الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفقرة الخامسة: في مصطلح الإصلاح المأمول:

            لئن بسطنا القـول في مرادنا بمصطلح المراجعة في هذا الكتاب، فإنه حقيق علينا بيان مرادنا من مصطلح لصيق ومكمل لمصطلح المراجعة، أعني مصطلح الإصلاح وذلك بحسبانه مقصد المراجعة، وباعتباره الهدف الأسمى والغاية القصوى، التي ترجى من المراجعة المنشودة لمناهج العلوم عامة والعلوم الإسلامية خاصة.

            وبناء عليه، فإننا نهرع إلى القول: إن ثمة حاجة علمية ماسة إلى ضبط دقيق لمرادنا بمصطلح الإصلاح المنشود اعتبارا بوجود فجوة معرفية وجفوة منهجية بين الداعين والمعارضين لمراجعة مناهج العلوم الإسلامية في العالم الإسلامي، ونتيجة حتمية لذلك الالتباس والخلط الفادح بين مناهج العلوم الإسلامية والعلوم الإسلامية من جهة، وبين العلوم الإسلامية ومدارها من جهة أخرى؛ مما حدا بكثير من أصحاب النوايا الحسنة إلى رفض المراجعة جملة وتفصيلا ظنا منهم بأن الدعوة إلى مراجعة المناهج دعوة إلى مراجعة العلوم من جهة، وإلى مراجعة مدار هذه العلوم المتمثل في الشرع الكريم، الذي تدور حوله العلوم الإسلامية!

            وليس بخاف أن هذا الخلط نابع عن جهل أهلها حقيقة كل من المناهج والعلوم والمدار، فالعلوم - أنى كانت- بمناهجها ونظمها ومؤسساتها لم ولن تكون ذات يوم ثابتة وسامية على المراجعة، والتطوير، فالإصلاح، وذلك [ ص: 68 ] بحسبانـها اجتـهادات بشرية تتـراكم وتتأثر في تشـكلها وتكوينها بظروف الزمان والمكان والوضع والحال، التي تتغير وتتحول وتتبدل وتتطور وفق المشيئة الإلهية الخالدة.

            وأما مدار العلوم الإسلامية المتمثل في الوحي الإلهي الأزلي الخالد القار بين ثنايا كتابه العزيز، والهدي النبوي الشريف المتواتر المتوارث عبر الأعصار والأمصار، فإنه لم ولن يكون - ذات يوم - محل مراجعة أو تطوير بله تغيير، وذلك بحسبانه خطابا أزليا سابقا وساميا على الزمان والمكان بل حاكما ومتصرفا فيهما كيفما يشاء!

            كما أنه حري بنا أن نفزع إلى تقرير القول: إن مصطلح "إصلاح المناهج" لا يعني بأي حال من الأحوال كون المناهج فاسدة فسادا كليا يستوجب الإصلاح، إن بتغيير، أو تبديل أو إلغاء! والحال أن مصطلح الإصـلاح، هنا مصطـلح لا مفهوم له - كما يقول علماء الأصول - وهو من جنس مفهـوم اللقب، الذي لا يعـني بالضـرورة كون الإصـلاح ناتجا - بالضرورة- عن فساد في ذات المناهج!

            وتأسيسا عليه، فإن مرمانا بالإصلاح المنشود في هذا الكتاب هو الابتعاد الكلي والرفض المطلق لإضفاء أي حالة من التقديس على تلك الصياغات الاجتهادية الناظمة للأهداف التعليمية، والاجتهادات الضابطة لمضامين ومحتويات المقررات الدراسية، فضلا عن ضرورة الابتعاد عن تقديس كافة أساليب ووسائل التعليم، وطرق التقويم، التي ورثناها جيلا عن جيل اعتبارا [ ص: 69 ] بكونها أساليب ووسائل وطرقا بشرية محدودة ومتأثرة بظروف الزمان والمكان والحال والعادة.

            كما أن هذا الإصلاح يقوم على تقرير القول: إن تلك الصياغات والاجتهادات المنسوجة حول العلوم الإسلامية - أهدافا ومحتويات وأساليب ووسائل - كانت ولا تزال ذات تأثر واضح بالأحوال الزمنية، والأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، التي تخيم على الساحة من وقت إلى آخر، مما يوجب تعهدها بالمراجعة الدائبة، والتطوير المستمر، والتجديد المتواصل نهوضا بها، وتمكينا لها من مجابهة إشكالات العصر المتجددة، وتساؤلاته المتلاحقة!

            وفضلا عن هذا، فإن هذا الإصلاح المنشود لا يعتد - بأي حال من الأحوال - بما تشهده الساحة الفكرية المعاصرة من دعوات عشوائية مرتجلة متسرعة تهدف إلى تغيير مناهج العلوم الإسلامية بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها وطرق التقويم فيها تغييرا عشوائيا تتحقق من خلاله غايات مشبوهة وأهداف منكورة مجهولة لا تمت بأدنى صلة بواقع الأمة وتطلعاتها وآمالها.

            نعم، إن هذا الإصلاح المنشود يبرأ إلى الله تعالى من تحميل مناهج العلوم الإسلامية أوزار أولئك الذين أساؤوا فهمها، واعتدوا على مقرراتها اليقينية، وكلياتها الكبرى، وثوابتها المتواترة.

            إن هذا الإصلاح المرجو للنهوض بمناهج العلوم الإسلامية يؤمن بضرورة تعاون مختلف الجهات والمؤسسات المسؤولة عن المسألة التعليمية عامة ومسألة مناهج العلوم الإسلامية خاصة، وذلك من أجل تعهد المسألة التعليمية [ ص: 70 ] والمناهج بالمراجعة الدورية الهادفة المركزة للأهداف التعليمية قصد تطعيمها بأهداف تمليها على الواقع الإسلامي السائد الأوضاع الاجتماعية والفكرية والسياسية والاقتصادية المستجدة، وبغية القيام بتطوير موضوعي وإصلاح رشيد لطرق التقويم والأساليب التربوية التعليمية السائدة في كثير من الأقطار في العالم الإسلامي، وخاصة منها تلك الأساليب التعليمية والتربوية، التي تقوم على تكميم الأفواه، ومصادرة الحريات، والاعتداء على حرية التفكير والتعبير، وتدريب النشء على الاغترار غير المبرر بالذات، ورفض الآخر، ونفي الأغيار، والشعور بالعلو والاستعلاء في الأرض.

            فهذه الأساليب، بغض النظر عمن يمارسها، لا تمت -باتفاق العالمين - إلى الإسلام بصلة، ولا رحم بينها وبين العلوم الإسلامية الصحيحة العريقة وإن استخدمها مستخدمون باسم هذه العلوم وسواها، فهذه العلوم بريئة من هذه الأساليب المخالفة لمقرراتها وتاريخها!

            وفضلا عما سبق، فإن هذا الإصلاح يروم دعوة أولئك القائمين على شؤون التعليم عامة إلى ضرورة تقبل النقد العلمي البناء الشامل الهادف لجملة غير يسيرة من الصياغات الاجتهادية، للأهداف والمحتويات والأساليب التعليمية للعلوم الإسلامية بغية تنقية المناهج من المحتويات الفكرية الاجتهادية التي تعمق الفجوة والجفوة بين المصلين، وتنمي في النشء عقلية التكفير والتفجـير والتفسيق والتبـديع لكل مخـالف لهم في المجتهـدات، التي قال عنها العالمون: لا إنكار في مسائل الاجتهاد، سواء أكانت تلك المسائل عقدية أم فقهية أم تربوية!! [ ص: 71 ]

            وأيا ما كان الأمر، فإن هذا الإصلاح يطمح إلى أن يأتي ذلك اليوم الذي يتم فيه تصفية محتويات المناهج من كافة المواد والمحتويات والاجتهادات الظرفية، التي تدعو - بناء على تأويلات غير دقيقة لمعاني الوحي الإلهي المعصوم - إلى استخدام العنف والقسوة والاعتداء على المخالفين المسالمين، الذين قال الباري الكريم في حقهم في كتابه العزيز: ( لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين * إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون ) (الممتحنة: 8-9).

            وفذلكة القول: إن هذا الإصلاح المنشود محاولة حضارية شاملة واعية جامعة بين الأصالة والمعاصرة، يرنو إلى تحقيق مراجعة موضوعية منهجية هادئة هادفة في ضوء ما يموج العالم اليوم من تغيرات حثيثة وتطورات متلاحقة تفرض على الغيارى القائمين على شؤون المسألة التعليمية في عالمنا الإسلامي تعهد المناهج التعليمية، النقلية والعقلية، الراهنة بالمراجعة والتطوير بغية تمكينها من إعداد جيل من النشء يتخذ من منهج الوسطية والاعتدال في الفكر والسلوك والتصرف منطلقا وممارسة لا يحيد عنه قيد أنملة، تحقيقا لما تدعو إليه العلوم النقلية (=الإسلامية) والعلوم العقلية الصحيحة من تكامل بين عالم الغيب وعالم الشهادة، وبين الفكر والتطبيق، وبين الأصالة والمعاصرة. [ ص: 72 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية