الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        السبب السادس : الانتفاع . فالتعدي باستعمال الوديعة والانتفاع بها ، كلبس الثوب ، وركوب الدابة ، خيانة مضمنة . فإن كان هناك عذر ، بأن لبس لدفع الدود كما سبق ، أو ركب الدابة حيث يجوز إخراجها للسقي وكانت لا تنقاد إلا بالركوب ، فلا ضمان . وإن انقادت من غير ركوب فركب ، ضمن . ولو أخذ الدراهم ليصرفها إلى حاجته ، أو الثوب ليلبسه ، أو أخرج الدابة ليركبها ، ثم لم يستعمل ، ضمن ؛ لأن الإخراج على هذا القصد خيانة .

                                                                                                                                                                        ولو نوى الأخذ لنفسه فلم يأخذ ، لم يضمن على الصحيح وقول الأكثرين ، وضمنه ابن سريج . ويجري الخلاف ، فيما لو نوى أن لا يرد الوديعة بعد طلب المالك . وقيل : يضمن هنا قطعا ؛ لأنه يصير ممسكا لنفسه ، قاله القاضي أبو حامد والماوردي . ويجري الوجهان فيما إذا كان الثوب في صندوق غير مقفل فرفع رأسه ليأخذ الثوب ويلبسه ، ثم بدا له . ولو كان الصندوق مقفلا والكيس مختوما ، ففتح القفل وفض الختم ولم يأخذ ما فيه ، فوجهان : أحدهما : لا يضمن ما فيه ، وإنما يضمن الختم الذي تصرف فيه . وأصحهما : يضمن ما فيه ؛ لأنه هتك الحرز . وعلى هذا ، ففي ضمان الكيس والصندوق وجهان ؛ لأنه لم يقصد الخيانة في الظرف .

                                                                                                                                                                        [ ص: 335 ] ولو خرق الكيس [ نظر ، إن كان الخرق ] تحت موضع الختم ، فهو كفض الختم . وإن كان فوقه ، لم يضمن إلا نقصان الخرق . ولو أودعه شيئا مدفونا فنبشه ، فهو كفض الختم . ولا يلتحق بالفض وفتح القفل حل الخيط الذي يشد به رأس الكيس ، أو رزمة الثياب ؛ لأن القصد منه المنع من الانتشار ، لا أن يكون مكتوما عنه . وعن الحاوي وجهان فيما إذا كانت عنده دراهم فوزنها - أودعها - أو ثياب فذرعها ليعرف طولها ، أنه هل يضمن ؟ ويشبه أن يجيء هذا الخلاف في حل الشد .

                                                                                                                                                                        قلت : ليس هو مثله . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا صارت الوديعة مضمونة على المودع بانتفاع أو إخراج من الحرز أو غيرهما من وجوه التقصير ، ثم ترك الخيانة ورد الوديعة إلى مكانها ، لم يبرأ ولم تعد أمانته . فلو ردها إلى المالك ثم أودعه ثانيا ، فلا شك في عود أمانته . فلو لم يردها ، بل أحدث له المالك استئمانا فقال : أذنت لك في حفظها ، أو أودعتكها ، أو استأمنتك ، أو أبرأتك من الضمان ، فوجهان . ويجوز أن يقال : قولان . أصحهما : يصير أمينا ويبرأ . ولو قال في الابتداء : أودعتك ، فإن خنت ثم تركت الخيانة ، عدت أمينا لي ، فخان ثم ترك الخيانة ، قال المتولي : لا يعود أمينا بلا خلاف لأنه إسقاط ما لم يجب ، وتعليق للوديعة .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : خذ هذه وديعة يوما ، وغير وديعة يوما ، فهو وديعة أبدا . ولو قال : [ ص: 336 ] وديعة يوما ، وعارية يوما ، فهو وديعة في اليوم الأول ، وعارية في اليوم الثاني ، ثم لا تعود وديعة أبدا ، حكاه الروياني في كتابه البحر عن اتفاق الأصحاب .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        إذا خلط الوديعة بمال نفسه ، وفقد التمييز ، ضمن ، وإن خلطها بمال آخر للمالك ، ضمن أيضا على الأصح ؛ لأنه خيانة . ولو أودعه دراهم فأنفق منها درهما ، ثم رد مثله إلى موضعه ، لا يبرأ من ضمانه ، ولا يملكه المالك إلا بالدفع إليه ، ثم إن كان المردود غير متميز عن الباقي ، صار الجميع مضمونا ، لخلطه الوديعة بمال نفسه . فإن تميز ، فالباقي غير مضمون ، وإن لم ينفق الدرهم المأخوذ ، ورده بعينه ، لم يبرأ من ضمان ذلك الدرهم ، ولا يصير الباقي مضمونا عليه إن تميز ذلك الدرهم عن غيره ، وإلا فوجهان . ويقال : قولان . أحدهما : يصير الباقي مضمونا لخلطه المضمون بغيره . وأصحهما : لا ؛ لأن هذا الخلط كان حاصلا قبل الأخذ . فعلى هذا ، لو كانت الجملة عشرة فتلفت ، لم يلزمه إلا درهم ، ولو تلفت خمسة ، لزمه نصف درهم . هذا كله إذا لم يكن على الدراهم ختم ولا قفل ، أو كان وقلنا : مجرد الفتح والفض لا يقتضي الضمان . أما إذا قلنا : يقتضيه وهو الأصح ، فبالفض والفتح يضمن الجميع .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        إذا أتلف بعض الوديعة ، ولم يكن له اتصال بالباقي ، كأحد الثوبين ، لم يضمن إلا المتلف . وإن كان له اتصال ، كتحريق الثوب ، وقطع طرف العبد والبهيمة ، نظر إن كان عاملا ، فهو جان على الكل ، فيضمن الجميع . وإن كان مخطئا ، ضمن المتلف ، ولا يضمن الباقي على الأصح .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية