( حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن أنبأنا ) وفي نسخة أخبرنا ( ، حدثنا معلى ) بضم ففتح فمشددة مفتوحة ( ابن أسد عبد العزيز بن المختار [ ص: 299 ] حدثنا ثابت عن أنس من رآني في المنام فقد رآني ) أي : في حقيقة المرام ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فإن الشيطان لا يتخيل بي ) أي : فلا تكون رؤياي عن أضغاث أحلام ، حكي أن أبا جمرة والمازري واليافعي وغيرهم عن جماعة من الصالحين أنهم رأوا النبي - صلى الله عليه وسلم - يقظة ، وذكر عن جمع أنهم حملوا على ذلك رواية فسيراني في اليقظة ، وأنهم رأوه نوما فرأوه يقظة بعد ذلك وسألوه عن تشويشهم في الأشياء ، فأخبرهم بوجوه تفريجها ، فكان ذلك بلا زيادة ، ولا نقصان ، وقد أشرنا إليه سابقا قال : ومنكر ذلك إن كان ممن يكذب بكرامات الأولياء فلا بحث معه ؛ لأنه مكذب بما أثبتته السنة ، وإلا فهذه منها إذ يكشف لهم بخرق العادة عن أشياء في العالم العلوي والسفلي ، وحكيت رؤيته - صلى الله عليه وسلم - كذلك عن الأماثل كالإمام عبد القادر الجيلي ، كما هو في عوارف المعارف ، والإمام أبي الحسن الشاذلي ، كما حكاه عنه التاج ابن عطاء الله ، وكصاحبه الإمام أبي العباس المرسي ، والإمام علي الوفائي ، والقطب القسطلاني ، والسيد نور الدين الإيجي ، وجرى على ذلك الغزالي فقال في كتابه المنقذ من الضلال : وهم يعني أرباب القلوب في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء ، ويسمعون منهم أصواتا ويقتبسون منهم فوائد انتهى . ابن أبي جمرة
وأنكر ذلك جماعة منهم الأهدل اليمني حيث قال : القول بذلك يدرك فساده بأوائل العقول ; لاستلزامه خروجه من قبره ، ومشيه في الأسواق ، ومخاطبته للناس ، ومخاطبتهم له ، وخلو قبره عن جسده المقدس ، فلا يبقى منه فيه شيء بحيث يزار مجرد القبر ، ويسلم على غائب ، وأشار كذلك القرطبي في الرد على القائل بأن الرائي له في المنام رأى حقيقة ، ثم يراه كذلك في اليقظة ، قال : وهذه جهالات ، ولا يقول بشيء منها من له أدنى مسكة من المعقول ، وملتزم شيء من ذلك مخبل مخبول . انتهى .
وهذه الإلزامات كلها ليس شيء منها بلازم لذلك ، ودعوى استلزامه لذلك عين الجهل أو العناد ، وبيانه أن رؤيته - صلى الله عليه وسلم - يقظة لا تستلزم خروجه من قبره ؛ لأن من كرامات الأولياء كما مر أن الله يخرق لهم الحجب فلا مانع عقلا ، ولا شرعا ، ولا عادة أن الولي وهو بأقصى المشرق أو المغرب يكرمه الله تعالى بأن لا يجعل بينه وبين الذات الشريفة ، وهي في محلها من القبر الشريف ساترا ولا حاجبا بأن يجعل تلك الحجب الذي يحكي ما وراءه وحينئذ فيمكن أن يكون الولي يقع نظره عليه عليه السلام ونحن نعلم أنه - صلى الله عليه وسلم - حي في قبره يصلي ، وإذا أكرم إنسان بوقوع بصره عليه ، فلا مانع من أن يكرم بمحادثته ومكالمته وسؤاله عن الأشياء وأنه يجيبه عنها ، وهذا كله غير منكر شرعا ، ولا عقلا ، وإذا كانت المقدمات والنتيجات غير منكرين عقلا ولا شرعا ، فإنكارهما أو إنكار أحدهما غير ملتفت إليه ، ولا معول عليه ، وبهذا يعلم أن ما ذكره القرطبي غير لازم أيضا ، كيف ، وقد مر القول بأن الرؤيا في النوم رؤية تحقيقية عن جماعة من الأئمة ، ومنهم أيضا صاحب فتح الباري فقال بعد ما مر عن كالزجاج ، وهذا مشكل جدا ، ولو حمل على الظاهر لكان [ ص: 300 ] هؤلاء صحابة ، ولأمكن بقاء الصحبة إلى يوم القيامة ، ويرد بأن الشرط في الصحابي أن يكون رآه في حياته حتى اختلفوا في من رآه بعد موته وقبل دفنه هل يسمى صحابيا أم لا ؟ على أن هذا أمر خارق للعادة ، والأمور التي كذلك لا يغير لأجلها القواعد الكلية ، ونوزع في ذلك أيضا بأنه لم يحك ذلك عن أحد من الصحابة ، ولا من بعدهم ، ولأن ابن أبي جمرة فاطمة اشتد حزنها عليه حتى ماتت كمدا بعد ستة أشهر ، وبيتها مجاور لضريحه الشريف ، ولم ينقل عنها رؤيتها تلك المدة انتهى .
ويرد أيضا بأن عدم نقله لا يدل على عدم وقوعه ، بل ، ولا عدم وقوعه على جواز تحققه فلا حجة في ذلك كما هو ظاهر مقرر في محله .
قال ابن حجر : وتأويل الأهدل وغيره ما وقع للأولياء من ذلك إنما هو في حال غيبته فيظنونها يقظة ، فيه إساءة ظن بهم ، حيث يشتبه عليهم رؤية الغيبة برؤية اليقظة ، وهذا لا يظن بأدون العقلاء ، فكيف بأكابر الأولياء .
قلت ليس هذا من باب إساءة الظن ، بل من باب التأويل الحسن جمعا بين المنقول والمشاهد والمعقول ، فإنه لو حمل على الحقيقة لكان يجب العمل بما سمعوا منه - صلى الله عليه وسلم - من أمر ونهي وإثبات ونفي ، ومن المعلوم أنه لا يجوز ذلك إجماعا كما لا يجوز بما وقع في حال المنام ، ولو كان الرائي من أكابر الأنام ، وقد صرح المازري بأن من رآه يأمر بقتل من يحرم قتله كان هذا من الصفات المتخيلة لا المرئية ، فيتعين أن يحمل هذه الرؤية أيضا على رؤية عالم المثال أو عالم الأرواح ، كما سبق تحقيقه عن الإمام حجة الإسلام ، وبعد حملنا على عالم المثال فيزول الإشكال على كل حال ، فإن الأولياء في عالم الدنيا مع ضيقها ، قد يحصل لهم أبدان مكتسبة وأجسام متعددة ، تتعلق حقيقة أرواحهم بكل واحد من الأبدان ، فيظهر كل في خلاف آخر من الأماكن والأزمان ، وحينئذ لا نقول بأن الرسول - صلى الله عليه وسلم - مضيق عليه في عالم البرزخ بكونه محصورا في قبره ، بل نقول إنه يجول في العالم السفلي والعالم العلوي ، فإن أرواح الشهداء مع أن مرتبتهم دون مرتبة الأنبياء إذا كانت في أجواف طير خضر تسرح في رياض الجنة ، ثم تعود إلى قنديل معلقة تحت العرش كما هو مقرر ، وفي محله محرر ، مع أنه لم يقل أحد أن قبورهم خالية عن أجسادهم ، وأرواحهم غير المتعلقة بأجسامهم ; لئلا يسمعوا سلام من يسلم عليهم ، وكذا ورد أن الأنبياء يلبون ويحجون ، فنبينا - صلى الله عليه وسلم - أولى بهذه الكرامات ، وأمته مكرمة بحصول خوارق العادات ، فيتعين تأويل الأهدل وغيره فتأمل .
ومن جملة تأويلاته فقوله في قول العارف أبي العباس المرسي لو حجب عني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - طرفة عين ما عددت نفسي مسلما بأن هذا فيه تجوز ، أي : لو حجب عني حجاب غفلة ولم يرد أنه يحجب عن الروح الشخصية طرفة عين ، فذلك مستحيل أي : عرفا وعادة ، إذ لا يعرف استمرار خارق العادة أصلا لا شرعا ، ولا عقلا ، فاندفع قول ابن حجر لا استحالة فيه بوجه أصلا ( قال ) أي : أنس كما هو الظاهر ، وإلا لقال : وقال لكنه موقوف في حكم المرفوع ، ولا يبعد أن يكون الضمير له - صلى الله عليه وسلم - استغناء عن التصريح بمقتضى التوضيح ( ورؤيا المؤمن ) [ ص: 301 ] أي : الكامل لرواية ، الرؤيا الحسنة من الرجل الصالح ( جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة ) والمراد : غالب رؤيا الصالحين ، وإلا فقد يرى الصالح الأضغاث نادرا لقلة تسلط الشيطان عليه ، كما أنه قد يرى غير الصالح أيضا الرؤية الحسنة ، ومما يدل على أن حديث الأصل موقوف عن البخاري أنس مرفوع عن غيره أن السيوطي قال في الجامع الصغير رواه أحمد والبخاري ومسلم عن أنس ، وهم وأبو داود عن والترمذي عبادة بن الصامت وأحمد والشيخان عن وابن ماجه ، ورواه أبي هريرة عن ابن ماجه أبي سعيد ، ولفظه ، ورواه رؤيا المسلم الصالح جزء من سبعين جزءا من النبوة الحكيم والترمذي عن والطبراني العباس ، ولفظه ، ورواه رؤيا المؤمن الصالح بشرى من الله ، وهي جزء من خمسين جزءا من النبوة الترمذي في جامعه عن أبي رزين بلفظ ، فاختلاف الروايات يدل على أن المراد بالأعداد إنما هو الكثرة لا التحديد بالأجزاء المعتبرة ، ولا يبعد أن يحمل على اختلاف أحوال الرائي أو الأزمنة والأمكنة ، وعلى كل فقد روى الطبراني والضياء عن عبادة بن الصامت مرفوعا رؤيا المؤمن كلام يكلم به العبد ربه في المنام ، والظاهر رفع العبد ، ولا يبعد نصبه ، بل هو الملائم لمقام المرام ، ثم قيل معناه أن الرؤيا جزء من أجزاء علم النبوة ، والنبوة غير باقية ، وعملها باق ، وهو بمعنى قوله - صلى الله عليه وسلم - ذهبت النبوة ولم يبق إلا المبشرات ; الرؤيا الصالحة ، والتعبير بالمبشرات للغالب وإلا فمن الرؤيا ما يكون من المنذرات ، ونظير ذلك قوله - صلى الله عليه وسلم - السمت الحسن والاقتصاد جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة أي : من أخلاق أهل النبوة ، وقيل معناه أنها تجيء على موافقة النبوة لا أنها جزء باق منها ، وقيل المراد من هذا العدد المخصوص الخصال الحميدة ، أي : كان للنبي - صلى الله عليه وسلم - ستة وأربعون خصلة ، والرؤيا الصالحة جزء منها ، ويؤيد هذا التوجيه الحديث الذي رواه أبو هريرة مرفوعا لم يبق من النبوة إلا المبشرات ، قالوا : وما المبشرات ؟ قال الرؤيا الصالحة يراها الرجل رؤيا المؤمن جزء من أربعين جزءا من النبوة المسلم أو ترى له أخرجه ، وقوله من الرجل في هذا وأمثاله لا مفهوم له اتفاقا ، فالمرأة كذلك ، فقيل كان زمان نزول الوحي ثلاثة وعشرين سنة البخاري الصادقة ستة أشهر ، فحينئذ كانت الرؤيا جزءا من ستة وأربعين جزءا من النبوة ، وقد زيف المحققون هذا القول ، وقالوا : ما حصر سني الوحي فإنه مما ورد به الروايات المعتد بها على اختلاف ذلك ، وأما كون زمان الرؤيا فيها ستة أشهر ، فشيء قدره هذا القائل في نفسه ولم يساعده النقل قال وكان - صلى الله عليه وسلم - في أول البعثة مؤيدا بالرؤيا الصالحة التوربشتي : وأرى الذاهبين إلى التأويلات التي ذكرناها قد هالهم القول بأن الرؤيا جزء من النبوة ، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - ذهبت النبوة ، ولا حرج على أحد في الأخذ بظاهر هذا القول فإن جزء النبوة لا يكون نبوة كما أن جزءا من الصلاة على الانفراد ، لا يكون صلاة ، وكذلك عمل من أعمال الحج ، وشعبة من شعب الإيمان ، وأما وجه تحديد الأجزاء [ ص: 302 ] بستة وأربعين ، فالأولى في ذلك أن يجتنب القول فيه ، ويتلقى بالتسليم ; لكونه من علوم النبوة التي لا تقابل بالاستنباط ، ولا يتعرض له بالقياس ، وذلك مثل ما قال في حديث في السمت الحسن والتؤدة والاقتصاد أنها جزء من أربعة وعشرين جزءا من النبوة ، وقلما يصيب مئول في حصر الأجزاء ، ولئن قيض له الإصابة في بعضها لما يشهد به بعض الأحاديث المستخرج منها لم يسلم لك في البقية ، والله أعلم ، ذكره عبد الله بن سرجس ميرك .
وأما قول مالك لما سئل أيعبر الرؤيا كل أحد ؟ فقال أبالنبوة تلعب ، ثم قال الرؤيا جزء من النبوة ، فليس مراده أنها نبوة باقية ، بل أنها لما أشبهتها من جهة الاطلاع على بعض الغيوب لا ينبغي أن يتكلم فيها بغير علم ، فلذلك الشبه سميت جزءا من النبوة ، ولا يلزم من إثبات الجزء لشيء إثبات الكل له ، كما مر تحقيقه .