الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            مقدمة

            إن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا وقائدنا وحبيبنا محمد الأمين، أعظم معلم عرفته البشرية، وأجل مرب شهد له الثقلان، وعلى آل بيته الطاهرين المصطفين الأخيار، وصحبه الميامين الأبرار، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم القرار، وبعد:

            فهذه صفحـات معدودات عنيت بنسـج خيوطها، وسبك عقدها حول مسـألة آنية مهمة ما فتئت - منذ ما يربو عقدا من الزمن- تحتل مساحة غير منكورة من اهتمامات المصلحين والغيارى من أهل العلم بالشرع والتربية والتعليم والعمران والاجتماع والسياسة، إنها مسألة مراجعة وإصلاح مناهـج تلك العلـوم الموسـومة في دنيا الناس بالعلوم الإسلامية أمام التغيـرات الحثيثة، التي تموج عالمنا المعـاصر في شـتى مجالات الحيـاة، الفكرية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، بل إنها مسألة قدرة هاتيك [ ص: 27 ] المناهج على الصمود والبقاء والحضور أمام ذلك الكم المذهل من التطورات المتسارعة المتلاحقة، التي يشهدها واقعنا الراهن في وسائل التواصل والتأثير والتحاور والتثاقف!

            واعتبارا بأن الحديث عن مراجعة مناهج علومنا الإسلامية وتطويرها، في ضوء الواقع المعاصر، كان ولا يزال حديثا عاما يختلط فيه الحابل بالنابل، ويحتاج - في حس العالمين بعلم الأصول والمقاصد - إلى ما يعرف بتحرير محل النزاع، وذلك من خلال ضبط حكيم محكم لمعاني جملة حسنة من المصطلحات والمفاهيم، التي تنتعش في أروقة المتحاورين حول هذا الهم المعرفي التربوي الجاثم على الصدور.

            كما تقتضي المسؤولية المعرفية من أولي النهى والألباب من علماء الشرع وفقهاء التربية القيام بتأصيل علمي رصين للإطار المنهجي لهذه المسألة، من خلال تحرير أمين لموقعها في ضوء ثنائية الثبات والتغير، في الحس المعرفي الإسلامي القار، بل إن ذات المسؤولية المعرفية تلح على الراسخين من أهل العلم بفقه المآلات ضرورة تسليط الضوء على تلك الأسباب العلمية والموضوعية والواقعية لمراجعة هذه المناهـج، في ضوء واقعنا المعاصر، إقناعا وإقرارا وإثباتا!

            وفضـلا عن هـذا كله، فإن الحاجـة الفكرية تمس اليوم إلى ضرورة بسط القول في مجالات وآفاق المراجعة المأمولة لمناهج علومنا، فالتطوير [ ص: 28 ] والإصـلاح المنشـود لأهدافها، ومحتوياتها، وأساليبها، تمكينا لها من التعامل مع التغـيرات المتـلاحقـة تعاملا رشيدا واعيا، ومن مواكبة التطورات المتواصـلة مواكبة مسـؤولة رصينة، كما تلح الضرورة المعرفية على القائمين على الشـأن التربوي تطعيم مناهـج علومنا الموروثة بمكونات ومحتويات ووسائل قادرة على إعداد جيل جديد من النشء هادئ وواع يجمع بين دراية الأصيـل من التراث، واستيعـاب المعاصر من الرؤى والأفكار، ويقوى على تحقيق وصل أمين رشيق رشيد بين المثال الثابت والواقع المتغير، ويشارك بفاعلية واقتـدار في الفعل الحضاري المتصاعد، والتدافع الثقافي المتنامي، والحراك الفكري المتفاقم.

            وبطبيعة الحال، لئن كنا من أولئكم، الذين يؤمنون بأنه لا يمكن لأي عمل إنساني - سواء أكان نشاطا فكريا أو سلوكا علميا - أن يسمو - بأي حال من الأحوال - على المراجعة المخلصة الهادفة، والتطوير والإصلاح المتواصل لاستعلاء القصور والنقص على ذلك النشاط والسلوك، بيد أننا نبادر إلى تقرير القول: إن ما يجده القارئ في هذا الكتاب من دعوة مخلصة إلى مراجعة شاملة هادئة لمناهج علومنا الإسلامية قصد تطويرها وإصلاحها، والارتقاء بها، لا تمت تلك الدعوة بأدنى صلة بتلك الدعوة المعروفة المشؤومة، التي استيقظ عليها عالمنا الإسلامي عشية وقوع ذلك الحادث المنكور المرفوض - شرعا وعقلا - في ديار القوم، والموسوم في التاريخ الحديث باعتداءات الحادي عشر من سبتمبر لعام 2001م! [ ص: 29 ]

            فليس من مرية في أن ديننا الحنيف بقيمه العليا وأصوله الناصعة لم ولن يقر - ذات يوم - أي اعتداء على المخالف في المعتقد، كما أنه - بمبادئه الرشيدة - يرفض كل أشكال الإرهاب للآمنين، أمان دار أو عهد، بل إنه دين يتبرأ - بتعاليمه السمحة - من كل تطرف وتزمت لتطبيق أحكامه تقريرا وتأكيدا، على كونه دين الرحمة والمودة والمواساة للبشرية كلها!

            وسعيا إلى مشـاركة علمية مسـؤولة منضبـطة تجـابه هـذا الهم التـربوي الآني مجابـهة رصينة أمينـة، فقد ارتأينا أن ينتظـم هـذا الكتاب خمسة فصول،

            تصدينا في فصـله الأول لإلقـاء ظلال من الضـوء على مكانة المسألة التعليمية عـامة ومسألة المناهـج خاصة ودورهما الجلي في تقدم الأمم ونهوض الشعوب،

            وعنينا في الفصل الثاني بضبط المراد بأهم المصطلحات الواردة في الكتاب، وهي مصطـلح العلوم الإسـلامية، ومصطلح مناهج العلوم الإسلامية، ومصطلح المراجعة المنشودة ومرتكزاتها الأساس،

            وتناولنا في الفصل الثالث بالتحليل والتأصيل موقع مناهج العلوم الإسـلامية في ثنائية القطـع والظن، وعلاقة مسـألة المناهـج بقـاعدة "تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال". [ ص: 30 ]

            وأما الفصـل الرابع، فقـد تناولنا فيه بالتحرير والتوضيح الأسباب العلـمية والموضـوعية والـواقعية لإصلاح مناهـج العلوم الإسـلامية في هذا العصر،

            وخصصنا الفصل الخامس بحديث واف عن مجالات وآفاق المراجعة المرجوة والإصلاح المنشود لمناهـج العلوم لتغدو - بعد - مناهج صامدة وثابتة أمام ما يموج عالمنا المعاصر من تحديات فكرية متراكمة، ومحن اجتماعية متفاقمة، وابتلاءات سياسية متصاعدة، وإملاءات اقتصادية متلاحقة ومتتابعة، ولتصحح - في الوقت نفسه - كثيرا مما تراكم في أذهان عدد لا يستهان به من العامة من وجود علاقة مشبوهة منكورة بين تلك المناهج وجملة الممارسات السلوكية المنحرفة الشاذة والجرائم الشنيعة، التي يقوم بها أولئك المندسون، الذين ينتسبون - زورا وبهتانا - إلى ديننا الإسلامي الحنيف السمح العدل، الرحمة المهداة للعالمين!

            وعلى العموم، فإنني أعتذر للقارئ الكريم على ما سيجده في هذا الكتاب المتواضع من حرارة في التعبير عما يخـالج الصدر، ويخامر العقل من رغبة صادقة مخلصة في النهوض بعلومنا الإسلامية - مناهج ومؤسسات - نـهوضا أمينا يعيد لها دورهـا الأجل ووظيفتها المثلى في الحفـاظ على الإرث العقـدي والثقافي والفـكري لعموم الأمة، فضلا عن تمكينها من توجيه المتغيرات والمستجدات توجيها سديدا يؤكد صلاحية هذا الدين لكل زمان ومكان. [ ص: 31 ]

            كما أنني أستميح القارئ عذرا مما سيجده في هذا الكتاب من زلات، وهفوات، وكبوات، وهنات، فمرد ذلك كله إلى استعـلاء النقص والقصور على نفسي الضعيفـة القـاصرة المتعطشة إلى أن يشملـها الحليم الغفار بواسع مغفرته وعفوه، إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت، وما توفيقي إلا بالله العلي العزيز.

            وختاما، لا يفوتني أن أرفع أكف الضراعة والابتهال إلى الواحد الأحد، أن يعيد للأمة هيبتها العلمية ومكانتها الفكرية وريادتها الحضارية، وقيادتها للإنسانية، فيعم الأمن، وينتشر الأمان، ويتحقق الاستقرار والتقدم والرفاهية للبشرية جمعاء، وما توفيقنا جميعا إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلنا، وإليه أنبنا، وإليه المصير. [ ص: 32 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية