الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وملاحدة الزهاد والعباد وجهالهم يروون من هذه الأمور فنونا، مثل روايتهم أن أهل الصفة قاتلوا مع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم لما لم يكن النصر معه ليحتجوا بذلك على أن العارف يكون مع من غلب وإن كان كافرا، ويروون أن أهل الصفة عرفهم الله تعالى بالسر الذي أوحاه إلى نبيه صلى الله عليه وسلم صبيحة المعراج بدون إخبار الرسول، وأن لله صفوة يصلون إليه من غير طريق الرسول، والذين كذبوا هذه الأباطيل لم يكونوا خبيرين بالكذب، فإن الصفة إنما كانت بالمدينة، والمعراج كان بمكة، بالنص والإجماع، وقد علم كل عالم يعلم سيرة النبي [ ص: 28 ] صلى الله عليه وسلم بالاضطرار أن أهل الصفة كانوا كسائر المؤمنين مع النبي صلى الله عليه وسلم، وأنه لم يكن لأحد من الصحابة إلى الله طريق إلا متابعة رسوله، وأن أفضل الصحابة كان أقومهم بالمتابعة، كأبي بكر وعمر، وأبو بكر أفضل من عمر رضي الله عنهما، وهو أفضل الصديقين.

وقد ثبت في الصحيحين أنه قال: إنه قد كان في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر.

فعمر، وإن كان محدثا، فالصديق الذي يأخذ من مشكاة النبوة أفضل منه وأكمل منه، لأن ما استقر مجيء الرسول به فهو معصوم لا يتطرق إليه الخطأ، وما يلقى إلى المحدث يقع فيه خطأ يحتاج إلى تقويمه بنور النبوة، ولهذا كان أبو بكر يقوم عمر، كما قومه يوم الحديبية، ويوم موت النبي صلى الله عليه وسلم، وفي قتال أهل الردة وغير ذلك، وكان عمر يرى أشياء ثم يتبين له الحق بخلافها، كما جرى له هذا في عدة مواطن. [ ص: 29 ]

وهذا وأمثاله مما يبين حاجة أفضل الخلق بعد الرسول وأكملهم إلى الاهتداء بالرسول والتعلم منه، ومعرفة الحق مما جاء به، فكيف بمن يقول: ليس في كلامه في معرفة الله واليوم الآخر علم ولا هدى ولا معرفة ينتفع بها أولو الألباب الذين هم دون عمر وأمثال عمر؟

وقد قال الله تعالى: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [سورة النساء: 59].

وكيف يحكم بين الناس في مواطن الخلاف والنزاع كلام وخطاب ليس فيه علم ولا هدى ينتفع به أولو الألباب؟!

كما زعم هؤلاء الملاحدة، من الفلاسفة المشائين المتأخرين وأتباعهم أن الشرائع لا يحتج بها في مثل هذه الأبواب، فما لا يحتج به كيف يحتج به الناس فيما اختلفوا فيه؟!

وأي اختلاف أعظم من اختلافهم في أعظم الأمور، وهي معرفة الله تعالى واليوم الآخر؟ لا سيما ومن المعلوم أن الخلاف الحقيقي إنما يكون في الأمور العلمية والقضايا الخيرية التي لا تقبل النسخ والتغيير، فأما العمليات التي تقبل النسخ، فتلك تتنوع في الشريعة الواحدة، فكيف بالشرائع المتنوعة؟ [ ص: 30 ] وما جاز تنوعه لم يكن الخلاف فيه له حقيقة، فإنه إن كانا مشروعين في وقتين - أو رسولين - فكلاهما حق، وإن كان الخلاف في المشروع منهما: أيهما هو؟ فهذا يعلم بالخبر المنقول عن الكتاب المنزل، والكتاب المنزل هو نفس الأمر والنهي والخبر، وفيه الشرع الذي لا يكون خلافه شرعا.

وحينئذ فما ذكره ابن سينا وأمثاله من أنه لم يرد في القرآن من الإشارة إلى توحيدهم شيء فكلام صحيح، وهذا دليل على أنه باطل لا حقيقة له، وأن من وافقهم عليه فهو جاهل ضال.

التالي السابق


الخدمات العلمية