الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفقرة الرابعة: في مصطلح المراجعة المنشودة ومرتكزاتها:

            تأسيسا على ما سبق من تحرير وضبط لمرادنا بمصطلحي العلوم الإسلامية، ومناهجها، فإنه يمكننا الخلوص إلى تقرير القول: إن مرادنا بالمراجعة المنشودة لمناهج العلوم الإسلامية في هذا الكتاب، لا تعني - بأي حال من الأحوال- إلغاء عشوائيا أو تغييرا تعسفيا واعتسافيا لمناهج العلوم الإسلامية، بأهدافها ومحتوياتها وأساليبها، وطرق التقويم فيها، ولكنها تعني - بكل إخلاص وصدق - إعادة النظر الثاقب الناقد في الأهداف المرسومة في هذه المناهج، ومحتوياتها، وأساليب تقديمها، وطرق التقويم فيها في ضوء الواقع المعاصر، وذلك بغية التعرف على مكامن القوة والضعف والوهن في هذه العناصر الأربعة، وقصد الارتقاء بها ارتقاء يمكن الجيل الصاعد من التمييز الرشيد الواعي بين الثابت والمتغير، وقصد تطويرها تطويرا يعصم الجيل الصاعد من التفريط البغيض أو التقديس المنبوذ للموروث الفكري المتأثر بظروف الزمان والمكان، وصولا إلى صياغة علمية ناضجة واعية للمناهج تحقق لها حضورا فاعلا ومؤثرا في الإصلاح المنشود للفكر والسلوك والحياة!

            وبتعبير آخر، تروم هذه المراجعة تمكين المناهج من إعداد جيل شاهد يتوافر على فهم سديد معتدل ومتكامل لتعاليم الدين الحنيف والواقع الراهن، ويقدر على التعامل الحضاري المنهجي الواعي مع متغيرات العصر من خلال استحضار مكين للأصول العامة للشرع الحنيف، وارتكاز رشيد على المقاصد السامية، فضلا عن التفات أمين إلى المآلات تمكينا للنشء من تحقيق مقصد الخلافة المتمثل في الشهود الحضاري وعمارة الكون وفق مراد خالقه ومدبره. [ ص: 62 ]

            بناء على هذا، فإن هذه المراجعة في حقيقتها تسعى إلى تحقيق وصل مـكين وركين بين الوحـي الإلهي الثابت والواقـع الإنساني المتغير المتقلب، كما تسعى إلى تسديد الحياة الإنسانية بتعاليم الوحي من خلال استيعاب عميق لمقاصد الوحي، ومعرفة دقيقة بما تجري عليه حياة الناس، وما يؤثر في تلك الحياة من ظروف وأحوال وأوضاع.

            وبطبيعة الحال، من مكرور القول: إن هذه المراجعة تروم - في نهاية المطاف- إبعاد المتعلم من الخلط بين محكمات الشرع ومتشابهاته، وبين الثوابت والمتغيرات من الأحكام، وبين الأصول والفروع، وبين مراتب الأوامر والنواهي الإلهية، فضلا عن إبعاده من الخلط بين ذات النصوص الشرعية (الكتاب والسنة) والاجتهادات (الأفهام) المنسوجة إزاءها، كما تهدف هذه المراجعة إلى تمكين النشء من الأدوات المعرفية المعينة لهم على حسن تفهم الواقع الإنساني الدائم التغير والتبدل والتحول، وذلك من خلال تمكينهم وتأهيلهم تأهيلا رشيدا في فهم أدوات الرصد والتحليل، التي تتوافر عليها جملة العلوم العقلية المفسرة للظواهر والطبائع.

            تأسيسا على كل ما سبق بيانه من خصائص لهذه المراجعة، فإنه يمكننا الخلوص إلى تقرير القول: إن هذه المراجعة المنشودة لمناهج علومنا تستند إلى مرتكزات منهجية ثلاثة، هي: [ ص: 63 ]

            أولا: الاعتداد بحاكمية محكمات الوحي الثابت ومقررات الهدي النبوي المتواتر:

            إن هذا الأساس يروم دعوة القائمين على مناهج علومنا الإسلامية إلى إخضاع تلك المناهج بأهدافها، ومقرراتها ومحتوياتها وأساليب تدريسها، ووسائل تلقينها للنشء، لمحكمات الوحي الإلهي المنزل الثابت، ومقررات الهدي النبوي المبين المتواتر اعتبارا بكون تلك المحكمات والمقررات ثابتة وأزلية لا يعتريها زمان، ولا يؤثر فيها مكان، مما يجعلها حاكمة على كل القيم، والمعارف، والمفاهيم، والمعارف.

            وبتعبير آخر، ينبغي عرض كافة الصياغات للأهداف والمحتويات والأساليب وطرق التقويم المستحدثة في الملة على تلك المحكمات الإلهية الأزلية، والمقررات النبوية الثابتة بغية تقويم المعوج منها، وتعديل الحائد منها، وتسديد القويم منها، وتصحيح الخطأ منها تقريرا لحاكمية وإطلاقية الوحي الإلهي المنزل، واعتدادا بمعصومية الهدي النبوي المتواتر!

            ومقتضى هذا الأساس جعل الثوابت والمحكمات حاكمة على المتغيرات والمتشابهات في جميع مجالات النشاط الفكري الإنساني وقوفا عند قوله تعالى: ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات .. ) (آل عمران:7)، فمحكمات الكتاب الكريم، وصنوها مقررات الهدي النبوي المتواتر كانت ولا تزال تمثل ما يصطلح عليه اليوم بالثوابت والقواطع والمعلوم من الدين بالضرورة، مما يجعل اللواذ بها للاستلهام والاستنارة والالتزام عند تضارب الآراء، وتناكر الأفكار، وتناثر الرؤى، سواء أكان ذلك كله في مجال العقيدة، أم في مجال الفقه، أم في باب التربية، أم في سواه. [ ص: 64 ]

            ثانيا: الاحتكام إلى الأصول العامة والقواعد الكلية والمقاصد السامية:

            لئن كان معلوما لدى العالمين معدودية محكمات الوحي الإلهي، ومقررات الهدي النبوي المتواتر، فإنه من توفيق الله أن تفانى العالمون عبر العصور والدهور على صياغة جملة حسنة من الأصول العامة والقواعد الكلية والمقاصد السامية من ثنايا النصوص المتواترة، ومعهودات الشرع المتوافرة، فأضحت تلك الأصول والقواعد والمقاصد مكملات لمحكمات الوحي ومقررات الهدي المتواتر، مما يجعل العودة إليها عند شح الصريح من المحكمات إزاء مسألة من المسائل الاجتهادية أمرا ضروريا.

            إن هذه الأصول والقواعد أضحت اليوم في مؤلفات يسهل الرجوع إليها، نعني أن كتب الأشباه والنظائر، وكتب القواعد الفقهية الكبرى، وكتب المقاصد الرصينة تحتضن بين جنباتها مهمات هذه الأصول والقواعد والمقاصد مما يوجب الرجوع إليها من أجل عرض مناهج علومنا بأهدافها، ومقرراتها ومحتوياتها وأساليبها على تلك الأصول العامة والقواعد الكلية الكبرى والمقاصد السنية المثلى المستفادة من محكمات الوحي الإلهي، ومن مقررات الهدي النبوي الشريف، عرضا يهدف إلى تقويم المعوج منها، وتعديل الظرفي منها، وإضافة الجديد النافع إليها في كل عصر ومصر.

            أجل، إن الاحتكام إلى هذه الأصول والقواعد والمقاصد ليس بأمر اعتباطي، بل إنه نفاذ وتقرير لما تتسم به تلك الأصول والقواعد من متانة في المحتوى، ووجاهة في الصياغة، وسداد في الضبط، وقدرة على المواكبة والتسديد [ ص: 65 ] والتوجيه والترشيد، فضلا عما تتمتع به تلك الأصول والقواعد والمقاصد من ثبات وصمود في كل الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع.

            إن تحكيم الأصول العامة والقواعد الكلية الكبرى والمقاصد الشرعية المثلى في مناهج علومنا الإسلامية، ومحتوياتها، ومقرراتها، وأساليبها كفيل بالتجاوز بعلومنا من الانشغال الشديد والتوسع غير المقبول في الجزئيات على حساب الكليات، والاهتمام غير المجدي بالفروع على حساب الأصول، فضلا عن الاعتناء غير المبرر بالوسائل على حساب المقاصد، والحال أن الجزئيات والفروع والوسائل ظرفيات ينبغي أن تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع خلافا للأصول والقواعد والمقاصد، التي تستمد ثباتها وديمومتها من ثبات محكمات الوحي ومقررات الهدي النبوي المتواتر.

            ثالثا: الاعتداد ببعد المآلات والمصالح والمفاسد:

            إن تحكيم محكمات الوحي الإلهي ومقررات الهدي النبوي في مناهج علومنا أمر يتحقق على المستـوى النظري، كما أن عرض المناهج على الأصـول العامة والقـواعد الكلية والمقاصد يعد هو الآخر ضمانا لصياغة نظرية منضبطة للقيم والمعارف والمفاهيم، بيد أن الالتفـات إلى بعد المآلات عند تلك الصياغة يعتبر ذا أهمية للغاية اعتبارا بأن تفهم القيم والمعارف لا معنى له ما لم يتم تطبيقها على الواقع، وضمانا لحسن التطبيق للقيم والمعارف لا بد من الالتفات إلى المآلات، بحيث يتم ربط ما يتعلمه النشء بواقعهم بصورة عملية سلسلة. [ ص: 66 ]

            وبناء عليه، فإن هذا الأساس يروم ضرورة استجلاء البعد الزماني والمكاني في مناهج علومنا الإسلامية، ومحتوياتها ومقرراتها وأساليبها، أملا في تجاوز كل ما أنتجته علومنا من معارف ومفاهيم وأحكام تشكلت وتكونت من وحي التأثر بالزمان والمكان، وبتعبير آخر، استحضار هذا البعد، وتحكيمه في مناهج علومنا كفيل بتحقيق ذلك التجديد المرجو المتواصل لأهدافها، ومقرراتها، ومحتوياتها، وأساليبها، وذلك استنادا إلى التجدد المستمر للزمان، والتبدل المتواصل للمكان، فضلا عن استمرارية التغير والتطور في كافة مناحي الحياة.

            إن هذه المرتكزات الثلاثة نحسبها منطلقات يمكن النفاذ منها من أجل توجيه جميع النشاط المعرفي الإنساني، وما ينتجه ذلك النشاط من معارف وعلوم ومفاهيم بشكل عام، كما يمكن الاستناد إليها من أجل تسديد حركة تفاعل العقل الإنساني مع الوحي الإلهي الخالد والهدي النبوي المتواتر تسديدا يعصم العقل من التيه الفكري والضياع المعرفي والخذلان العلمي، ويحقق له الرشاد والسداد في تعامله مع الكون من حوله، وتفاعله الحضاري مع الحياة والوجود!

            وتأسيسا على هذا، فإننا نخلص إلى تقرير القول: إن هذه المراجعة المنشودة بمرتكزاتها الثلاثة لا بد من توقيعها وتطبيقها وتنـزيلها على مناهج علومنا الإسلامية بأهدافها، ومقرراتها، ومحتوياتها، وأساليبها، قصد الارتقاء بها، وبغية تمكينها من الصمود والثبات أمام جحافل التغيرات المتعاقبة والتطورات المتواصلة، التي لا ينفع معها استمراء العيش والتقلب في كنف الموروث المجيد، والتشكيك في الوافد الجديد المفيد في عالم الفكر والتصور والسلوك! [ ص: 67 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية