الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          هذه أربع عقوبات للمحاربين المفسدين في الأرض ، اختلف علماء السلف في كيفية تنفيذها ; فقال بعضهم هي للتخيير ، فللإمام أن يحكم على من شاء من المحاربين المفسدين عند التمكن منهم ، بما شاء منها ، وقال الجمهور : إنها لتفصيل أنواع العقاب لا للتخيير ، جعل الله لهذا الإفساد درجات من العقاب ; لأن إفسادهم متفاوت ; منه القتل ، ومنه السلب ، ومنه هتك الأعراض ، ومنه إهلاك الحرث والنسل ; أي قطع الشجر ، وقطع الزرع ، وقتل المواشي والدواب ، ومنهم من يجمع بين جريمتين أو أكثر من هذه المفاسد ، فليس الإمام مخيرا في معاقبة من شاء منهم بما شاء منها ، بل عليه أن يعاقب كلا بقدر جرمه ودرجة إفساده ، ثم اختلفوا في تقدير هذه العقوبات بقدر الجرائم اختلافا كثيرا ، وجاءوا فيه بفروع كثيرة ترجع إلى الرأي والاجتهاد في التقدير ومراعاة ما ورد من الحدود على بعض هذه الأعمال ، كقتل القاتل وقطع آخذ المال ; لأنه كالسارق ، والجمع بين القتل والصلب لمن جمع بين القتل والسلب ، والنفي لمن أخاف السبيل ولم يقتل ولا أخذ مالا ، وقد روي هذا عن ابن عباس وبعض علماء التابعين ، وأنت ترى أن الآية لا تدل عليه ولا تنفيه ; فهو اجتهاد حسن في كيفية العمل بها ، ولكنه غير كاف ; لأن للمفسدين في الأرض بالقوة أعمالا أخرى أشرنا إلى أمهاتها آنفا ، فإذا قامت عصابة مسلحة من الأشقياء بخطف العذارى أو المحصنات لأجل الفجور بهن ، أو بخطف الأولاد لأجل بيعهم أو فديتهم ، فلا شك أنها تعد من المخربين المفسدين ، فما حكم الله فيهم ؟ إن الآية حددت لعقاب المفسدين بقوة السلاح والعصبية أربعة أنواع من العقوبة ، وتركت لأولي الأمر الاجتهاد في تقديرها بقدر جرائمهم ، فلا هي خيرت الإمام بأن يحكم بما شاء منها على من شاء بحسب هواه ، ولا هي جعلت لكل مفسدة عقوبة معينة منها ، والحكمة في عدم تعيين الآية وتفصيلها للفروع والجزئيات هي أن هذه المفاسد كثيرة [ ص: 300 ] وتختلف باختلاف الزمان والمكان ، وضررها يختلف كذلك ، والفروع تكثر فيها ، حتى إن تفصيلها لا يمكن إلا في صحف كثيرة ، ومن خصائص القرآن أنه كتاب هداية روحية ، ليس لأحكام المعاملات الدنيوية منه إلا الحظ القليل ; إذ وكل أكثرها إلى أولي الأمر من المؤمنين ، وبين بإيجازه المعجز الضروري منها بعبارة يؤخذ من كل آية منها ما يملأ عدة صحف ، كهذه الآية وآيات المواريث ، والقاعدة في الإسلام : أن ما لا نص فيه بخصوصه يستنبط أولو الأمر حكمه من النصوص والقواعد العامة في دفع المفاسد وحفظ المصالح . والعلماء المستقلون من أولي الأمر ، فلهذا بينوا ما وصل إليه اجتهادهم ; ليسهلوا على الحكام من أولي الأمر فهم النصوص ، ويمهدوا لهم طرق الاجتهاد ، ولهذا اختلفت الأقوال ، ولو كان مسلمو هذا العصر كمسلمي السلف لفعل أئمتهم كما كان يفعل عمر بن الخطاب في خلافته من جمع أولي الأمر ( أهل الحل والعقد من العلماء وكبراء الصحابة ) للتشاور في كل ما لا نص فيه ، ولا سنة متبعة ، ولاستشاروهم في تقدير هذه العقوبات بقدر تأثير المفاسد وضررها ، وأنفذوا ما يتقرر بعد الشورى في كل ما حدث من فروع هذه المفاسد . راجع تفسير ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم ) ( 4 : 59 ) ( ص146 - 180 ج5 ط الهيئة ) .

                          وعلم بهذا الذي قررناه أن كل قول قاله علماء السلف له وجه ، وإن رد بعضهم قول بعض ، فمن قال : إن الإمام مخير فوجهه ما يدل عليه العطف بأو ، لا يعني بالتخيير أن له الحكم بالهوى والشهوة ، بل بالاجتهاد ومراعاة ما تدرأ به المفسدة وتقوم المصلحة ، ولا ينافي ذلك المشاورة في الأمر ، كيف وهي القاعدة الأساسية للحكم ؟ ومن وضع كل عقوبة بإزاء عمل من أعمال المفسدين فإنما بين رأيه واجتهاده في الحكم الذي يدرأ المفسدة ، وتقوم به المصلحة ، كما يبينون فهمهم واجتهادهم في غير ذلك من المسائل ، ولا يوجبون ، بل لا يجيزون لأحد من حاكم أو غيره أن يتخذ فهمهم أو رأيهم دينا يتبع ، وإنما هو إعانة للباحث والناظر على العلم ، فإن المستقل في طلب العلم إذا نظر في مسألة لم يعرف لغيره رأيا فيها يكون مجال نظره أضيق من مجال من عرف أقوال الناس وآراءهم ، وكم من عالم مجتهد قال في مسألة قولا ثم رجع عنه بعد وقوفه على قول غيره من العلماء ; إما إلى رأيهم ، وإما إلى رأي جديد . وعلى هذه القاعدة كان للشافعي مذهب قديم ومذهب جديد ، فلا يغرنك قول بعض العلماء المستقلين إن أكثر ما قالوه ليس له أصل من كتاب ولا سنة .

                          إذا علمت هذا ، فهاك أشهر أقوال الفقهاء في المسألة ، قال صاحب ( المقنع ) من كتب الحنابلة في باب قطاع الطريق : وإذا قدر عليهم ; فمن كان منهم قد قتل من يكافئه ، وأخذ [ ص: 301 ] المال قتل حتما ، وصلب حتى يشتهر ، وقال أبو بكر ( من فقهائهم ) : " يصلب قدر ما يقع عليه اسم الصلب ، وعن أحمد أنه يقطع مع ذلك . وإن قتل من يكافئه ، فهل يقتل ؟ على روايتين " إلى آخر ما ذكره ، وهو مثل الذي عزوناه إلى ابن عباس مع تفصيل وذكر روايات مختلفة في المذهب ، وقال محشيه ما نصه : " قوله وإذا قدر عليه . . . إلخ . هذا هو المذهب . وروي نحوه عن ابن عباس ، وبه قال قتادة وأبو مجلز ، وحماد والليث والشافعي ، وذهبت طائفة إلى أن الإمام مخير فيهم بين القتل والصلب والقطع والنفي ; لأن ( أو ) تقتضي التخيير ، وبه قال سعيد بن المسيب وعطاء والحسن والضحاك والنخعي وأبو الزناد وأبو ثور وداود . وقال مالك : إذا قطع الطريق فرآه الإمام جلدا ذا رأي قتله ، وإن كان جلدا لا رأي له قطعه ، ولم يعتبر فعله " انتهى . أي إن مالكا يعتبر حال قاطع الطريق في العقاب ، لا عمله وحده ، والجلد : القوي صاحب الثبات ، فإذا اجتمعت القوة مع الرأي والتدبير كان الفساد أقوى ، والعاقبة شرا . وذكر الشوكاني في نيل الأوطار أقوالا كثيرة للعلماء في ذلك ; منها أقوال أئمة الزيدية ، فليراجعها من شاء .

                          قال تعالى : ( ذلك لهم خزي في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب عظيم ) أي ذلك الذي ذكر من العقاب خزي لأولئك المحاربين المفسدين ; أي ذل وفضيحة لهم في الدنيا ; ليكونوا عبرة لغيرهم من المفسدين ، وقال : ( لهم خزي ) ولم يقل " خزي لهم " ; ليفيد أنه خاص بهم ، دون الأفراد الذين يعملون مثل عملهم من غير أن يكونوا محاربين ، ومغترين بالقوة والعصبية ، ثم إن عذابهم في الآخرة يكون عظيما بقدر تأثير إفسادهم في تدنيس أرواحهم وتدسية أنفسهم ، ويا له من تأثير ! .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية