الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            مناهج العلوم الإسلامية والمتغيرات العالمية

            الأستاذ الدكتور / قطب مصطفى سانو

            الفصل الخامس

            الإصلاح المنشود لمناهج العلوم الإسلامية

            في ضوء واقعنا المتغير

            مجالات ومرتكزات

            انطلاقا من أن مناهج العلوم الإسلامية بعناصرها الأربعة تعد في ملتنا الحنيفية السمحاء الخالدة - كما أثبتنا - من المسائل الموسومة في الدرس الأصـولي بالمسـائل الظنية المتغيرة بتغير الأزمنـة والأمـكنة، وذلك بحسبانها - برمتها - اجتهادات بشرية غير معصومة في مجال التربية والتعليم، وبوصفها تراكمات معرفية تكونت وتنامت متأثرة بالظروف والأحوال والأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، لذلك، فإنه من الحيف الفكري الباهر والظلم المنهجي الفاضح تحويل مسألة المناهج من دائرة الظن (الاجتهاد) الخاضع للمراجعة والتجديد والتطوير إلى دائرة القطع (النص) السامي على المراجعة والتقويم والتعديل، بل من المجازفة العلمية إخراج المسألة التعليمية عامة من دائرة المتغيرات إلى دائرة الثوابت، تمهيدا لإضفاء الحقية المطلقة عليها، فإحاطتها بهالة من التقديس والتبجيل والتنـزيه! [ ص: 105 ]

            وتأسيسا على هذا، فإن الإنصاف العلمي الموضوعي الرصين والنـزاهة الفكرية الأصيلة الواعية يحتمان الإبقاء على المسألة التعليمية - نظما ومؤسسات ومناهج - في دائرة المظنون والمتغير قصد تعهدها بالمراجعة الدائبة، والتقويم المستمر الهادف، والتسديد الواقعي العلمي البناء، والتصويب المنهجي الرشيد، وبغية تجديد القول فيها تطويرا وتغييرا وتعديلا وربما إلغاء، اعتصاما بالبلاغ النبوي الخالد، الذي أوجب تجديد أمر الدين على رأس كل مائة عام، كما ورد ذلك في الحديث الشريف، الذي أخرجه الإمام أبو داود في سننه: ( إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة، من يجدد لها دينها ) (أخرجه أبو داود)!، وتطبيقا - في الوقت نفسه - لمغزى تلك القاعدة الأصولية الفقهية الرشيقة، التي تقرر بأنه "لا ينكر تغير الأحكام (الاجتهادية) بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف"!

            إن الاجتهاد والتجديد في مسألة مناهج العلوم الإسلامية في عالمنا الإسلامي المعاصر يقتضي تجديد النظر الصائب الواقعي في مؤسساتها القائمة بغية معرفة مكانتها بين المؤسسات التعليمية الراقية في العالم، ذلك أملا في الارتقاء بأدائها، وإداراتها، وخدماتها، وحضورها، لتغدو مؤسسات فاعلة وناشطة وحاضرة بالقوة والفعل عند رسم السياسات، ووضع الخطط والبرامج التنموية المختلفة، كما يقتضي تجديد النظر في هذه المناهج مراجعة سائر النظم التعليمية السائدة في الديار الإسلامية قصد التبرؤ من سائر السياسات [ ص: 106 ] والممارسات الراكدة والوافدة البين عدم جدواها ونجاعتها، واستبدالها بسياسات وممارسات واقعية معبرة عن هموم الشعوب وتطلعاتها.

            وفضلا عن هذا، فإن الاجتهاد والتجديد في مناهج العلوم الإسلامية، يحتم إعادة النظر الحصيف المخلص الواعي المدرك لأبعاد التحديات الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية المعاصرة في المناهج التعليمية المطبقة في العالم الإسلامي سعيا إلى صياغة واقعية عملية للأهداف التعليمية، وتجاوزا عن جملة حسنة من محتوياتها التقليدية الضيقة المنغلقة، وتجاوزا لما ران عليه البلى من الأساليب التعليمية العتيدة التي تنبذ الحوارية، وتلعن الانفتاح، وتكرس الانغلاق، وتتوسع في التكميم، وارتقاء بطرق التقويم فيها نحو مدارج الجودة والإتقان والإبداع.

            وإضافة إلى ما سبق، فإن النظر المتمعن إلى مناهج العلوم الإسلامية في ضوء تلك القاعدة الأصولية الفقهية المذكورة يستلزم - كما أوضحنا - ضرورة استحضار أثر ظروف الزمان والمكان والحال، واستنطاق أبعاد تحديات الواقع المعاصر، وذلك قصد تمكين المسألة التعليمية من أداء المسؤولية الحضارية المصيرية المنوطة بمؤسساتها ونظمها ومناهجها، ولا تمام لهذا الهم التجديدي المنشود إذا لم يكن ثمة استيعاب أمين واف لأبعاد الزمان والمكان وآثار الأحوال الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المسألة التعليمية، مؤسسات ونظما ومناهج. [ ص: 107 ]

            إن القاعدة الأصولية الفقهية تستوجب ضرورة تجاوز الأهداف التعليمية الغامضة غير الواضحة والتي تعد وليدة أزمنة وأمكنة وأوضاع فكرية واجتماعية وسياسية هالكة، كما تستوجب الاستغناء عن جملة المحتويات الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي تعتبر ناشئة من رحم ظروف وأحوال فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية بائدة، وتأتي على رأس هذه المحتويات الخلافات التاريخية القديمة بين الفرق الكلامية من معتزلة وأشاعرة وماتردية، وكذلك الخلافات الفقهية البائدة حول العديد من مسائل الصلاة والحج واللباس وغيرها مادامت تلك المسائل تسع للتعددية المشروعة في النظر الاجتهادي، وفضلا عن هذا، فإن القاعدة توجب تجاوز تلك الأساليب التعليمية، التي تغيب النقدية والحوارية، وتميت الإبداعية، وتستعلي من شأن التكميم والانغـلاق تجاهـلا لما استجد اليوم في الساحة من انفتاح، وحوارية، وتواصل، وتسامح!

            أجل، إنه من الخروج على الجادة والواقعية إنكار تأثير الأزمنة والأمكنة في المسألة التعليمية، مؤسسات ونظما ومناهج، ذلك لأن صياغة نظمها وبناء مؤسساتها، وضبط مناهجها، يخضع كل أولئك لعامل الزمان والمكان، بل ليس من حصيف النظر الاستهانة بذلك الأثر الكبير الجلي للأحوال الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية في المسألة التعليمية؛ ذلك لأن نظمها ومؤسساتها ومناهجها كانت ولا تزال تعكس - بصورة مباشرة وغير مباشرة - الواقع الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي السائد، مما يجعل [ ص: 108 ] من المتعذر يقينا القيام بأي تغيير نوعي دائم للواقع المعيش إذا لم يسبقه تغيير رشيق ورزين في المسألة التعليمية، مؤسسات ونظما ومناهج.

            إن الإصلاح المنشود لمناهج العلوم الإسلامية في ضوء التغيرات، التي يشهدها عالمنا المعاصر، يمكن له أن يتم من خلال إصلاح العناصر الأربعة، التي تتكون منها تلك المناهج، وهي كالتالي:

            التالي السابق


            الخدمات العلمية