الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الخاتمة

            بفضل من الله وتوفيقه، توصلنا في هذا الكتاب إلى جملة من النتائج، يحسن بنا تلخيصها في النقاط التالية:

            أولا: ثمة أهمية موضوعية ومكانة علمية للمسألة التعليمية عامة، وللمناهج التعليمية خاصة، إذ تعتبر المناهج عند أهل العلم بالتربية والتعليم إحدى العناصر الأساسية، التي يتوقف على إصلاحها وتطويرها تقدم الأمم ونهضتها ورقيها، فبقدر ما تهتم الأمم بمناهجها، ومؤسساتـها التعليمية بقدر ما تسود وتتمكن في الأرض، والعكس صحيح جد صحيح. ومرد ذلك إلى كون توقف نجاح المسألة التعليمية بنظمها ومؤسساتها على نجاح المناهج وإصلاحها وتطويرها ومواكبتها لما يستجد في العالم من تغيرات حثيثة وتطورات متعاقبة.

            ثانيا: إن مناهج العلوم الإسلامية عبارة عن تلك الصياغات الاجتهادية الناظمة والضابطة لمجموعة القيم، والحقائق، والمعارف والمفاهيم والمعلومات المستفادة من النص الإلهي الثابت والهدي النبوي الشريف، وتوضع في شكل مقررات ومواد تعليمية لتقدمها مؤسسة تربوية للنشء مستخدمة جملة من الأساليب التربوية وطرق التقويم الظرفية، التي تضمن تحقيق الأهداف المتمثلة في تمكينهم من حسن فهم المراد الإلهي من الكتاب العظيم والسنة النبوية الطاهرة، فحسن تأهيلهم للعمل بما تشتمل عليه تلك النصوص من أحكام وتعاليم. [ ص: 157 ]

            ثالثا: إن إصـلاح مناهج العلوم الإسـلامية لا يعني بالضـرورة تغييرها أو إلغاءها، وشتان بين الإصلاح والتغيير والإلغاء، فالإصلاح يروم تطوير هذه المناهج، والارتقاء بها تمكينا لها من الصمود والثبات أمام التغيرات المعاصرة والتحديات المتتابعة، وتحقيقا للأهداف والغايات المرجوة منها والمتمثلة في مساعدة النشء على تحقيق مقصد الخلافة لله وعمارة الكون وفق المراد الإلهي، ويتحقق هذا الإصلاح من خلال مراجعة هادئة شاملة تهدف إلى معالجة أوجه النقص والقصور فيها اعتبارا بكونها اجتهاـدات بشرية لم ولن تخلو من نقص أو قصور أو تأثر بالواقع الفكري والاجتماعي والسياسي والاقتصادي. وبطبيعة الحال، إن الإصلاح من أجل الارتقاء أو التطوير ينبغي أن يلاذ بها بغض النظر عن أن تكون ذلك تلبية لدعوة عدو أو صديق، فالمبدأ الإسلامي الناصع: رحم الله امرءا أهدى إلي عيوبي.

            رابعا: تقع مناهج العلوم الإسلامية في ثنائية القطع والظن ضمن المظنونات والمجتهدات، التي تنفسح للاجتهاد المتجدد، نظرا وتطبيقا، وذلك انطلاقا من كونها صياغات اجتهادية للقيم والمعارف والمعلومات والمهارات المنسوجة حول نصوص الكتاب والسنة النبوية الشريفة الطاهرة. وإنما كانت هذه المناهج ظنية لأنها لم تشملها نصوص الكتاب الكريم والسنة النبوية الشريفة ببيان مفصل، ولأنه لم يرد في شأن أي عنصر من عناصرها الأربعة نص من الكتاب أو السنة، وإنما يندرج جميعها ضمن النصوص العامة الواردة في المسألة التعليمية بشكل عام. [ ص: 158 ]

            بناء على هذا، فإن حظ أهل العلم بالتربية والشرع في التعامل مع مسألة المناهج حظ وافر ووفير، إذ إنه يمكنهم أن يوسعوا أهدافها ومحتوياتها وأساليبها وطرق التقويم فيها جانب التحليل والنقد والمراجعة والتطوير والتعديل والتجديد معتصمين في ذلك بكليات الشرع العامة، ومقاصده السامية، وقواعده الكلية المتمثلة في مراعاة الأولويات، والموازنة بين المصالح والمفاسد، جلبا ودرءا، وفقه الواقع، واعتبار المآلات، وسوى ذلك من القواعد العواصم للمناهج من الحيدة عن الجادة.

            خامسا: إن إصلاح مناهج العلوم الإسلامية لا يعني بالضرورة تغيير أهدافها، أو محتوياتها، أو أساليبها، أو طرق تقويمها، ذلك لأن إصلاح المناهج -يعـني فيما يعـني- تطـوير ما يحتـاج إلى تطـوير، أهـدافا أو محتويات أو أساليب أو طرق تقويم، في ضوء الأوضاع والأحوال والظروف المستجدة في دنيا الناس، كما يعني الإصلاح الاستغناء عن الظرفي من هذه العناصر، ومعالجة أوجه النقص والقصور فيها، فضلا عن النهوض بها لمجابهة تحديات الواقع المعاصر على جميع الأصعدة والمجالات.

            سادسا: إن إصلاح مناهج العلوم الإسلامية يروم تجديد النظر في عناصرها الأربعة بتحـكيم محـكمات الوحـي الإلهي، ومقررات الهدي النبـوي المتواتر فيها، وتسـديدها بالأصول العامـة، والقواعد الكلية، والمقاصد العليا، فضلا عن ضرورة الالتفات إلى المآلات عند الهم بتوقيع محتويات على الواقع المعاصر. [ ص: 159 ]

            وفضلا عن هذا، فإن إصلاح المناهج يروم النظر إلى كافة النشاط المعرفي الإنساني في إطار رشيد من التصور الإسلامي الكلي الشامل للإنسان والكون والحياة والوجود انطلاقا من مبدأ: ( قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين ) (الأنعام:162-163)!

            سابعا: إن مناهج العلـوم الإسلامية، بعناصرها، تعد اجتهادات بشرية لا ينبغي أن تسمو على الإصـلاح والمراجعـة والتطوير كلما دعت الحاجة إلى ذلك، ويعد إصلاحها ومراجعتها من باب نقد (الذات)، ومحاسبة النفس، ولذلك، فليس من الإسلام في شيء النظر إلى اعتبار المناهج نصوصا منـزلة ومقدسـة، بل هي ككل عمل إنساني يعـتريه النقـص والقصـور والتأثر، ولا ينكشف نقصه ولا قصوره إلا من خلال المراجعة الشاملة الصادقة المخلصة، فالإصلاح الهادف.

            ثامنا: إن ثمة مجالات وآفاقا لتحقيق الإصلاح المنشود للمناهج، سواء على مستـوى الأهـداف، أم المحتـويات، أم الأسـاليب أم طرق التقويم، مما يستدعي اليوم ضرورة تكوين لجان تربوية تكون مهمتها الأولى المراجعة الشاملة للأهداف، صياغة وتحريرا، وللمحتويات، مضامين وترتيبا، وللأساليب تجديدا، ولطرق التقويم تحديثا.

            وفضلا عن هذا، فإن الحاجة تمس اليوم إلى ضرورة الاهتمام والاعتناء بفكرة التكامل بين القيم والمعارف من جهة، وبين علوم الدين وعلوم الدنيا من [ ص: 160 ] جهة أخرى؛ فالفصام النكد بين هذه الثنائيات المتداخلة والمترابطة يمثل أهم دليل على عدم تمكن المناهج التعليمية بشكل عام على إعداد الجيل المأمول، بل إن هذا الفصام يعد مسؤولا عن الصراع التقليدي بين من يعرف بالعلماني وغريمه المتدين أو الديني. ولا أمل في القضـاء على هذا الصراع بين الفريقين ما لم يتم إعادة التكامل بين الديني والدنيوي، وبين النقلي والعقلي، وبين الروح والمادة، وبين عالم الغيب وعالم الشهادة.

            وأخيرا: إن إصلاح مناهج علومنا الإسلامية أمسى اليوم الأمل الوحيد المتبقي لتمكين الأمة من استعـادة عافيتها واستئناف دورها الريادي القيادي. إذ بإصلاح هذه المناهج، بعناصرها، يمكن إعداد جيل قادر على تحقيق تلك الآمال والأحلام، وليكن ذلك الإصلاح بطريقة علمية رشيدة رشيقة، فإن المأمول من القائمين على الشأن التربوي في الجامعات والكليات والمعاهد العلمية تكوين لجان علمية واعية مدركة لأبعاد التحديات الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وقادرة على الارتقاء بها وتطويرها تطويرا يواكب العصر، ويمكن النشء من التمثل لمقررات الدين الحنيف وقيمه الثابتة، تمثلا يجعله فاعلا ومشاركا، ومعتدلا في سلوكه وتصرفاته، بعيدا عن جميع أشكال التطرف والتزمت والتعنت والإفراط والتفريط.

            والله الهادي إلى سواء السبيل، وما شهدنا إلا بما علمنا، وعلم البواطن موكول للظاهر والباطن. [ ص: 161 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية