الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          يقول الله تعالى : يسألك أهل الكتاب ، هذا على سبيل التعنت ، والتعجيز ، لا بقصد طلب الحجة لأجل الاقتناع ، وإن تعجب أيها الرسول من سؤالهم ، وتستنكره وتستكبره عليهم فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ، سأله ذلك سلف هؤلاء الذين يسألونك أن تنزل عليهم كتابا من السماء ، وإنما الخلف والسلف في الصفات والأخلاق سواء ; لأن الأبناء ترث الآباء ، والإرث يكون على أشده وأتمه في أمثال هؤلاء اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء ، على أن سنة القرآن ، في مخاطبة الأمم والحكاية عنها ، معروفة ، مما تقدم في شأن اليهود كغيرهم . وهو أن الأمة لتكافلها ، وتوارثها ، واتباع خلفها لسلفها تعد كالشخص الواحد فينسب إلى المتأخرين منها ما فعله المتقدمون ، ويمكن جريان الكلام هنا على طريق الحقيقة ، بصرف النظر عن هذه السنة ; وذلك أن كلا من السؤالين مسند إلى جنس أهل الكتاب ، وهو لا يقتضي أن يكون الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الأول عين الأفراد الذين أسند إليهم السؤال الثاني .

                          [ ص: 12 ] إن سؤال هؤلاء القوم رؤية الله - تعالى - جهرة أكبر وأعظم من سؤالهم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وكل من السؤالين يدل على جهلهم أو عنادهم ، أما سؤال إنزال الكتاب فهو يدل على أحد أمرين : إما أنهم لا يفهمون معنى النبوة والرسالة على كثرة ما ظهر فيهم من الأنبياء ، والرسل ، ولا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله ، وبين سائر الأمور المستغربة ; كحيل السحر والشعوذة لمخالفتها للعادة ، وقد بينت لهم كتبهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة ، وأن النبي يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق والخير ، لا بمجرد آية أو أعجوبة يعملها ( كما نص على ذلك في أول الفصل الثالث عشر من سفر تثنية الاشتراع ، وغيره ) وإما أنهم معاندون يقترحون ما يقترحون تعجيزا ومراوغة . وأيا ما قصدوا من هذين الأمرين فلا فائدة في إجابتهم إلى ما سألوا ; كما قال - تعالى - في سورة الأنعام : ولو نزلنا عليك كتابا في قرطاس فلمسوه بأيديهم لقال الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ( 6 : 7 ) .

                          وأما سؤالهم رؤية الله جهرة ; أي عيانا ، كما يرى بعضهم بعضا ، فهو أدل على جهلهم وكفرهم بالله تعالى ; لأنهم ظنوا أنه جسم محدود تدركه الأبصار ، وتحيط به أشعة الأحداق ، وقد عوقبوا على جهلهم هذا ; فأخذتهم الصاعقة بظلمهم إذ شبهوا ربهم بأنفسهم ، فرفعوا أنفسهم إلى ما فوق مرتبتها ، وقدرها وما قدروا الله حق قدره ( 6 : 91 ) والصاعقة نار جوية ، تشتعل باتحاد الكهربائية الإيجابية بالسلبية ، وتقدم تفسير مثل هذا في سورة البقرة ، راجع آية 55 وإذ قلتم يا موسى لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة ، في الجزء الأول ، وفيه أن هذه الواقعة معروفة في كتبهم ، وفيها التعبير بالنار بدل الصاعقة ، وربما يظن الظان أنها نار خلقها الله تعالى من العدم ، ولكن القرآن يبين لنا أنها من الصواعق المعتادة أرسلها الله عليهم عند ظلمهم هذا ، ولا يمنع ذلك أن تكون حدثت بأسبابها ، والله تعالى يوفق أقدارا لأقدار .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية