الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثالث : جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

كما مر معنا، فقد بذلت جهود كبيرة لتجميع وحشد القوى والطاقات تحت راية واحدة، لمواجهة التحديات والأخطار المحدقة بالأمة، مع ذلك فقد تضافرت ظروف عديدة وعوامل كثيرة، ساهمت جميعها في إظهار (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين) إلى الوجود، نذكر منها ما يلي: [ ص: 93 ]

- الظروف التي نشأت فيها الجمعية

أ - مرور قـرن كامـل علـى الاحتـلال الفرنسي للجـزائـر، واحتفـال الفرنسيين بذلك، استفزازا للأمة، وإظهارا للروح الصليبية الحاقدة التي يضمرونها للإسلام والمسلمين.

ب - التحضير للمؤتمر الإسلامي الذي عقد في القدس برئاسة الحاج أمين الحسيني [1] ، في ديسمبر 1931م، [2] الذي كان هـدفه توحيد الصف الإسلامي بعد سقوط الخلافة الإسلامية. في تلك الظروف المفعمة بالتحديات، ظهرت جمعية العلماء للوجود.

2 - العوامل التي ساعدت على ظهور الجمعية

أ - تسرب الدعوات الإصلاحية المشرقية عن طريق الصحافة.

ب - الثورة التعليمية التي أحدثها الشيـخ عبد الحميـد بن بـاديـس بدروسه الحية ومنهجه التربوي القويم، والتعاليم الإسلامية الحقة التي كان يبثها في نفوس مريديه.

جـ - التغييـر الفكـري الـذي ظهـر بعد الحـرب العالميـة الأولى، حين سقطت أقنعة المشعوذين، الذين أماتوا على الأمة دينها بخرافاتهم وبدعهم، وتسلطهم على الأرواح والأبدان باسم الدين. [ ص: 94 ]

د - عودة فئة من أبناء الجزائر الذين درسوا في الحجاز وبلاد الشرق، متشربين الأفكار الإصلاحية الناضجة المتخمرة [3]

نشأة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين

تجدر الإشارة هـنا إلى أنه في سنة 1927م، تم تأسيس (نادي الترقي) في مدينة الجزائر، بجهود بعض رجالاتها، وكان من أهدافه تثقيف مسلمي الجزائر، وإعانة الفقراء، وقد استدعى مؤسسو هـذا النادي، الشيخ (الطيب العقبي) [4] ليقـوم فيه بالوعـظ والإرشـاد على غـرار ما يقـوم به الشيخ عبد الحميد بن باديس في قسنطينة [5] وقد ألقى ابن باديس فيه محاضرة عند افتتاحه، واستمر يتعهده بالمحاضرات ودروس التفسير كلما حل بالعاصمة.. وكان لهذا النادي شرف احتضان الجلسات التمهيدية لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، قبل أن يصبح مقرها الرئيس في العاصمة.

في هـذه الظروف المشحونة بالتحدي والاستفزاز من قبل المستعمر من جهة، وإحساس الأمة الجزائرية -التي دب فيها دبيب الحياة- بسوء الحال التي هـي عليها، وشعورها بلزوم إصلاح عام يشمل الدين والعلم والاجتماع، من جهة أخرى... في هـذه الظروف ظهرت جمعية العلماء [ ص: 95 ] المسلمين الجزائريين رسميا للوجود، في 5 مايو سنة 1931م، وقد انتخب أعضاؤها: الشيخ عبد الحميد بن باديس بالإجماع رئيسا لها، في غيابه، والشيخ محمد البشير الإبراهيمي نائبا له.

وكان المجلس الإداري الأول للجمعية غير منسجم، لمكان العجلة والتسامح، فكان من بين أعضائه أولو بقية يخضعون للزوايا وأصحابها، رغبا ورهبا، كما ذكر ذلك الشيخ الإبراهيمي [6] ، إلا أن المناصب الرئيسة فيه كانت من نصيب علماء الإصلاح.

أهداف جمعية العلماء

لقد كان ابن باديس ورفاقه أعضاء جمعية العلماء، من الحصافة بمكان، حيث أبدوا أشياء وأضمروا أخرى، مكتفين في تصريحاتهم الرسمية بإعلان الدعوة إلى الإصلاح الديني والتعليمي حذرا. فقد جاء على لسان رئيسها: (أن الجمعية يجب أن لا تكون إلا جمعية هـداية وإرشاد، لترقية الشعب من وهدة الجهل والسقوط الأخلاقي، إلى أوج العلم ومكارم الأخلاق، في نطاق دينها الذهبي وبهداية نبيها الأمي، الذي بعث ليتمم مكارم الأخلاق، عليه وآله الصلاة والسلام، ولا يجوز بحال أن يكون لها بالسياسة وكل ما يتصل بالسياسة أدنى اتصال، بعيدة عن التفريق وأسباب التفريق...) [7] [ ص: 96 ]

ويضيف ابن باديس قائلا: (إن المسلمين هـم السواد الأعظم في وطنهم، فإذا تثقفوا بالعلم، وتحلوا بالآداب، وأشربوا حب العمل، وانبعثت فيهم روح النشاط، كان منهم كل خير لهذا الوطن وسكانه على العموم، بما يسر به الحاكم والمحكوم) [8] .

ويختصر لنا الشيخ محمد البشير الإبراهيمي مهمة الجمعية بقوله: (إن المهمة التي تقوم جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بأدائها، وهي السير بهذه الأمة إلى الحياة عن طريق العلم والدين، هـي أقوم الطرق وأمثلها وأوفقها لمزاج الأمة...) [9] .

والحقيقة أن جمعية العلماء المسلمين، أدركت بوضوح أن العلة في بقاء الاستعمار جاثما على صدر الأمة دهرا طويلا، تكمـن في ما يسمى بالقابلية للاستعمار، والتي مردها إلى ما طرأ على الشعب من انحراف في عقيدته وفكره، وأن العلاج الصحيح يتمثل في إزالة تلك العلة من أساسها، وهو ما يعبر عنه الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله، بقوله: (إن القضية عندنا منوطة أولا بتخلصنا مما يستغله الاستعمار في أنفسنا من استعداد لخدمته) [10] . أو كما قال أحد الصالحين: (أخرجوا المستعمر من أنفسكم يخرج من أرضكم) . وذلك مصداقا لقول الحق تبارك وتعالى: [ ص: 97 ] ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) (الرعد:11) .

ويمكننا القول: بأن الجمعية ركزت في مراحلها الأولى على الأهداف التالية:

1 - إصلاح عقيدة الشعب الجزائري، وتنقيتها من الخرافات والبدع، وتطهيرها من مظاهر التخاذل والتواكل التي تغذيها الطرق الصوفية المنحرفة.

2 - محاربة الجهل بتثقيف العقول، والرجـوع بها إلى القـرآن والسنـة الصحيحة، عن طريق التربية والتعليم.

3 - المحافظة على الشخصيـة العربيـة الإسلاميـة للشعـب الجزائـري، بمقاومة سياسة التنصير والفرنسة التي تتبعها سلطات الاحتلال.

والشيء الذي تجدر الإشارة إليه في هـذا المجال، هـو أنه رغم أن الفصل الثالث من القانون الأساس للجمعية، يحرم عليها الخوض في المسائل السياسية، إلا أن هـذه الأخيرة قد تركت لأعضائها كامل الحرية للخوض في السياسة، بصفتهم الشخصية لا بوصفهم أعضاء فيها، حفاظا على كيان الجمعية واستمرار مسيرتها [11] . [ ص: 98 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية