الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( حدثنا هارون بن إسحاق الهمداني ) بسكون الميم ( حدثنا عبدة بن سليمان عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة ) وكذا روى عنها الشيخان وغيرهما مع بعض تخالف في المبنى لا يحصل به تغير في المعنى ( قالت : كان عاشوراء ) بالمد ويقصر ، وهو اليوم العاشر من المحرم ، وقيل أن يوم عاشوراء هو اسم إسلامي ليس في كلامهم فاعولاء بالمد غيره ، وقد ألحق به تاسوعاء في تاسع المحرم ، وقيل أن عاشوراء هو التاسع مأخوذ من العشر بالكسر في أوراد الإبل كذا في النهاية ، قال القرطبي : وعاشوراء معدول عن العاشرة للمبالغة والتعظيم وهو في الأصل صفة الليلة العاشرة ; لأنه مأخوذ من العشر الذي هو اسم للعقد ، واليوم مضاف إليها ، فإذا قيل يوم عاشوراء فكأنه قيل يوم الليلة العاشرة إلا أنهم لما عدلوا به عن الصفة غلبت عليه الاسمية فاستغنوا عن الموصوف فخفوا الليلة فساغ هذا اللفظ على اليوم العاشر ، وقال الطيبي : عاشوراء من باب الصفة التي لم يرو لها فعل ، والتقدير يوم مدته عاشوراء وصفته عاشوراء ، والحاصل أنه كان ( يوما يصومه قريش ) وهم أولاد النضر بن كنانة ، وقيل فهر بن مالك ( في الجاهلية ) أي : من قبل بعثته - صلى الله عليه وسلم - المشرفة بنعت الإسلامية ، ولعلهم كانوا تلقوه من أهل الكتاب ، ولذا كانوا يعظمونه أيضا بكسوة الكعبة ، وعن عكرمة أنه سئل عن ذلك ، فقال : أذنبت قريش ذنبا في الجاهلية فعظم في صدورهم فقيل لهم صوموا عاشوراء يكفر ذلك ، وقال القرطبي : لعل قريشا كانوا يستندون في صومه إلى شرع من مضى كإبراهيم ونوح ، فقد ورد في الأخبار أنه اليوم الذي استقرت فيه السفينة على الجودي فصامه نوح شكرا ( وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصومه ) يحتمل أن يكون موافقة لهم كما في الحج أو مصادفة لهم بإلهام الله تعالى بأن هذا فعل خير أو مطابقة لأهل الكتاب ندبا أو فرضا ( فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه ) أي : فصار فرضا كما قال أبو حنيفة : وأتباعه ; فإن الأصل في الأمر الوجوب اتفاقا .

وقد روى مسلم عن سلمة بن الأكوع أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث رجلا من أسلم يوم عاشوراء ، فأمره أن يؤذن في الناس من كان لم يصم ، فليصم ومن كان أكل فليتم صومه إلى الليل .

وهذا دليل صريح في وجوبه ، وأغرب ابن حجر في تأويل هذا الحديث بأنه لحرمة اليوم مع أن الحرمة إنما تناسب الوجوب ، وقال ميرك : هكذا وقع في حديث عائشة ، وفيه اختصار .

فقد أخرج الشيخان من حديث ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قدم المدينة وجد اليهود يصومون عاشوراء [ ص: 130 ] فسألهم عن ذلك فقالوا : هذا يوم أنجى الله فيه موسى ، وأغرق فيه فرعون وقومه فصامه شكرا فنحن نصومه فقال : نحن أحق بموسى منكم وأمر بصيامه .

استشكل رجوعه إليهم في ذلك .

وأجيب باحتمال أن يكون أوحي إليه بصدقهم أو بتواتر الخبر بذلك أو أخبر به من أسلم منهم أو باجتهاد منه ثم ليس في الخبر أنه ابتداء الأمر بصيامه بل في حديث عائشة هذا التصريح بأنه كان يصومه قبل ذلك فغاية ما في القصة أنه لم يحدث له بقول اليهود جديد حكم ; وإنما هي صفة حال وجواب سؤال ، فلا منافاة بينه ، وبين حديث عائشة أن أهل الجاهلية كانوا يصومونه إذ لا مانع من توارد الفريقين مع اختلاف السبب في ذلك ، وقال القاضي عياض : يحتمل أن يكون صيامه - صلى الله عليه وسلم - استئلافا لليهود كما استألفهم باستقبال قبلتهم ، وبالسبت وغير ذلك ، وعلى كل حال فلم يصح اقتداؤه بهم ; فإنه كان يصومه قبل ذلك في الوقت الذي يحب فيه موافقة أهل الكتاب فيما لم ينه عنه فلما فتحت مكة ، وشهر أمر الإسلام أحب مخالفة أهل الكتاب كما ثبت في الصحيح ، فهذا من ذلك فوافقهم أولا ، وقال : نحن أحق منكم بموسى عليه السلام فلما أحب مخالفتهم قال : في آخر حياته لئن بقيت إلى قابل لأصومن التاسع قال بعض العلماء : وهذا يحتمل أمرين أحدهما أنه أراد نقل العاشر ، وهذا هو الراجح ، ويشعر به بعض روايات مسلم ولأحمد من حديث ابن عباس مرفوعا صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا اليهود ، وصوموا يوما بعده ، ولذا قال بعض المحققين : صيام يوم عاشوراء على ثلاث مراتب أدناها أن يصام وحده ، وفوقه أن يصام التاسع معه ، وفوقه أن يصام التاسع والحادي عشر معه والله أعلم ( فلما افترض رمضان ) بصيغة المجهول أي : جعل صومه فرضا ( كان رمضان هو الفريضة ) يعني صارت الفريضة منحصرة في رمضان ; فإن تعريف المسند مع ضمير الفصل يفيد قصر المسند على المسند إليه ( وترك عاشوراء ) بصيغة المجهول أي : نسخ الأمر للوجوب بصيامه ( فمن شاء صامه ) أي : ندبا ( ومن شاء تركه ) ; فإنه لا حرج عليه ، وروى الشيخان عن عمر أنهم كانوا يصومونه ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - قال : إن عاشوراء يوم من أيام الله ، فمن شاء فليصم قال العلماء : لا شك أن قدومه - صلى الله عليه وسلم - المدينة كان في ربيع الأول ، وفرض رمضان في شعبان من السنة الثانية ، فعلى هذا لم يقع الأمر بصوم عاشوراء إلا في سنة واحدة ثم فوض الأمر في صومه إلى رأي المتطوع ، واختلف في أنه هل فرض على هذه الأمة صيام قبل رمضان أولا فالمشهور عند الشافعية هو الثاني ، والحنفية على أن أول ما فرض عاشوراء فلما فرض رمضان نسخ كما يدل عليه ظاهر الحديث السابق .

وقال صاحب السير فرض على هذه الأمة أولا صوم عاشوراء ثم نسخ فريضته بصيام أيام البيض من كل شهر ثم نسخ ذلك بصوم رمضان على اختيار الإفطار بالأعذار ثم يحتم عليهم صوم رمضان ، وحل الإفطار إلى العشاء ثم حل إلى الصبح .

وفي الوسيط أنه كان في ابتداء الإسلام صوم ثلاثة أيام من كل شهر واجبا ، وصوم عاشوراء ، فصاموا لذلك ثم نسخ برمضان [ ص: 131 ] وقال الحافظ العسقلاني : يؤخذ من مجموع الأحاديث أنه كان واجبا لثبوت الأمر بصومه ثم زيادة التأكيد بالنداء العام ثم زيادته بأمر من أكل بالإمساك ثم زيادته بأمر الأمهات أن لا يرضعن فيه الأطفال ، وبقول عائشة ، وابن عباس لما فرض رمضان ترك عاشوراء مع العلم بأنه ما ترك استحبابه بل هو باق على أن المتروك وجوبه ، وأما قول بعضهم أي : من الشافعية وغيرهم أن المتروك تأكيد استحبابه ، والباقي مطلق استحبابه ، فلا يخفى ضعفه بل تأكيد استحبابه باق ، ولا سيما مع استحباب الاتصاف به حتى عام وفاته ، والترغيب في صومه وأنه يكفر السنة الآتية فأي تأكيد أبلغ من هذا والله أعلم انتهى كلامه رحمه الله .

وهو مقرون بغاية التحقيق ، والتدقيق ، ونهاية الاتصاف بالإنصاف مع التوفيق .

وتعقبه ابن حجر المكي بما تمجه الأسماع ، وتنفر عنه الطباع ، ولذا أعرضت عن ذكرها ، وصرفت الخاطر عن فكرها هذا ، وقد جاء في مسلم عن ابن عباس أنه قال لسائله عن صومه إذا رأيت هلال المحرم فاعدد وأصبح يوم التاسع صائما ، فقال له هكذا كان محمد - صلى الله عليه وسلم - يصومه ، وقال : نعم وظاهره أن عاشوراء هو تاسع المحرم أخذا من إطماء الإبل ; فإن العرب تسمي اليوم الخامس من يوم الورود رابعا ، وهكذا فيؤول قوله صائما بكونه مريدا للصوم ليطابق ما في رواية أخرى عنه إذا أصبحت من تاسعه فأصبح صائما إذ لا يصبح صائما بعد ما أصبح تاسعه إلا إذا نوى الصوم في الليلة المقبلة ، وهي ليلة العاشر أو يحمل قوله كان - صلى الله عليه وسلم - يصومه على أنه كان يريد أن يصومه ليوافق ما في الصحيح من أنه - صلى الله عليه وسلم - لما صام عاشوراء فقالوا : يا رسول الله يوم يعظمه اليهود ، والنصارى فقال : إذا كان العام المقبل إن شاء الله صمنا اليوم التاسع قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي - صلى الله عليه وسلم - .

ثم جاء في مسلم أن صوم يوم عاشوراء يكفر سنة ، وصوم يوم عرفة يكفر سنتين قيل ، وحكمته أنه منسوب لموسى وعرفة منسوب للنبي - صلى الله عليه وسلم - .

وقد ورد من وسع على عياله يوم عاشوراء وسع الله عليه السنة كلها ، وله طرق قال البيهقي : أسانيدها كلها ضعيفة ، ولكن إذا انضم بعضها إلى بعض أفاد قوة ، وصحح الحافظ ابن ناصر بعضها ، وأقره الزين العراقي قال : وهو حسن عند ابن حبان ، وله طرق أخرى على شرط مسلم ، وهي أصح طرقه ، فقول ابن الجوزي أنه موضوع ليس في محله على أن العمل بالضعيف في الفضائل جائز إجماعا ، وأما ما وراء الصوم والتوسيع في الأمور العشرة المشهورة موضوع ، ومفترى وقد قال بعض أئمة الحديث : أن الاكتحال فيه بدعة ابتدعها قتلة الحسين رضي الله عنه لكن ذكر الحافظ السيوطي في جامعه الصغير من اكتحل بالإثمد يوم عاشوراء لم يرمد أبدا رواه البيهقي بسند ضعيف عن ابن عباس .

التالي السابق


الخدمات العلمية