الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الجهود العلمية لابن باديس، وثناء العلماء عليه

1- آثار ابن باديس العلمية

من آثار الإمام عبد الحميد بن باديس: تفسيره للقرآن الكريم، إلقاء على طلبته ومريديه، بدأه في ربيع سنة 1332هـ - 1914م، وختمه في ربيـع عام 1357هـ - 1938م، [ ص: 79 ] ولكنـه لم يكتـب منه إلا قليلا، فلم يكن الشيخ يكتب من التفسير ما يلقي، ولم تكن آلات التسجيل شائعة الاستعمال، متيسرة الوجود، ولم يتح له تلميـذ نجيب يسجـل ما يقول، كما أتيح للشيخ محمد عبده في رشيد رضا رحمهم الله، ولكن الله أبى أن يضيع فضله وعمله، فألهمه كتابة مجالس معدودة من تلك الدروس كان ينشرها فواتح لأعداد مجلة الشهاب، ويسميها (مجالس التذكير) ، وقد جمعت هـذه الافتتاحيات بعد وفاته في كتاب تحت عنوان (مجالس التذكير من كلام الحكيم الخبير) .

ولم يمض على ختمه لتفسير القرآن العظيم إلا شهورا، وإذا به -رحمه الله- يختم شرح موطأ الإمام مالك، وكان ذلك في أواسط ربيع الثاني عام 1358هـ (يونيو 1939م) .. وعلى غرار ما فعل في التفسير، لم يكتب من شرحه للموطأ إلا النزر اليسير في شكل افتتاحيات لمجلة الشهاب، وقد جمعت في كتاب تحت عنوان: (مجالس التذكير من حديث البشيـر النذيـر) .. والملاحـظ أن الشيـخ ابن باديس لم يركز كثيرا على الكتابة والتأليف، فقد كان يرى حين تصدر للتفسير مثلا: (أن في تفسيره بالكتابة مشغلة عن العمل المقدم، لذلك آثر البدء بتفسيره درسا تسمعه الجماهير) [1] ، وكان -رحمه الله- مشغولا مع ذلك بإنقاذ جيل ولد [ ص: 80 ] وترعرع في أحضان الاستعمار، وتربية أمة حوربت في دينها ومقدساتها، ومكافحة أمية طغت على الشيب والشباب.

وكان ابن باديس يؤمن بأن بناء الإنسان أصعب، ولكنه أجدى للأمة، من تأليف الكتب، وأن غرس الفكرة البناءة في صدر الإنسان، إيقاد لشمعة تنير الدجى للسالكين.

وقد جمع كثير من آثاره العلمية بعد وفاته، نذكر منها ما يلي:

أ - تفسير ابن باديس: الذي نشره الأستاذان: محمد الصالح وتوفيق محمد، نقلا عن (مجالس التذكير) الذي طبع ونشر سنة 1948م.

ب - (مجالس التذكير من حديث البشير النذير) : وقد طبعته وزارة الشئون الدينية بالجزائر، سنة 1403هـ- 1983م.

جـ - (العقائد الإسلامية من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية) : وهي عبارة عن الدروس التي كان يمليها الأستاذ ابن باديس على تلاميذه، في أصول العقائد الإسلامية وأدلتها من القرآن والسنة النبوية على الطريقة السلفية، وقد جمعها وعلق عليها تلميذه البار الأستاذ محمد الصالح رمضان.

د - كتاب (رجال السلف ونساؤه) : وهي مجموعة من المقالات ترجم فيها ابن باديس لبعض الصحابة رضوان الله عليهم، وما لهم من صفات اكتسبوها من الإسلام، وما كان من أعمالهم في سبيله، نشر تلك التراجم في مجلة (الشهاب) [2] [ ص: 81 ]

هـ - كما حقق ابن باديس كتاب (العواصم من القواصم) : للإمام ابن العربي، وقدم له وطبعه سنة 1928م، في جزأين بمطابع الشهاب بقسنطينة.

و - ترجم ابن باديس لكثير من أعلام الإسلام من السلف والخلف، في صفحات مجلة الشهاب، جمعت تحت عنوان (تراجم أعلام) [3] وقد قامت وزارة الشئون الدينية في الجزائر بجمع كثير مما حوته صحافة الجمعية من نشاطات الإمام عبد الحميد بن باديس في مجالات: التربية والتعليم، والرحلات التي كان يقوم بها داخل الوطن لنشر دعوته، إضافة إلى ما ذكـرنا مـن آثـاره العلميـة، تحت عنـوان: (آثار الإمـام عبد الحميد بن باديس) .

ولعله من الأهمية بمكان أن نذكر في هـذا المبحث، أن الشيخ ابن باديس رحمه الله، كان يطالع معظم الجرائد والمجلات التي تصدر في الجزائر سواء باللغة العربية أو باللغة الفرنسيـة، التي كان يقرأ بها ولا يتكلمها [4] ، ويرد عليها بما يراه مناسبا، كما كان يحاور ويناظر المستشرقين [5] العاملين في سلك الحكومة في الجزائر آنذاك، ويظهر لهم عظمة الإسلام ومحاسنه.

2- ثناء العلماء عليه

لعل من أبلغ الظواهر الدالة على مكانة الشيخ عبد الحميد بن باديس بين علماء عصره، تلك التقاريظ وذلك الثناء الذي خصه به معاصروه، [ ص: 82 ] ومن بعدهم من المؤرخين والعلماء والمفكرين، نذكر منها ما يلي:

أ - الشيخ محمد البشير الإبراهيمي : رفيق دربه في الإصلاح، وأقرب الناس إليه، وأعرفهم بمناقبه، يقول عنه: (إنه باني النهضتين العلمية والفكرية بالجزائر، وواضع أسسها على صخرة الحق، وقائد زحوفها المغيرة إلى الغايات العليا، وإمام الحركة السلفية، ومنشئ مجلة (الشهاب) مرآة الإصلاح وسيف المصلحين، ومربي جيلين كاملين على الهداية القرآنية والهدي المحمدي وعلى التفكير الصحيح، ومحيي دوارس العلم بدروسه الحية، ومفسر كلام الله على الطريقة السلفية في مجالس انتظمت ربع قرن، وغارس بذور الوطنية الصحيحة، وملقن مبادئها على البيان، وفارس المنابر، الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد ابن باديس، أول رئيس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وأول مؤسس لنوادي العلم والأدب وجمعيات التربية والتعليم، وحسبه من المجد التاريخي أنه أحيا أمة تعاقبت عليها الأحداث والغير، ودينا لابسته المحدثات والبدع، ولسانا أكلته الرطانات الأجنبية، وتاريخا غطى عليه النسيان، ومجدا أضاعه ورثة السوء، وفضائل قتلتها رذائل الغرب) [6] ، فرحم الله تلك الأرواح الطاهرة.

ب - الشيخ محمد الطاهر بن عاشور: عميد مجلس الشورى المالكي بتونس في زمانه، وصاحب تفسير (التحرير والتنوير) ، وأستاذ الشيخ ابن باديس في جامع الزيتونة. ورغم ما حدث بينهما من تباين في [ ص: 83 ] بعض المسائل العلمية والفتاوى الفقهية، إلا أن ذلك لم يمنع الأستاذ الشيخ محمد الطاهر بن عاشور من أن ينزله منزلته، ويعترف له بمكانته، فيقول عنه: (العالم الفاضل، نبعة العلم والمجادة، ومرتع التحرير والإجادة، ابننا الذي أفتخر ببنوته إلينا... الشيخ سيدي عبد الحميد ابن باديس... أكثر الله من أمثاله في المسلمين) [7] وفـي الاحتفـال بالذكـرى السابعـة لوفـاة ابن باديس، قـال الشيـخ ابن عاشور: (إن فضل النهضة الجزائرية على العالم الإسلامي فضل عظيم، وإن أثر الشيخ عبد الحميد بن باديس في تلك النهضة أثر إنساني رئيس... وما تكريمنا للشيخ عبد الحميد بن باديس، إلا تكريم للفكرة العبقرية والنزعة الإصلاحية الفلسفية، التي دفعت به فريدا إلى موقف إحياء التعاليم الإسلامية، في وطن أوشكت شمس الإسلام أن تتقلص في ربوعه، بعد ثمانين عاما قضاها في أغلال الأسر) [8]

جـ - المؤرخ الأستاذ خير الدين الزركلي: صاحب (الأعلام) ، والذي عاصر ابن باديس، ويعتبر شاهدا على جهاده، ينقل لنا شهادته قائلا عنه: (كان شديد الحملات على الاستعمار، وحاولت الحكومة الفرنسية في الجزائر إغراءه بتوليته رئاسة الأمور الدينية فامتنع، واضطهد وأوذي، وقاطعه إخوة له كانوا من الموظفين، وقاومه أبوه [9] ، وهو مستمر في جهاده) [10] , [ ص: 84 ] عليهم جميعا سحائب الرحمة والرضوان.

د - الدكتور عبد الحليم عويس: أستاذ التاريخ الإسلامي، الذي كتب كثيرا حول الدور الرائد الذي قامت به جمعية العلماء في تصحيح العقائد، وتحرير العقول، بالعودة إلى منابع الإسلام الأصيلة، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم. يشيد هـذا الأخير بدور رئيسها الشيـخ ابن باديس ومنهجه في الإصلاح قائلا: (إن ابن باديس... كان يؤمن إيمانا لا حدود له بدور القرآن الكريم في تكوين الجيل المنشود، على غرار الجيل الذي كونه القرآن في العصور الأولى للإسلام) [11]

هـ - الشاعر الجزائري الكبير الشيخ محمد العيد آل خليفة: الذي رافق شعره النهضة الإسلامية في الجزائر في جميع أطوارها. فقد ألقى في حفل تكريم الإمام ابن باديس بختمه لتفسير القرآن الكريم، قصيدة طويلة، أثنى فيها على ابن باديس، وعدد فيها جهوده العلمية، وجهاده من أجل الحفاظ على شخصية الجزائر الإسلامية، نذكر منها هـذه الأبيات [12] :


بمثلك تعتـز البـلاد وتفخـر وتزهر بالعلم المنير وتزخـر     طبعت على العلم النفوس نواشئا
بمخبر صدق لا يدانيه مخبر     نهجت لها في العلـم نهج بلاغـة
ونهج مفاداة كأنك حيـدر [ ص: 85 ]     ودرسك في التفسير أشهى من الجنى
وأبهى من الروض النظير وأبهر     ختمت كتاب الله ختمة دارس
بصير له حل العويـص ميـسـر     فكم لك في القرآن فهم موفـق
وكم لك في القرآن قول محرر

بعد هـذا العرض القصير الذي أوردنا فيه بعضا من شهادات العلماء والمفكرين وثنائهم عليه، نستطيع أن نقول: إن مما ساعد ابن باديس على النجاح في دعوته والوصول بها إلى الغايات العلى، استقامته ونزاهته التي شهد بها كل من عرفه، وتضلعه في علوم التفسير والحديث والفقه، التي أنار بها الأفكار، وحرر بها العقول، فضلا عن تأثيره في مجموعة من معاصريه الذي واصلوا دعوته، وعلى رأسهم الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، الذي خلفه في رئاسة جمعية العلماء بعد وفاته، والشيخ مبارك الميلي، وغيرهم ممن ضحوا في سبيل المحافظة على إسلامية الجزائر وعروبتها.

وفـاتـه:

في مساء يوم الثلاثاء 8 ربيع الأول سنة 1359 هـ، الموافق 16 أبريل 1940م، أسلم ابن باديس روحه الطاهرة لبارئها، متأثرا بمرضه بعد أن أوفى بعهده [13] ، وقضى حياته في سبيل الإسلام ولغة الإسلام، وقد دفن -رحمه الله- في مقبرة آل باديس بقسنطينة. [ ص: 86 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية