      [ ص: 320 ] مالك أربعا، على سنة صلاة الخوف.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: وليأخذوا أسلحتهم : قال ابن عباس : يعني: الطائفة التي وجاه العدو; لأن المصلية لا تحارب، وقال غيره : هي المصلية.

                                                                                                                                                                                                                                      النحاس: يجوز أن يكون للجميع; لأنه أهيب للعدو، ويجوز أن يكون للتي وجاه العدو خاصة.

                                                                                                                                                                                                                                      وأرخص الشافعي في الانحراف، والمشي القليل، ويضرب الضربة، ويطعن الطعنة في صلاة الخوف عند الشدة، فإن تابع الضرب والطعن، أو ردد الطعنة الواحدة في المطعون; لم تجزئه صلاته، وأكثر العلماء على أن كل ما فعله المصلي في صلاة الخوف لا يقدر على غيره; فصلاته تجزئه.

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله) : فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم أي: لينصرفوا بعد سجودهم، فيقفوا خلفكم; فمن قال: إن صلاة الخوف ركعة; فانصرافهم يكون على قوله بسلام، ولا قضاء عليهم .

                                                                                                                                                                                                                                      وقوله: إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم : نزلت [ ص: 321 ] هذه الآية - فيما روي ـ في عبد الرحمن بن عوف، كان جريحا، فأذن له في وضع السلاح; رفقا به ، إذا كان معه من ينوب عنه، وكذلك حكم من كان مثله.

                                                                                                                                                                                                                                      فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة أي: تامة.

                                                                                                                                                                                                                                      إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا : قال ابن عباس ، ومجاهد : فرضا مفروضا، قتادة : مؤقتا; أي: منجما، يؤديها في أنجمها، وقيل: معناه: محتوما.

                                                                                                                                                                                                                                      التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                                      الخدمات العلمية