الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ويؤيد التعليل الذي بيناه أخيرا هذا النهي الذي عطف على الأمر بدخول الأرض المقدسة ، وهو ( ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين ) على أحد الوجهين في تفسيره ، وهو : لا ترجعوا عما جئتكم به ، من التوحيد والعدل والهدى إلى الوثنية أو الفساد في الأرض بالظلم والبغي واتباع الهوى ; فيكون هذا الرجوع إلى الوراء انقلاب خسران تخسرون فيه هذه النعم ، ومنها الأرض المقدسة التي ستعطونها جزاء على شكر النعم التي تقدمتها ، فتعود الدولة فيها لأعدائكم ، وذلك أن شكر النعم مدعاة المزيد منها ، وكفرها مدعاة سلبها وزوالها ، والوجه الآخر في الارتداد على الأدبار النكوص عن دخولها ، والجبن عن قتال من فيها من الوثنيين ، وقد فرض الله عليهم قتالهم ، والخسران على هذا قيل هو [ ص: 272 ] خسران ثواب الجهاد ، وخيبة الأمل في امتلاك البلاد ، والذي أجزم به أن المراد بالخسران تحريم الأرض المقدسة على المخاطبين وحرمانهم من خيراتها التي ورد في بعض أوصافها أنها " تفيض لبنا وعسلا " ، وعقابهم بالتيه أربعين سنة ، ينقرض فيها المرتدون على أدبارهم ، كما سيأتي ، فإن هذا الخسران هو الذي وقع بالفعل ، وبينه الله في الكتاب ، فلا معدل عنه ، ولا يعارضه كون الله تعالى كتبها لهم ; فإن هذه الكتابة ليست لأولئك الأفراد بأعيانهم ، وإنما هي لشعبهم وأمتهم ، ومثل هذا الخطاب الذي يوجه إلى الأمم والأقوام معهود في عرف الناس ولغاتهم ، يسند إلى الحاضرين المخاطبين ما كان من أعمال سلفهم الغابرين ، ويبشرون أو يوعدون بما لا يكون إلا لخلفهم الآتين ، كبشارة النبي صلى الله عليه وسلم لقومه بأنهم سيفتحون القسطنطينية ، قبيل قيام الساعة . على أن الله حرمها على جمهور الذين خالفوا وعصوا أمر موسى بدخولها ، ولما دخلوها بعد التيه كان قد بقي من الذين خوطبوا بأنها كتبت لهم بقية . فقال بعض المفسرين : إن كونها كتبت لأولئك المخاطبين بأعيانهم يصدق بهؤلاء من باب إطلاق العام وإرادة الخاص ، ولكن الأسلوب الفصيح يأبى هذا التوجيه اللفظي كل الإباء ، وقال السدي : إن المراد بالكتابة هنا الأمر ، فمعنى " كتب الله لكم " أمركم بدخولها ، وهو بعيد أيضا ، والمتبادر أنه كتب لهم ذلك في الكتاب وما أوحاه إلى آبائهم ، ويؤيده الواقع ، ولولاه لكان المعنى كتب لكم ذلك في علمه ; أي أثبته بقضائه وقدره .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية