الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
المبحث الرابع : من مواقف جمعية العلماء

من خلال الأهداف التي حددتها الجمعية لنفسها، تظهر المسئولية العظيمة التي تصدرت للقيام بأعبائها، وفيما يلي نذكر بعضا من مواقف الجمعية في الإصلاح الديني، بمعناه الشامل:

الجمعية والطرق الصوفية : [1]

كما ذكرنا عند حديثنا عن نشأة جمعية العلماء، بأن مجلسها الإداري الأول لم يكن منقحا ولا متجانس الأفكار، فقد ضم إلى جانب رجال الإصلاح، بعض الطرقيين ورجال الدين الرسميين، الذين أخفقوا في احتواء الجمعية وتصريفـها وفـق مصالحهم وأهوائهم، (فما أكملوا السنة الأولى حتى فروا من الجمعية، وناصبوها العداء، واستعانوا عليها بالظلمة، ورموها بالعظائم... ذلك لأنهم وجدوا كثيرا من الآفات الاجتماعية التي تحاربها الجمعية، هـم مصدرها، وهي مصدر عيشهم، ووجدوا قسما منها مما تغضب محاربته سادتهم ومواليهم)[2] .

وبدعم من سلطات الاحتلال، تأسست (جمعية علماء السنة) في خريف سنة 1932م، تضم الطرقيين ورجال الدين الرسميين إضافة إلى [ ص: 99 ] بعض العلماء المأجورين، لمناهضة جمعية العلماء، ومناصبتها العداء.. ودعموا حملتهم بإصدار بعض الصحف، منها (المعيار) و (الرشاد) ، وقد انضمت إلى هـذه الحملة جريدة النجاح التي كانت في بدايتها إصلاحية [3] .

لم يكن الموقف الحازم الذي وقفته الجمعية تجاه انحرافات الطرقيين وليد نشـأتها، بل كان امتدادا للنهج الذي سار عليه ابن باديس والمصلحون من قبل.

ولقد علمت الجمعية بعد التروي والتثبت، ودراسة أحوال الأمة ومناشئ أمراضها، (أن هـذه الطرق المبتدعة في الإسلام، هـي سبب تفرق المسلمين... وأنها هـي السبب الأكبر في ضلالهم في الدين والدنيا) [4] .

.. ويوضح لنا الشيخ الإبراهيمي الدوافع وراء محاربة ضلالات الطرقيين، فيقول: (ونعلم أننا حين نقاومها، نقاوم كل شر، وأننا حين نقضي عليها -إن شاء الله- نقضي على كل باطل ومنكر وضلال) [5] .

الجمعية والتعليم

لقد أدركت جمعية العلماء أهمية التربية والتعليم في تحقيق مقاصدها العقيدية والفكرية، فركزت على التعليم الإسلامي العربي، [ ص: 100 ] وإنشاء المدارس، وحث الأمة وتشجيعها على إرسال أبنائها إلى مدارسها، بغية تعليم وتثقيف أكبر عدد ممكن من أبناء المسلمين، فالتعليم هـو الذي يطبع المتعلم بالطابع الذي يكون عليه في مستقبل حياته.

وجهت الجمعية اهتمامها إلى التعليم المسجدي، إدراكا منها بأن (المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهر الإسلام... فكما لا مسجد بدون صلاة، كذلك لا مسجد بدون تعليم) [6] .. وعليه، وضعت برامج واسعة لنشر التعليم الديني والعربي للصغار المبتدئين، وتكميل معلومات من درسوا باللسان الأجنبي، كما لم تحرم الكبار من دروس الوعظ والإرشاد ومحو الأمية، فشيدت لذلك المدارس وفتحت النوادي لإلقاء المحاضرات في التهذيب وشئون الحياة العامة.

ولم يقتصر دور جمعية العلماء التربوي والتعليمي داخل الوطن فحسب، بل رافق أبناء الجزائر الذي هـاجروا إلى فرنسا حيث يشكلون جالية كبيرة.

فقد تنبهت الجمعية إلى الأخطار المحدقة بأولئك المهاجرين الـمعرضين لخطر الذوبان في الحضارة الأوروبية، والابتعاد عن أصول دينهم، فأرسلت [ ص: 101 ] إليهم المعلمين والوعاظ والمرشدين [7] ، وأسست النوادي والمدارس لتعليم أبنائهم.

وقد كانت جهود الجمعية في هـذا الميدان تدور على محاور ثلاثة:

1 - إحداث مكاتب حرة للتعليم المكتبي للصغار.

2 - دروس الوعظ والإرشاد الديني في المساجد العامة.

3 - تنظيم محاضرات في التهذيب وشؤون الحياة العامة، في النوادي [8] الجمعية والتجنيس

كانت سياسة فرنسا منذ وطئت أقدام جيوشها أرض الجزائر، ترمي إلى الإدماج السياسي الكامل لهذا الوطن، وتذويب شعبه في ثقافتها الغربية، تمهيدا لفرنسته وتنصيره.

ومع تعاقب الأحقاب، ظهرت بين الجزائريين فئة تربت في مدارس الاستعمار، تدعو وترغب في التجنس بالجنسية الفرنسية، والتخلي عن أحكام الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، بغية الحصول على بعض الحقوق السياسية، ولم تكن جمعية العلماء لتسكت عن هـذه [ ص: 102 ] المسألة الخطيرة، بل كانت أول من تصدى لها وحاربها في الخطب العامة، والمحاضرات وفي الصحف، موضحة حكم الإسلام في ذلك.. ولما أصر دعاة التجنس على توسيع دعايتهم، وعقدوا اجتماعهم العام في ربيع سنة 1934م، لمطالبة الحكومة بتسهيل التجنيس، سعيا منهم لتكثير سوادهم، أصدرت جمعية العلماء على لسان رئيسها، الفتوى الشهيرة بتكفيـر مـن يتجنس بالجنسيـة الفرنسيـة، ويتخلـى عن أحكـام الشريعـة الإسلامية، جاء فيهـا: (التجنـس بجنسيـة غيـر إسلاميـة يقتضـي رفض أحكام الشريعة، ومن رفض حكما واحدا من أحكام الإسلام، عد مرتدا عن الإسلام بالإجماع، فالمتجنس مرتد بالإجماع) [9] .

ورغم المضايقات الشديدة من طرف الاستعمار، حققت جمعية العلماء نجاحا كبيرا في تصحيح عقائد الجزائريين، وتطهيرها من شوائب الشرك، والرجوع بهم إلى منابع الإسـلام الأصيلـة، كتـاب الله وسنـة رسوله صلى الله عليه وسلم يستنيرون بها في دينهم ودنياهم، مقدمة لهم العلم النافع، فالتف حولها الشعب وآزرها وأيدها -بإذن الله- في وقت كانت تتناثر فيه الجمعيات كحب الحصيد. [ ص: 103 ]

وقبل أن أختتم الكلام عن جمعية العلماء، لا يفوتني في هـذا المقام أن نتعرف على أولئك الأسود الأشاوس، رجال العلم، الذين ساهموا بقوة في تأسيس هـذه الجمعية المباركة، والذين شدوا أزر الإمام ابن باديس، وأولوه شرف الثقة والإخلاص، نذكر منهم:

1 - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي (1889-1965م) ، [10] .

نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ثم رئيسا لها بعد وفاة الشيخ عبد الحميد بن باديس سنة 1940م، من أبرز قادة الحركة الإصلاحية السلفية في العالم العربي، عضو المجامع العلمية العربية في القاهرة ودمشق وبغداد، عالم بالأدب والتاريخ واللغة العربية وعلوم الدين.

2 - الشيخ الطيب بن محمد العقبي (1890-1960م) ، كاتب، صحفي، وخطيب، من رجالات الحركة الإصلاحية الإسلامية، هـاجر مع أسرته إلى المدينة المنورة سنة 1895م، أخذ العلم عن مشايخها، ودرس بالمسجد النبوي الشريف، ولاه الشريف حسين رئاسة تحرير جريدة (القبلة) ، خلفا للكاتب الإسلامي الشهير (محب الدين الخطيب) ، عاد إلى الجزائر سنة 1920م، أصدر جريدة (الإصلاح) ، وشارك في تأسيس جمعية العلماء، [ ص: 104 ] واختير نائبا للكاتب العام بها، تولى الوعظ والإرشاد في (نادي الترقي) بالعاصمة، استقال من الجمعية قبيل الحرب العالمية الثانية، حين عارضه أغلب أعضاء الجمعية في مسألة تأييد فرنسا في حربها ضد ألمانيا [11] .

3 - الأستاذ محمد الأمين العمودي (1890-1957م) [12] .

: شاعر، وصحفي، من رجالات الحركة الإصلاحية، اشتغل بالمحاماة الشرعية، اختير أول كاتب عام لجمعية العلماء سنة 1931م، نظرا لمقدرته الكتابية بالعربية والفرنسية.

أنشأ جريدة الدفاع La Defence للدفاع عن حقوق الشعب الجزائري، وشارك في أغلب الصحف الإصلاحية.

4 - الشيخ العربي بن بلقاسم التبسي (1895-1957م) : أحد رجال الفكر الإصلاحي، ومن أبرز أعضاء جمعية العلماء، درس في الزيتونة والأزهر، اختير سنة 1935م كاتبا عاما للجمعية، ثم نائبا لرئيسها الشيخ الإبراهيمـي سنـة 1940م، وكـان مديـرا لمعهـد ابن بـاديس بقسنطينـة سنة 1947م، خطفه الفرنسيون في 17 أبريل سنة 1957م واغتالوه. [ ص: 105 ]

5 - الشيـخ مبـارك بن محمـد الميلـي (1897-1945م) : أحد أقطاب الحركة الإصلاحية تعليما وتأليفا، ثم تكوينا وتسييرا (يمتاز في كتاباته بدقة التحليل، وعمق التفكير، ولذلك كان يطلق عليه: فيلسوف الحركة الإصلاحية) [13] ، تولى رئاسة تحرير جريدة (البصائر) ، لسان حال جمعية العلماء، كما كان مسئول المالية في الجمعية.

من مؤلفاته: رسالة الشرك ومظاهره، وتاريخ الجزائر في القديم والحديث، في جزأين [14] .

هؤلاء هـم أبرز رجالات الجمعية الذين حملوا مشعل الإصلاح، وصارعوا ظلمات الجهل والانحراف، (وصبروا وصابروا من أجل الحفاظ على الشخصية العربية الإسلامية للشعب الجزائري، وهم في ذلك كمثل السحاب ساقه الله إلى بلد ميت، فلا يقلع حتى يحييه... وإن سائق المطر للبلد الميت، هـو سائق هـذه الجمعية لهذا الوطن المشرف على الموت... وإن جاعل المطر سببا في إحياء هـذه الأرض، هـو جاعل هـذه الجمعية سببا في إحياء هـذا الوطن) [15] . [ ص: 106 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية