الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الثاني : إصلاح التعليم في جامع الزيتونة

الحقيقة أننا حين نستحضر الجهود التي بذلها الشيخ ابن باديس في مجال إصلاح المناهج التربوية، ندرك بوضوح شمول نظرته، وصدق إحساسه بمواضع الداء.

وهو إذ يصب جل جهوده نحو ترشيد التعليم في الجزائر، فهو يسعى كذلك إلى إصلاحه في غيرها من المدارس والمعاهد، ولا أدل على ذلك من اهتمامه الـملح بإصلاح التعليم في جامع الزيتونة. هـذا الجامع هـو عبارة عن كلية دينية يتخرج منها رجال القضاء والفتوى، ورجال الإمامة والخطابة ورجال التعليم.

واهتمام ابن باديس البالغ بهذا القطاع، نابع من اعتقاده بأن صلاح المسلمين بصلاح علمائهم، وأن (العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسـد كله... ولن يصلـح العلمـاء إلا إذا صلح تعليمهم، فالتعليم هـو الذي يطبع المعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته) [1] .

ومن خلال مقالات ابن باديس العديدة حول حالة التعليم في جامع الزيتونة، يتضح مدى التدهور الذي كان يعانيه ذلك القطاع في مناهجه ووسائله، من ذلك قوله: (قد حصلنا على شهادة العالمية من جامع الزيتونة، [ ص: 140 ] ونحن لم ندرس آية واحدة من كتاب الله، ولم يكن عندنا أي شوق أو أدنى رغبة في ذلك، ومن أين يكون لنا هـذا ونحن لم نسمع من شيوخنا يوما منزلة القرآن من تعلـم الدين والتفقه فيـه، ولا منزلة السنة النبوية من ذلك، هـذا في جامع الزيتونـة، فـدع عنك الحديث عن غيـره مما هـو دونه بمديد المراحل) [2] .

والذي جعل البرامج في هـذا الجامع قاصرة عن أداء رسالتها، هـو عدم اتزانها، فكثر جمودها وقلت فائدتها.

ومن المعروف عند أهل العلم، أن العلوم منها ما هـي مقصودة بالذات كالتفسير والحديث والفقه، وأخرى آلية -وسيلة لتلك العلوم- كالعربية والحساب والمنطق. (فأما العلوم التي هـي مقاصد، فلا حرج في توسعة الكلام فيها، وتفريع المسائل، فإن ذلك يزيد طالبها تمكنا في ملكته، وإيضاحا لمعانيها المقصودة.. أما العلوم التي هـي آلة لغيرها... فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هـي آلة لذلك الغير فقط) [3] .

غير أن الواقع في جامع الزيتونة، هـو التوسع في العلوم الآلية، والإفراط في ذلك إلى درجة الابتعاد عن الغرض منها، وإعاقة تحصيل العلوم المقصودة لذاتها، فيخرج الطالب ولم يحصل من ذلك على شيء.. ويصف لنا ابن باديس استفحال ذلك الانحراف، فيقول: (وفي جامع الزيتونة عمره الله تعالى، إذا حضر الطالب بعد تحصيل التطويع [4] . [ ص: 141 ] في درس التفسير -ويا للمصيبة- يقع في خصومات لفظية... في القواعد التي كان يحسب أنه فرغ منها من قبل، فيقضي في خصومة من الخصومـات أياما وشهـورا، فتنتهي السنـة، وهو لايـزال حيث ابتـدأ أو ما تجاوزه إلا قليلا، دون أن يحصل على شيء من حقيقة التفسير، وإنما قضى سنته في المماحكات [5] ، بدعوى أنها تطبيقات للقواعد على الآيات، كأن التفسير إنما يقرأ لأجل تطبيق القواعد الآلية، لا لأجل فهم الشرائع والأحكام الإلهية، فهذا هـجر آخر للقرآن مع أن أصحابه يحسبون أنفسهم أنهم في خدمة القرآن) [6] هذه الأمور وغيرها مما يحدث في جامع الزيتونة، جعل ابن باديس يتقدم باقتراح شامل لإصلاح البرامج فيه، نلخصها في ما يلي:

* تقسيم المراحل الدراسية إلى مرحلتين:

أ - مرحلة المشاركة: أو ما يسمى في بعض الجامعات بالقسم العام أو الجذع المشترك، حيث يتساوى فيه المتعلمون في المعلومات، على اختلاف مقاصدهم، وأن لا تقل مدة الدراسة في هـذا القسم عن ثماني سنوات، يتعلم خلالها الطلبة:

1 - فنون اللغة العربية، وتاريخ الأدب العربي.

2 - العقائد الإسلامية، وأن تؤخذ من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية.

3 - الفقه، بحيث يقتصر فيه على تقرير المسائل دون تشعباتها. [ ص: 142 ]

4 - تفسير القرآن العظيم، من تفسير الجلالين.

5 - الحديث النبوي، بدراسة مختارات من كتب السنة.

6 - التربية الأخلاقية، من الآيات والأحاديث وآثار السلف الصالح.

7 - الحساب والجغرافيا ومبادئ الطبيعة والفلك والهندسة.

ب - مرحلة التخصص: لـما كان المتخرجون من الجامعة الزيتونية على ثلاثة أصناف حسبما يتصدرون إليه بعد تخرجـهم، رأى ابن باديس أن يفرع قسم التخصص إلى ثلاثة فروع:

1 - فرع للتخصص في القضاء والإفتاء، على أن لا تقل مدة الدراسة فيه عن أربع سنوات، يدرس خلالها الطلبة ما يلي:

- يتوسع لهم في فقه المذهب، ثم في الفقه العام، ويكون كتاب (بداية المجتهد) من الكتب التي يدرسونها.

- دراسة آيات وأحاديث الأحكام، ودراسة علم التوثيق، والتوسع في علم الفرائض والحساب، ويطلعون على مدارك المذاهب، حتى يكونوا فقهاء إسلاميين، ينظرون إلى الدنيا من مرآة الإسلام الواسعة، لا من عين المذهب الضيقة.

2- فرع للتخصص في الخطابة والإمامة، تكون مدة الدراسة فيه سنتين، يتوسع الطلبة خلالها في صناعة الإنشاء، والاطلاع على أنواع الخطب، مع دراسة آيات المواعظ والآداب وأحاديثهما، ويتوسعون في السيرة النبوية ونشر الدعوة الإسلامية، ويتمرنون على إلقاء الخطب الارتجالية. [ ص: 143 ]

3- فرع للتخصص في التعليم، تكون مدة الدراسة فيه سنتين، يتوسع الطلبة خلالها في العلوم التي يريدون التصدي لتعليمها، وتمرينهم على التعليم بالفعل، مع التركيز على دراسة كتب فن التعليم [7] .

هـذا باختصار ما اقترحه الشيخ ابن باديس لإصلاح المناهج المتبعة في جامع الزيتونة.

إضافة إلى ذلك يرى (أن المعلمين في قسم الاشتراك يكونون من الحائزين على شهادة التخصص في التعليم، وكذلك المعلمون في فرع التخصص للتعليم، وأما المعلمون في فرع القضاء والفتوى فلا بد أن يكونوا ممن تخصصوا فيهما وتخصصوا في التعليم، وكذلك المعلمون في فرع الخطابة) .

يتبين من ذلك أن ابن باديس رحمه الله، أدرك أهمية المعلم في إنجاح العملية التربوية، وأن إصلاح المناهج يفتقد أهميته إذا لم يتوفر المدرس الكفء. لذلك نراه قد ركز على أمرين هـامين:

1- أن يكون المعلم متمكنا من العلوم والفنون التي يتصدر لتدريسها، مستوعبا لتفاصيلها وفروعها.

2- أن يكون المعلم ملما بمبادئ فن التعليم، حتى يتمكن من التأثير في طلبته ومعاملتهم بحسب ما يلائمهم في الجوانب المعرفية والسلوكية، ذلك أن أهم ما يحتاج إليه المعلم هـو: (معرفة أساليب [ ص: 144 ] التفهيم، وفهم نفسية المتعلمين، وحسن التنزل لهم، والأخذ بأفهامهم إلى حيث يريد بهم، حسب درجتهم واستعدادهم) [8] .

ولابن باديس آراء خاصة وجهود في إعداد المعلمين وتكوينهم، سنبسط البحث فيها في المبحث القادم إن شاء الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية