الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( حكمة شرع الوضوء والغسل ) ولما بين فرض الوضوء وفرض الغسل ، وما يحل محلهما عند تعذرهما أو تعسرهما ؛ تذكيرا بهما ومحافظة على معنى التعبد فيهما ، وهو التيمم - بين حكمة شرعهما لنا ، مبتدئا ببيان قاعدة من أعظم قواعد هذه الشريعة السمحة ، فقال : ( ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي ما يريد الله ليجعل عليكم فيما شرعه لكم في هذه الآية ولا في غيرها أيضا حرجا ما ; أي أدنى ضيق وأقل مشقة ; لأنه تعالى غني عنكم ، رءوف رحيم بكم ، فهو لا يشرع لكم إلا ما فيه الخير والنفع لكم ( ولكن يريد ليطهركم ) من القذر والأذى ، ومن الرذائل والمنكرات ، والعقائد الفاسدة ; فتكونوا أنظف الناس أبدانا ، وأزكاهم نفوسا ، وأصحهم أجساما ، وأرقاهم أرواحا ( وليتم نعمته عليكم ) بالجمع بين طهارة الأرواح وتزكيتها ، وطهارة الأجساد وصحتها ، فإنما الإنسان روح وجسد ، لا تكمل إنسانيته إلا بكمالهما معا ، فالصلاة تطهر الروح ، وتزكي النفس ; لأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، وتربي في المصلي ملكة مراقبة الله تعالى وخشيته لدى الإساءة ، وحبه والرجاء فيه عند الإحسان ، وتذكره دائما بكماله المطلق ، فتوجه همته دائما إلى طلب الكمال ( راجع تفسير : ( حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى ) . ( 2 : 238 ) في الجزء الثاني من التفسير ) . والطهارة التي جعلها الله تعالى شرطا للدخول في الصلاة ومقدمة لها ، تطهر البدن وتنشطه ; فيسهل بذلك العمل على العامل من عبادة وغير عبادة ، فما أعظم نعمة الله تعالى على الناس بهذا الدين القويم ، وما أجدر من هداه الله إليه بدوام الشكر له عليه . ولذلك ختم الآية بقوله : ( لعلكم تشكرون ) أي وليعدكم بذلك لدوام شكره ; فتكونوا أهلا له ، ويكون مرجوا منكم لتحقق أسبابه ، ودوام المذكرات به ، فتعنوا بالطهارة الحسية والمعنوية ، وتقوموا بشكر النعم الظاهرة والباطنة .

                          وقد استعمل لفظ " الطهارة " في بعض الآيات بمعنى الطهارة البدنية الحسية ، وفي بعضها بمعنى الطهارة النفسية المعنوية ، وفي بعض آخر بالمعنيين جميعا بدلالة القرينة ، فمن [ ص: 215 ] الأول قوله تعالى : ( وثيابك فطهر ) ( 74 : 4 ) وقوله في النساء عند الحيض : ( ولا تقربوهن حتى يطهرن ) أي من الدم ( فإذا تطهرن ) أي اغتسلن بعد انقطاع الدم ( فأتوهن من حيث أمركم الله ) وختم الآية بقوله : ( إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ) ( 2 : 222 ) والتطهر فيه شامل للطهارتين الحسية والمعنوية ; أي المتطهرين من الأقذار والأحداث ، ومن الفواحش والمنكرات ; فالسياق قرينة على المعنى الأول ، وذكر التوبة قرينة على المعنى الثاني ، ويشير إليه السياق من حيث إن من أتى الحائض قبل أن تطهر وتتطهر يجب عليه التوبة . ومن المعنى الثاني خاصة قوله عز وجل : ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم ) ( 5 : 41 ) وقوله تعالى حكاية عن قوم لوط : ( أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون ) ( 27 : 56 ) أي من الفاحشة ، ومنه قوله تعالى : ( وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل أن طهرا بيتي للطائفين والعاكفين والركع السجود ) ( 2 : 125 ) أي طهراه من الوثنية وشعائرها ومظاهرها ; كالأصنام ، والتماثيل ، والصور . ومن الآيات التي استعملت الطهارة فيها بمعنييها قوله تعالى : ( لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المطهرين ) ( 9 : 108 ) فإذا تأملت هذه الآيات ، وعرفت استعمال القرآن لكلمة الطهارة في معنييها ترجح عندك أن الآية التي نفسرها من هذا القبيل ، فذكر الطهارة بعد الأمر بالوضوء والغسل قرينة المعنى الأول . والسياق العام وذكر إتمام النعمة بعد الطهارة التي ذكرت بغير متعلق ، قرينة المعنى الثاني مضموما إلى الأول .

                          أما تفصيل القول في حكمة الوضوء والغسل ، ويتضمن حكمة ما يجب من طهارة كل البدن والثياب من القذر ، فيدخل في مسألتين نبين فيهما فوائدهما الذاتية ، وفوائدهما الدينية .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية