الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما قوله: "فكيف غتم العبرانيين وأهل الوبر من العرب؟" فيقال له: نحن لا ننكر أن في العبرانيين والعرب من يكون ذهنه مقصرا عن بعض دقيق العلم، لكن إذا وازنت من كان مع محمد صلى الله عليه وسلم من العرب الخاصة والعامة، ومن كان مع موسى عليه الصلاة والسلام أيضا؛ بمن فرضته من الأمم، وجدتهم أكمل منهم في كل [ ص: 64 ] سبب ينال به دقيق العلم وجليله، فإذا قدرت بعض الناقصين من ذلك القرن، فقابله بإخوانك القرامطة الباطنية، وعوام الفلاسفة الدهرية، وأمثالهم من عوام النصيرية والإسماعيلية وأمثالهم، فإنك تجد بين أدنى أولئك وخيار هؤلاء في الذهن والعلم من الفرق، أعظم مما بين القدم والفرق، أليس أصحابك هم المستجيبين لدعوة بني عبيد الذين راج عليهم مكرهم وكيدهم في الدنيا والدين، حتى اعتقدوا فيمن هو من أكفر الناس وأكذبهم: أنه إمام معصوم، يعلم علم الأولين والآخرين، بل عوام النصارى، مع فرط جهلهم وضلالهم، أحذق وأذكى من عوام أصحابك المستجيبين لمثل هؤلاء المنقادين لهم.

وهل وجد في العالم أمة أجهل وأضل وأبعد عن العقل والعلم من أمة يكون رؤوسها فلاسفة؟ أو لم تكن أئمتكم اليونان - كأرسطو [ ص: 65 ] وأمثاله مشركين يعبدون الأوثان، ويشركون بالرحمن، ويقربون أنواع القرابين لذرية الشيطان؟

أو ليس من أعظم علومهم السحر، الذي غايته أن يعبد الإنسان شيطانا من الشياطين، ويصوم ويصلي، ويقرب له القرابين، حتى ينال بذلك عرضا من الدنيا، فساده أعظم من صلاحه، وإثمه أكبر من نفعه؟

أو ليس أضل الشرك في العالم هو من بعض هؤلاء المتفلسفة؟ أو ليس كل من كان أقرب إلى الشرائع - ولو بدقيقة - كان أقرب إلى العقل ومعرفة الحقيقة؟ وهل رأيت فيلسوفا أقام مصلحة قرية من القرى، فضلا عن مدينة من المدائن؟ وهل يصلح دينه ودنياه إلا بأن يكون من غمار أهل الشرائع؟

ثم يقال له: أنت وأمثالك أئمة أتباعكم، وهذا قولك وقول أرسطو وأمثالكم من أئمة الفلاسفة في واجب الوجود وصفاته وأفعاله - مع دعواكم نهاية التوحيد والتحقيق والعرفان- قول لا يقوله إلا من هو من أجهل الناس وأضلهم وأشبههم بالبهائم من الحيوان.

وكون الواحد منكم حاذقا في طب أو نجوم أو غرس أو بناء، هو لقلة معرفتكم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله وعبادته، وقلة نصيبكم وحظكم من هذا المطلب، الذي هو أجل المطالب، وأرفع المواهب، [ ص: 66 ] فاعتضتم بالأدنى عن الأعلى: إما عجزا وإما تفريطا.

ولا ريب أن أئمة اليهود والنصارى، بعد أن بدلوا الكتاب، ودخلوا فيما نهوا عنه، أحذق وأعرف بالله من أئمتكم، وعوام اليهود والنصارى الذين هم ضالون ومغضوب عليهم أصح عقلا وإدراكا وأصوب كلاما في هذا الباب من عوام أصحابكم، وهذا مما لا يشك فيه من له عقل وإنصاف.

واعتبر ذلك بعوام النصيرية والإسماعيلية والدرزية والطرقية [ ص: 67 ] والعرباء وعوام التتر المشركين، الذين كان علماؤهم المشركون السحرة من البخشية والطوينية وأمثالهم، وكان خيار علمائهم رؤوس الملاحدة، مثل النصير الطوسي وأمثاله، وكذلك عوام أتباع سنان رأس الملاحدة وأمثاله، فاعتبر عوام هؤلاء مع عوام اليهود والنصارى، تجد عوام اليهود والنصارى أقل فسادا في الدنيا والدين من أولئك، وتجد أولئك أفسد عقلا ودينا.

وأما متوسطوكم كالمنجمين والمعزمين وأمثالهم، ففيهم من الجهل [والضلال] والكذب والمحال ما لا يحصيه إلا ذو الجلال، وهل كان [ ص: 68 ] الطوسي وأمثاله ينفقون عند المشركين من التتر إلا بأكاذيب المنجمين، ومكايد المحتالين، المنافية للعقل والدين؟

وأما أئمتكم البارعون - كأرسطو وذويه - فغايته أن يكون مشركا سحارا وزيرا لملك مشرك سحار كالإسكندر بن فيلبس، وأمثاله من ملوك اليونان الذين كانوا أهل شرك يعبدون الأوثان، وإنما [صار] فيهم ما صار من الهدى والفلاح لما دخلت فيهم النصرانية بعد أرسطو [بنحو] ثلاثمائة سنة وتسع عشرة سنة أو أكثر منها، وقد قيل: إن ذلك كان على عهد آخر [ملوكهم] بطليموس صاحب المجسطي، فناهيك ممن تكون النصارى أعقل منهم وأعلم وأهدى إلى الدين الأقوم!

ومن الضلال أن من يظن ذا القرنين المذكور في القرآن العزيز هو الإسكندر بن فيلبس الذي يقال إن أرسطو كان وزيره، وهذا [ ص: 69 ] جهل فإن ذا القرنين قديم متقدم على هذا بكثير، وكان مسلما موحدا حنيفا، وقد قيل: إن اسمه الإسكندر بن دارا، وأما اليوناني فهو ابن فيلبس الذي يؤرخ الروم به، وكان قبل المسيح بنحو ثلاثمائة سنة، أو ما يقارب ذلك.

وهذا الكلام وأمثاله إنما قيل للمقابلة لما في كلام هؤلاء من الاستخفاف بأتباع الأنبياء، وأما أئمة العرب وغيرهم من أتباع الأنبياء، عليهم الصلاة والسلام، كفضلاء الصحابة، مثل أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ومعاذ بن جبل، وأبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن سلام، وسلمان الفارسي، وأبي الدرداء، وعبد الله بن عباس، ومن لا يحصي عدده إلا الله تعالى، فهل سمع في الأولين والآخرين بعد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بقوم كانوا أتم عقولا وأكمل أذهانا وأصح معرفة وأحسن علما من هؤلاء؟

فهم، كما قال فيهم عبد الله بن مسعود: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد، أبر هذه الأمة قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه، وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم.

وما طمع أهل الإلحاد في هؤلاء إلا بجهل أهل البدع، كالرافضة والمتكلمين [من] المعتزلة ونحوهم. [ ص: 70 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية