الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الرابع : مكانة ابن باديس العلمية

أ- الجهود العملية التي قام بها ابن باديس

1- التدريس : لقد بدأ ابن باديس التدريس في جامع الزيتونة بعد تخرجه منه، حيث جرت العادة أن يدرس النبغاء من الطلبة سنة في الجامعة بعد إنهاء دراستهم فيها، وكان ذلك خلال سنة 1911-1912م، وأثناء إقامته بالمدينة المنورة ألقى فيها دروسا عديدة في المسجد النبوي الشريف [1] وبعد عودته إلى الجزائر، استأنف ابن باديس الدروس التي كان يلقيها في الجزائر قبل رحلته إلى الحجاز، وعن ذلك يقول: (ابتدأت القراءة بقسنطينة بدراسة الشفاء للقاضي عياض بالجامع الكبير، حتى بدا لمفتي قسنطينة الشيخ ابن الموهوب، أن يمنعنا فمنعنا، فطلبنا الإذن من الحكومة بالتدريس في الجامع الأخضر فأذنت لنا...) [2] وقد كان رحمه الله مدرسا متطوعا مكتفيا بالإذن له في التعليم [3] [ ص: 75 ] ولم يكتف بتعليم الكبار في المساجد فحسب، بل كان يهتم أيضا بالناشئة الصغار، وعن ذلك يقول: (فلما يسر الله لي الانتصاب للتعليم سنة 1332هـ، جعلت من جملة دروسي، تعليم صغار الكتاتيب القرآنية بعد خروجهم منها إلى آخر الصبيحة وآخر العشية، فكان ذلك أول عهد الناس بتعليم الصغار...) [4] وقد تفرغ الإمام ابن باديس للتعليم، حتى لم يبق له من الشغل سواه [5] ، واستمر يحيي دوارس العلم بدروسه الحية، مفسرا لكلام الله، على الطريقة السلفية، في مجالس انتظمت حوالي ربع قرن، ولم يحد ابن باديس عن هـذه الطريق إلى أن وافاه قدره المحتوم فالتحق بالحي القيوم.

2- الإفتاء : بدأ ابن باديس الفتوى مع انتصابه للتدريس، إلا أن هـذا الأمر توسع واشتهر عند قيام الصحافة الإصلاحية، فكانت الأسئلة الفقهية ترد عليه من كـافة عمـالات القطر، فيجيب عليها في صفحـات الشهاب، والبصـائر، وكـانت تدور حـول العقـائـد والعبـادات والمعامـلات، ومـن أشهـر فتاوى ابن باديس، تلك المتعلقة بالتجنيس، حيث يقول فيها: التجنس بجنسية غير إسلامية يقتضي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكما واحدا من أحكام الشريعة عد مرتدا بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع [6] [ ص: 76 ]

وللإمام ابن باديس فتاوى كثيرة حول ما كان شائعا من بدع وانحرافات في زمانه، كانت محل استحسان من علماء عصره [7] وعلى العموم فقد كانت تلك الفتاوى، أحد وسائل ابن باديس التي وجه بها الجزائريين إلى القرآن والسنة، وصرفهم بها عن البدع التي أدخلت على الدين، والمنكرات التي ارتكبت باسمه.

3- ابن باديس والسياسة : رغم انشغال ابن باديس بالتعليم والتفرغ له، إلا أنه كان ممن لا يهابون الخوض في أمور السياسة، منطلقا في ذلك من نظرته الشاملة للإسلام الذي لا يفرق بين السياسة والعلم، وحول هـذه المسألة يقول: (وقد يرى بعضهم أن هـذا الباب صعب الدخول، لأنهم تعودوا من العلماء الاقتصار على العلم والابتعاد عن مسالك السياسة، مع أنه لا بد لنا من الجمع بين السياسـة والعلم، ولا ينهض العلم والدين حق النهوض، إلا إذا نهضت السياسة بجد) [8] ، ومع أن القانون الأساس لجمعية العلماء ينص على عدم اشتغال هـذه الأخيرة بالأمور السياسية، إلا أنها تركت المجال مفتوحا أمام أعضائها للخوض في هـذا الميدان بصفتهم الشخصية، وكان فارس الميدان في ذلك رئيسها، الإمام ابن باديس الذي كانت له مواقف ثابتة تجاه ما يجري في الجزائر وفي العالم الإسلامي من أحداث وتطورات [9] [ ص: 77 ]

ومن مواقفه المشهورة في هـذا المجال، دعوته إلى عقد مؤتمر إسلامي في الجزائر للحيلولة دون تنفيذ مؤامرة إدماج الشعب الجزائري المسلم، في الأمة الفرنسية النصرانية، التي كان ينادي بها بعض النواب، ورجال السياسة الموالين لفرنسا، ورغم أن غالبية الذين حضروا هـذا المؤتمر كانوا من أنصار سياسة الإدماج، إلا أن ابن باديس ورفاقه استطاعوا توجيه قراراته، للاعتراف بالشخصية العربية الإسلامية للجزائر [10] ولما لاحت نذر الحرب العالمية الثانية سنة 1939م، سعت فرنسا إلى كسب تأييد مختلف الجماعات السياسية في الجزائر، فأبدى الخاضعون لسلطانها تأييدهم ومساندتهم لها، ولما عرض هـذا الأمر على جمعية العلماء رفضته بأغلبية أعضائها، عندها قال ابن باديس: لو كانت الأغلبية في جانب موالاة فرنسا، لاستقلت من رئاسة جمعية العلمـاء، وأنه لن يوقع على برقية التأييد ولو قطعوا رأسه [11] .. وكان ابن باديس يرى ضرورة العمل من أجل الاستقلال والتضحية في سبيل ذلك، وأن الحرية لا تعطى ولا توهب، بل سجل التاريخ أنها تؤخذ وتنتزع، وفي هـذا الصدد يقول:

قلب صفحات التاريخ العالمي، وانظر في ذلك السجل الأمين، هـل تجد أمة غلبت على أمرها، ونكبت بالاحتلال، ورزئت في الاستقلال، ثم نالت حريتها منحة من الغاصب، وتنازلا من المستبد، ومنة من المستعبد ؟ [ ص: 78 ] اللهم كلا... فما عهدنا الحرية تعطى، إنما عهدنا الحرية تؤخذ.. وما عهدنا الاستقلال يـمنح ويوهب، إنما علمنا الاستقلال ينال بالجهاد والاستماتة والتضحية.. وما رأينا التاريخ يسجل بين دفتي حوادثه خيبة للمجاهد، إنما رأيناه يسجل خيبة للمستجدي) [12] وروي أنه قبيل وفاته -رحمه الله- صرح في اجتماع خاص قائلا: (والله لو وجدت عشرة من عقلاء الأمة الجزائرية يوافقوني على إعلان الثورة، لأعلنتها) [13] وتظهر مواقف ابن باديس السياسية في المقالات المتعددة التي ضمنها جرائد ومجلات الجمعية، والتي تناول فيها ما يجري على الساحة العربية والإسلامية من أحداث.

كما تظهر مواقفه كذلك في البرقيات العديدة التي بعث بها إلى جهات إسلامية وأخرى أجنبية، يوضح فيها موقف الجمعية من مختلف الأحداث، خاصة مسألة الخلافة الإسلامية، وقضية تقسيم فلسطين.

التالي السابق


الخدمات العلمية