الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) الرضا لقول الله تعالى : { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } عقيب قوله - عز اسمه - { : يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } وقال عليه الصلاة والسلام : { لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب من نفسه } فلا يصح بيع المكره إذا باع مكرها وسلم مكرها ; لعدم الرضا ، فأما إذا باع مكرها وسلم طائعا فالبيع صحيح على ما نذكره في كتاب الإكراه ; ولا يصح بيع الهازل ; لأنه متكلم بكلام البيع لا على إدارة حقيقته فلم يوجد الرضا بالبيع ، فلا يصح بخلاف طلاق الهازل أنه واقع ; لأن الفائت بالإكراه ليس إلا الرضا ، والرضا ليس بشرط لوقوع الطلاق ، بخلاف البيع على أن الهزل في باب الطلاق ملحق بالجد شرعا قال صلى الله عليه وسلم : { ثلاث جدهن جد وهزلهن جد : الطلاق ، والنكاح والعتاق } ألحق الهازل بالجاد فيه .

                                                                                                                                ومثل هذا لم يرد في البيع ، وعلى هذا يخرج بيع المنابذة ، والملامسة ، والحصاة الذي كان يفعله أهل الجاهلية : كان الرجلان يتساومان السلعة فإذا أراد أحدهما إلزام البيع نبذ السلعة إلى المشتري ; فيلزم البيع رضي المشتري أم سخط ، أو لمسها المشتري ، أو وضع عليها حصاة فجاء الإسلام فشرط الرضا وأبطل ذلك كله ، وعلى هذا يخرج بيع التلجئة وهي ما لجأ الإنسان إليه بغير اختياره اختيار الإيثار وجملة الكلام فيه : أن التلجئة في الأصل لا تخلو إما أن تكون في نفس البيع ، وإما أن تكون في الثمن فإن كانت في نفس البيع ، فإما أن تكون في إنشاء البيع ، وإما أن تكون في الإقرار به ، فإن كانت في إنشاء البيع بأن تواضعوا في السر لأمر ألجأهم إليه على أن يظهر البيع ، ولا بيع بينهما حقيقة وإنما هو رياء وسمعة نحو أن يخاف رجل السلطان فيقول الرجل : إني أظهر أني بعت منك داري وليس ببيع في الحقيقة وإنما هو تلجئة فتبايعا ; فالبيع باطل في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد ; لأنهما تكلما بصيغة البيع لا على قصد الحقيقة ، وهو تفسير الهزل ، والهزل يمنع جواز البيع ; لأنه يعدم الرضا بمباشرة السبب فلم يكن هذا بيعا منعقدا في الحكم .

                                                                                                                                وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن البيع جائز ; لأن ما شرطاه في السر لم يذكراه في العقد ، وإنما عقدا عقدا صحيحا بشرائطه فلا يؤثر فيه ما تقدم من الشرط ، كما إذا اتفقا على أن يشترطا شرطا فاسدا عند البيع ، ثم باعا من غير شرط ، والجواب أن الحكم ببطلان هذا البيع لمكان الضرورة ، فلو اعتبرنا وجود الشرط عند البيع لا تندفع الضرورة ، ولو أجاز أحدهما دون الآخر لم يجز ، وإن أجازاه جاز كذا ذكر محمد ; لأن الشرط السابق وهو : المواضعة منعت انعقاد العقد في حق الحكم بمنزلة شرط خيار المتبايعين ، فلا يصح إلا بتراضيهما ، ولا يملكه المشتري بالقبض حتى لو كان المشترى عبدا فقبضه وأعتقه لا ينفذ إعتاقه ، بخلاف المكره على البيع والتسليم إذا باع وسلم فأعتقه المشتري أنه ينفذ إعتاقه ; لأن بيع المكره انعقد سببا للحكم ; لوجود الرضا بمباشرة السبب عقلا ; لما فيه من صيانة نفسه عن الهلاك فانعقد السبب إلا أنه فسد ; لانعدام [ ص: 177 ] الرضا طبعا فتأخر الملك فيه إلى وقت القبض ، أما ههنا فلم يوجد الرضا بمباشرة السبب في الجانبين أصلا ; فلم ينعقد السبب في حق الحكم فتوقف على أحدهما فأشبه البيع بشرط خيار المتبايعين ، هذا إذا كانت التلجئة في إنشاء البيع ، فأما إذا كانت في الإقرار به فإن اتفقا على أن يقرا ببيع لم يكن فأقرا بذلك ثم اتفقا على أنه لم يكن فالبيع باطل حتى لا يجوز بإجازتهما ; لأن الإقرار إخبار ، وصحة الإخبار بثبوت المخبر به حال وجود الإخبار ، فإن كان ثابتا كان الإخبار صدقا وإلا فيكون كذبا ، والمخبر به ههنا وهو البيع ليس بثابت فلا يحتمل الإجازة ; لأنها تلحق الموجود لا المعدوم ، هذا كله إذا كانت التلجئة في نفس البيع إنشاء كان ، أو إقرارا .

                                                                                                                                فأما إذا كانت في الثمن فهذا أيضا لا يخلو من أحد وجهين : إما إن كانت في قدر الثمن ، وإما إن كانت في جنسه فإن كانت في قدره بأن تواضعا في السر والباطن على أن يكون الثمن ألفا ويتبايعان في الظاهر بألفين فإن لم يقولا عند المواضعة ألف منهما رياء وسمعة فالثمن ما تعاقدا عليه ; لأن الثمن اسم للمذكور عند العقد ، والمذكور عند العقد ألفان ، فإن لم يذكرا أن أحدهما رياء وسمعة صحت تسمية الألفين ، وإن قالا عند المواضعة ألف منهما رياء وسمعة فالثمن ثمن السر ، والزيادة باطلة في ظاهر الرواية عند أبي حنيفة ، وهو قول أبي يوسف ومحمد .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أن الثمن ثمن العلانية ، وجه هذه الرواية : أن الثمن هو المذكور في العقد ، والألفان مذكوران في العقد وما ذكرا في المواضعة لم يذكراه في العقد فلا يعتبر .

                                                                                                                                ( وجه ) ظاهر الرواية : أن ما تواضعا عليه في السر هو ما تعاقدا عليه في العلانية إلا أنهما زادا عليه ألفا أخرى ، والمواضعة السابقة أبطلت الزيادة ; لأنهما في هزلانها حيث لم يقصداها فلم يصح ذكر الزيادة في البيع ; فيبقى البيع بما تواضعا عليه وهو الألف ، وإن كانت في جنسه بأن اتفقا في السر على أن الثمن ألف درهم لكنهما يظهرا أن البيع بمائة دينار ، فإن لم يقولا في المواضعة : إن ثمن العلانية رياء وسمعة فالثمن ما تعاقدا عليه ; لما قلنا ، وإن قالا ذلك فالقياس : أن يبطل العقد ، وفي الاستحسان يصح بمائة دينار .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس : أن ثمن السر لم يذكراه في العقد ، وثمن العلانية لم يقصداه فقد هزلا به فسقط ، وبقي بيعا بلا ثمن فلا يصح .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان : أنهما لم يقصدا بيعا باطلا ، بل بيعا صحيحا فيجب حمله على الصحة ما أمكن ، ولا يمكن حمله على الصحة إلا بثمن العلانية فكأنهما انصرفا عما شرطاه في الباطن ; فتعلق الحكم بالظاهر كما لو اتفقا على أن يبيعاه بيع تلجئة فتواهبا بخلاف الألف ، والألفين ; لأن الثمن المذكور المشروط في السر مذكور في العقد ، وزيادة فتعلق العقد به هذا إذا تواضعا في السر ، ولم يتعاقدا في السر فأما إذا تعاقدا في السر بثمن ثم تواضعا على أن يظهرا العقد بأكثر منه أو بجنس آخر ، فإن لم يقولا : إن العقد الثاني رياء ، وسمعة فالعقد الثاني يرفع العقد الأول ، والثمن هو المذكور في العقد الثاني ; لأن البيع يحتمل الفسخ والإقالة فشروعهما في العقد الثاني إبطال للأول فبطل الأول ، وانعقد الثاني بما سمي عنده ، وإن قالا : رياء ، وسمعة فإن كان الثمن من جنس آخر فالعقد هو العقد الأول ; لأنهما لم يذكرا الرياء ، والسمعة فقد أبطلا المسمى في العقد الثاني فلم يصح العقد الثاني فبقي العقد الأول ، وإن كان من جنس الأول فالعقد هو العقد الثاني ; لأن البيع يحتمل الفسخ فكان العقد هو العقد الثاني ، لكن بالثمن الأول والزيادة باطلة ; لأنهما أبطلاها حيث هزلا بها هذا إذا تواضعا ، واتفقا في التلجئة في البيع فتبايعا وهما متفقان على ما تواضعا ، فأما إذا اختلفا فادعى أحدهما التلجئة ، وأنكر الآخر ، وزعم أن البيع بيع رغبة فالقول قول منكر التلجئة ; لأن الظاهر شاهد له فكان القول قوله مع يمينه على ما يدعيه صاحبه من التلجئة إذا طلب الثمن ، وإن أقام المدعي البينة على التلجئة تقبل بينته ; لأنه أثبت الشرط بالبينة فتقبل بينته كما لو أثبت الخيار بالبينة ، ثم هذا التفريع على ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله ; لأنه يعتبر المواضعة السابقة ، فأما على رواية أبي يوسف عنه فلا يجيء هذا التفريع ; لأنه يعتبر العقد الظاهر فلا يلتفت إلى هذه الدعوى ; لأنها - وإن صحت - لا تؤثر في البيع الظاهر ، وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي الخلاف بين أبي حنيفة ، وصاحبيه فقال على قول أبي حنيفة : القول قول من يدعي جواز البيع ، وعلى قولهما القول قول من يدعي التلجئة ، والعقد فاسد ، ولو اتفقا على التلجئة ثم قالا عند البيع : كل شرط كان بيننا فهو باطل تبطل التلجئة ، ويجوز البيع ; لأنه شرط فاسد زائد فاحتمل السقوط بالإسقاط ، ومتى سقط صار العقد جائزا ، إلا إذا اتفقا عند المواضعة ، وقالا : إن ما نقوله عند البيع أن [ ص: 178 ] كل شرط بيننا فهو باطل فذلك القول منا باطل ، فإذا قالا ذلك لا يجوز العقد ; لأنهما اتفقا على أن ما يبطلانه من الشرط عند العقد باطل إلا إذا حكيا في العلانية ما قالا في السر فقالا : إنا شرطنا كذا ، وكذا ، وقد أبطلنا ذلك ثم تبايعا فيجوز البيع ، ثم كما لا يجوز بيع التلجئة لا يجوز الإقرار بالتلجئة بأن يقول لآخر : إني أقر لك في العلانية بمالي ، أو بداري ، وتواضعا على فساد الإقرار لا يصح إقراره حتى لا يملكه المقر له ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية