الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 6394 ) فصل : قال أصحابنا : ولا سكنى للمتوفى عنها ، إذا كانت حائلا . رواية واحدة . وإن كانت حاملا ، فعلى روايتين . وللشافعي في سكنى المتوفى عنها قولان . وجه الوجوب قوله تعالى : { والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج } . فنسخ بعض المدة ، وبقي باقيها على الوجوب . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر فريعة بالسكنى في بيتها ، من غير استئذان الورثة ، ولو لم تجب السكنى ، لم يكن لها أن تسكن إلا بإذنهم ، كما أنها ليس لها أن تتصرف في شيء من مال زوجها بغير إذنهم .

                                                                                                                                            ولنا ، أن الله تعالى إنما جعل للزوجة ثمن التركة أو ربعها ، وجعل باقيها لسائر الورثة ، والمسكن من التركة ، فوجب أن لا يستحق منه أكثر من ذلك ; ولأنها بائن من زوجها ، فأشبهت المطلقة ثلاثا . وأما إذا كانت حاملا ، وقلنا : لها السكنى . فلأنها حامل من زوجها ، فوجب لها السكنى . قياسا على المطلقة .

                                                                                                                                            فأما الآية التي احتجوا بها ، فإنها منسوخة ، وأما أمر النبي صلى الله عليه وسلم فريعة بالسكنى ، فقضية في عين ، يحتمل أنه عليه السلام علم أن الوارث يأذن في ذلك ، أو يكون الأمر يدل على وجوب السكنى عليها ، ويتقيد ذلك بالإمكان ، وإذن الوارث من جملة ما يحصل الإمكان به ، فإذا قلنا لها السكنى فهي أحق بسكنى المسكن الذي كانت تسكنه من الورثة والغرماء ، من رأس مال المتوفى ، ولا يباع في دينه بيعا يمنعها السكنى ، فيه حتى تقضي العدة ، وبهذا قال مالك ، والشافعي ، وأبو حنيفة وجمهور العلماء ، وإن [ ص: 129 ] تعذر المسكن ، فعلى الوارث أن يكتري لها مسكنا من مال الميت ، فإن لم يفعل ، أجبره الحاكم ، وليس لها أن تنتقل من مسكنها إلا لعذر ، كما ذكرنا . وإن اتفق الوارث والمرأة على نقلها عنه ، لم يجز ; لأن هذه السكنى يتعلق بها حق الله تعالى ، لأنها تجب للعدة ، والعدة يتعلق بها حق الله تعالى ، فلم يجز اتفاقهما على إبطالها ، بخلاف سكنى النكاح ; فإنها حق لهما ; ولأن السكنى هاهنا من الإحداد ، فلم يجز الاتفاق على تركها ، كسائر خصال الإحداد .

                                                                                                                                            وليس لهم أن يخرجوها ، إلا أن تأتي بفاحشة مبينة . لقول الله تعالى : { لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة } . وهي أن تطول لسانها على أحمائها وتؤذيهم بالسب ونحوه . روي ذلك عن ابن عباس . وهو قول الأكثرين .

                                                                                                                                            وقال ابن مسعود ، والحسن : هي الزنى لقول الله تعالى : { واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم } . وإخراجهن هو الإخراج لإقامة حد الزنى ، ثم ترد إلى مكانها . ولنا أن الآية تقتضي الإخراج عن السكنى ، وهذا لا يتحقق فيما قالاه .

                                                                                                                                            وأما الفاحشة فهي اسم للزنى وغيره من الأقوال الفاحشة ، يقال : أفحش فلان في مقاله . ولهذا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه { قالت له عائشة : يا رسول الله ، قلت لفلان : بئس أخو العشيرة . فلما دخل ألنت له القول . فقال : يا عائشة ، إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش } . إذا ثبت هذا ، فإن الورثة يخرجونها عن ذلك المسكن ، إلى مسكن آخر من الدار إن كانت كبيرة تجمعهم ، فإن كانت لا تجمعهم ، أو لم يمكن نقلها إلى غيره في الدار ، ولم يتخلصوا من أذاها بذلك ، فلهم نقلها . وقال بعض أصحابنا : ينتقلون هم عنها ; لأن سكناها واجب في المكان ، وليس بواجب عليهم .

                                                                                                                                            والنص يدل على أنها تخرج ، فلا يعرج على ما خالفه ; ولأن الفاحشة منها ، فكان الإخراج لها . وإن كان أحماؤها هم الذين يؤذونها ، ويفحشون عليها ، نقلوا هم دونها ، فإنها لم تأت بفاحشة ، فلا تخرج بمقتضى النص ، ولأن الذنب لهم فيخصون بالإخراج . وإن كان المسكن لغير الميت فتبرع صاحبه بإسكانها فيه ، لزمها الاعتداد به ، وإن أبى أن يسكنها إلا بأجرة ، وجب بذلها من مال الميت ، إلا أن يتبرع إنسان ببذلها ، فيلزمها الاعتداد به ، فإن حولها صاحب المكان ، أو طلب أكثر من أجرة المثل ، فعلى الورثة إسكانها إن كان للميت تركة يستأجر لها به مسكن ; لأنه حق لها يقدم على الميراث ، فإن اختارت النقلة عن هذا المسكن الذي ينقلونها إليه ، فلها ذلك ; لأن سكناها به حق لها ، وليس بواجب عليها ، فإن المسكن الذي كان يجب عليها السكنى به ، هو الذي كانت تسكنه حين موت زوجها ، وقد سقطت عنها السكنى به ، وسواء كان المسكن الذي كانت به لأبويها ، أو لأحدهما ، أو لغيرهم .

                                                                                                                                            وإن كانت تسكن في دارها فاختارت الإقامة فيها ، والسكنى بها متبرعة أو بأجرة تأخذها من التركة ، جاز ، ويلزم الورثة بذل الأجرة إذا طلبتها ، وإن طلبت أن تسكنها غيرها ، وتنتقل عنها ، فلها ذلك ; لأنه ليس عليها أن تؤجر دارها ولا تعيرها ، وعليهم إسكانها .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية