الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثاني: أهمية العلم والتعلم عند ابن باديس

أدرك الإمام ابن باديس أهمية العلم والتعليم بالنسبة للمسلمين عامة، وللأمة الجزائرية التي حوربت في دينها ولغتها وشخصيتها خاصة، فوجه جل اهتمامه لنشره، ذلك لأن العلم الصحيح المبني على العقيدة السليمة، هـو وحده السبيل إلى سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، فقد اعتنى -فيمـا أثر عنه- بتوضيـح معنـى العلـم، وأنواعـه، وأهميتـه، [ ص: 109 ] ووجوب طلبه، وطرق تحصيله، معتمدا في ذلك على الآيات القرآنية الصريحة والأحاديث النبوية الصحيحة.

يقول تعالى: ( شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم ) (آل عمران:18) .

وسنعرض في هـذا المبحث بعض آراء الشيخ ابن باديس حول العلم والتعلم من الجانب النظري، على أن نتطرق إلى الجوانب العملية في الفصلين القادمين.

العلـم

يعرف ابن باديس العلم بأنه: (إدراك جازم مطابق للواقع عن بينة، سواء كانت تلك البينة حسا ومشاهدة، أو برهانا عقليا كدلالة الأثر على المؤثر، والصنعة على الصانع، فإذا لم تبلغ البينة بالإدراك رتبة الجزم فهو ظن، هـذا هـو الأصل.. ويطلق العلم أيضا على ما يكاد يقارب الجزم، ويضعف فيه احتمال النقيض جدا، كما قال تعالى عن إخوة يوسف عليه السلام : ( وما شهدنا إلا بما علمنا وما كنا للغيب حافظين ) (يوسف:81) . فسمى القرآن إدراكهم لما شاهدوا: علما [1] .

ويبسط هـذا التعريف فيقـول: (إن العلـم هـو إدراك أمـر على وجـه لا يحتمل أن يكون ذلك الأمر على وجه من الوجوه سواه، وهو عام، ويليه الظن، وهو إدراك أمر على وجه هـو أرجح الوجوه المحتملة، وهو [ ص: 110 ] معتبر عندما تتبين قوة رجحانه فيما لا يمكن فيه إلا ذاك، وهذه هـي الحالة التي يطلق عليه فيها لفظ العلم مجازا [2] )

أهمية العلم عند ابن باديس

إن شرف العلم وفضله لا يخفيان على عامة الناس، فضلا عن العلماء، إذ هـو الذي خص الله به الإنسانية دون سواها من الحيوانات، وبه أظهر الله تعالى فضل آدم عليه السلام على الملائكة، وأمرهم بالسجود له. وإنما شرف العلم لكونه وسيلة إلى التقوى، التي يستأهل بها المرء الكرامة عند الله والسعادة الدائمة، ذلك لأن العلم مع الإيمان، رفعة في الحياة الدنيا وفي الآخرة.

يقول الله تعالى: ( يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ) (المجادلة:11) .. ويقـول تعـالى: ( إنما يخشى الله من عباده العلماء ) (فاطر:28) .

وفي هـذا ( يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين. ) [3] . فالعلم هـو الطريق إلى خشية الله وعبادته، كما يحب أن يعبد، (فهو الأصل الذي تنبني عليه سعادة الدنيا والأخرى، وأنه هـو الأساس لكل أمر من أمور الدين والدنيا) [4] .

ويرى ابن باديس أن البشرية بدون علم، تعود إلى حيوانيتها، ذلك [ ص: 111 ] لأن (الإنسان خاصيته التفكير في أفق العلم الواسع الرحيب، فمن حرم إنسانا -فردا أو جماعة- من العلم، فقد حرمه من خصوصيته الإنسانية، وحوله إلى عيشة العجماوات، وذلك نوع من المسخ) [5] .

ويذهب ابن باديس إلى أن العلم هـو حياة القلوب وإمام العمل، وإنما العمل تابع له، فهو وحده الإمام المتبع في الأقوال والأفعال والاعتقادات، فمن دخل في العمل بغير علم، لا يأمن على نفسه من الضلال، ولا على عبادته من الفساد والاختلال [6] .

.

(فسلوك الإنسان في حياته، مرتبط بتفكيره ارتباطا وثيقا، يستقيم باستقامته، ويعوج باعوجاجه، ويثمر بإثماره، ويعقم بعقمه، لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات، واعتقاداته ثمرة إدراكه الحاصل من تفكيره ونظره) [7] .

ولا يتأتى ذلك العلم والنظر إلا بالتعلم وبذل الجهد في ذلك، يقول تعالى: ( الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان * علمه البيان ) (الرحمـن:1-4) .

ويقـول تـعـالى: ( اقرأ باسم ربك الذي خلق * خلق الإنسان من علق * اقرأ وربك الأكرم * الذي علم بالقلم * علم الإنسان ما لم يعلم ) (العلق:1-5) .

ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنما بعثت معلما ) [8] .. فالتعلم هـو الطريق [ ص: 112 ] الصحيـح لاكتسـاب العلـوم والمعـارف: ( فاسألوا أهـل الذكـر إن كنتم لا تعلمون ) (الأنبياء:7) ..

ويكفي العلم شرفا أن العلماء ورثة الأنبياء، وفي هـذا يقول ابن باديس: (لا حياة إلا بالعلم، وإنما العلم بالتعلم، فلن يكون عالما إلا من كان متعلما، كما لن يصلح معلما إلا من قد كان متعلما، ومحمد صلى الله عليه وسلم

الذي بعثه الله معلما، كان أيضا متعلما، علمه الله بلسان جبريل ، فكان متعلما عن جبريل عن رب العالمين، ثم كان معلما للناس أجمعين.

أرأيت أصل العلم، ومن معلموه ومتعلموه ؟ ثم أرأيت شرف رتبة العلم والتعليم؟ لا جرم كان لرتبة التعلم آدابها، ولرتبة التعليم آدابها، وكان محمد صلى الله عليه وسلم

أكمل الخلق في آدابهما، بما أدبه الله وأنزل عليه من الآيات فيهما) [9] .

وللإمام ابن باديس في طلب العلم وآدابه، ومسئولية العلماء في نشره، مواقف سنعرض لها في المبحث القادم إن شاء الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية