الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفصل الثاني

            في مصطلحات العلوم الإسلامية، والمناهج، والمراجعة .. ضبط وتأصيل

            - الفقرة الأولى: في مصطلح العلوم الإسلامية:

            اعتبارا بما للمسألة التعليمية بمؤسساتها ومناهجها ونظمها من أهمية قصوى ومكانة سامية لدى مختلف الشعوب والأمم، بل انطلاقا من الأهمية الفكرية، التي تناط بالضبط المنهجي والتنظيم العملي لتمكين التعليم من تحقيق الآمال المعلقة بها، لذلك، لا غرو في أن يغدو اليوم تقسيم متعدد ومتنوع للمسألة التعليمية باعتبارات مختلفة، إذ ثمة تقسيم للعلوم باعتبار موضوعها إلى علوم إنسانية تعنى بدراسة كل الظواهر، التي تؤثر تأثيرا معنويا - سلبا وإيجابا- في الإنسان من اقتصاد وقانون وسياسة واجتماع، وإلى علوم طبيعية تهتم بدراسة الطبيعة، التي يتفاعل معها الإنسان وتؤثر فيه ماديا وتتمثل في مجموع العلوم الموسوعة بالعلوم التطبيقية من طب وكيمياء وفيزياء وسواها. [ ص: 45 ]

            كما أن هناك تقسيما آخر للعلوم باعتبار مآلاتها من حيث ما يترتب عليها من جلب للمنافع ودرء للمفاسد، فثمة علوم نافعة [1] تنتظم كل العلوم، التي تحقق للإنسان سعادة وأمنا وطمأنينة واستقرارا في الدارين (=الدنيا والأخرى)، وعلوم ضارة (=غير نافعة) تجلب للإنسان والعالم، الذي يعيش فيه تعـاسـة وشقـاء، وهـي العـلـوم التي استعـاذها المصطفى صلى الله عليه وسلم ذات يوم، فكان دعـاؤه صلى الله عليه وسلم دوما وأبدا، كما أخرج ابن ماجـه عن أبي هـريرة رضي الله عنه قـال: كان مـن دعـاء النبـي صلى الله عليه وسلم : ( اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع، ومن دعاء لا يسمع، ومن قلب لا يخشع، ومن نفس لا تشبع ) كما كان من دعـائه صلى الله عليه وسلم ، كما أخـرج الترمـذي في سننـه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقـول: ( اللهم انفعني بما علمتني، وعلمني ما ينفعني، وزدني علما )

            ولئن اتخذ التقسيمان المذكوران للعلوم الموضوع والمآلات أساسين لتصنيف العلوم، فإن هنالك تقسيما ثالثا للعلوم يتخذ من المرجعية، التي توجه العلوم، وترشدها أساسا ومنطلقا للتصنيف، وفي ضوئها تقسم العلوم اليوم إلى علوم نقلية (=إسلامية=شرعية) وعلوم عقلية (=إنسانية). [ ص: 46 ]

            ويراد بالعلوم النقلية (=الشرعية) بشكل عام مجموع الحقائق والمعارف والمفاهيم المستفادة من نصوص الكتاب الكريم، والسنة النبوية الشريفة من أجل تفهم المراد الإلهي الأزلي من تلك النصوص، وتمثل ذلك المراد وتنـزيله على الواقع، الذي يعيش فيه الإنسان تمكينا له من القيام بمهمة الخلافة لله وعمارة الكون.

            وتنتظم العلوم النقلية ما يعرف اليوم بعلوم الفقه وأصوله، التي تروم استنباط واستخلاص الأحكام العملية من النص الإلهي المقدس السامي، فهما وتنزيلا، وذلك من خلال الارتكاز على جملة حسنة من الكليات والقواعد اللغوية والمنطقية، وتنتظم - أيضا - علوم الحديث والتفسير، التي تروم بيان المراد الإلهي من النص القرآني، وتمييز الصحيح من السقيم من الأقوال والأفعال المنسوبة إلى هديه الشريف، عليه أفضل صلوات ربي وأتم تسليماته.

            كما تشمل العلوم النقلية اليوم ما بات يعرف بعلوم العقيدة وأصول الدين والتصوف، وهي العلوم، التي تعنى ببيان المعاني العلمية الثاوية بين جنبات نصوص الكتاب والسنة استنادا إلى أصول وقواعد استنبطها العقل المسلم من أجل ضبط مراد الشرع في المسائل المتعلقة بالإيمان وعالم الغيب، والمسائل المتعلقة بتهذيب النفس وإصلاحها، وتوثيق علاقتها بالخالق الأعظم.

            وبجانب هذه العلوم النقلية المباشرة، ثمة علوم أخر تعد من حيث المآل علوما نقلية، أعني علوم اللغة والنحو والصرف والبلاغة، فهذه العلوم تعد علوما نقلية باعتبارها علوما نشأت من أجل حماية لغة النص المقدس وصيانته من اللحن والفساد نتيجة التغيرات الاجتماعية والثقافية والسياسية، التي شهدتها [ ص: 47 ] الساحة الإسلامية غداة رحيل المصطفى، صلوات الله وسلامه عليه، إلى الرفيق الأعلى، ونتيجة دخول أمم كثيرة في الإسلام ولم تكن ألسنتها، أيامئذ، عربية من حيث الأصل.

            وعلى العموم، هذه هي أهم العلوم التي تعرف اليوم بالعلوم النقلية والعلوم الشرعية والعلوم الإسلامية، وإنما سميت هذه العلوم علوما نقلية اعتبارا بكونها علوما خادمة للنقل المعصوم (=النص المقدس) وهو الوحي الإلهي الخالد، ولكونها علوما تحاول تمكين النشء من حسن فهم المعاني والمقاصد والأحكام، التي تتضمنها نصوص كتابه الكريم وسنة نبيه المصطفى صلى الله عليه وسلم ، كما تسمى هذه العلوم علوما إسلامية نسبة إلى كونها علوما تدور حول مصدري الإسلام، وهما الكتاب الكريم والسنة النبوية الطاهرة، وسميت علوما شرعية باعتبارها علوما تروم استجلاء مراد الشرع من نصوص كتابه العزيز وسنة نبيه الكريم.

            وأما العلوم العقلية (الإنسانية)، فيراد بها مجموع المعارف والخبرات والمهارات، التي توصل إليها العقل الإنساني من خلال تفاعله المستمر مع الظواهر الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعمرانية، ومن خلاله تعامله مع الطبيعة والعالم حوله، وتنتظم هذه العلوم اليوم علوما تعرف بالعلوم الإنسانية وتشمل علم النفس، وعلم العمران البشري، وعلم السياسة، وعلم الاقتصاد، وعلم القانون، كما تشمل سائر العلوم الطبيعية من علوم، وطب، وصيدلة، وتمريض، وفيزياء، وكيمياء، ورياضيات، وسواها.

            وإنما سميت هذه العلوم علوما عقلية لكونها علوما منبثقة عن العقل الإنساني المجرد دون رجوع مباشر إلى النقل المتمثل في نصوص الكتاب الكريم، [ ص: 48 ] وبيانات الهدي النبوي الشريف، ولكونها علوما تعتد بالعقل الإنساني مرجعا ومستندا لها، ولا تعتد - في كثير من الأحيان - بما لا يقره العقل المجرد، وسمي الشطر النظري من هذه العلوم علوما إنسانية اعتبارا لكونها علوما هادفة إلى تقديم تفسير معقول لما يدور حول الإنسان من ظواهر نفسية، واجتماعية، واقتصادية، وقانونية الخ.. ويسمى الشطر الآخر منها علوما طبيعية لكونها علوما تعنى بتفهم الطبيعة المادية التي تحيط بالإنسان وتؤثر في وجوده، سلبا وإيجابا.

            وبطبيعة الحال، لا تخلـو هـذه العلوم العقـلية من أن تكون علـوما نافعـة أو ضارة خلافا للعلوم الموسومة بالعلوم النقلية (=الإسلامية) التي تعد -قطعا- علوما نافعة، دنيا وأخرى، لكونها علوما مستفادة قصدا من النص المقدس، ولأنها علوم تدور حول مرجعية صالحة لكل زمان ومكان، ومستوعبة لما يطرأ على سلوك البشر وأفكارهم من تغير وتقلب وتطور وتحول نتيجة تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والأعراف والظواهر والطبائع.

            على أنه من الحري بالتقرير أن تقسيم العلوم إلى علوم نقلية (=شرعية) وأخرى عقلية (=إنسانية/طبيعية) لا يعني بأي حال من الأحوال حكما قيميا أو معياريا على العلوم، وإنما يعني وصفا لواقع هذه العلوم وأسباب نشأتها، وبتعبير آخر، كلا هذين النوعين من العلوم مطلوب للشرع، ولا يمكن للأمة أن تحلم بشهود حضاري ما لم تتبوأ مكانة الريادة والقيادة في هذه العلوم كلها، إذ إن التمكين الحضاري المنشود يتوقف توقفا أساسا على امتلاك زمام القيادة والريادة والسيادة في هذه العلوم، التي تعد مقدمات ضرورية للفعل الحضاري المرجو. [ ص: 49 ]

            وعليه، فحقيق على أهل الفكر والنظر إعادة تلك الرحم المقطوعة بين هذه العلوم، وتمكين الأجيال الصاعدة منها كلها بصورة متكافئة، سعيا إلى إنقاذ الأمة من حالة الغثائية الفكرية، التي أورثتها انسحابا حضاريا، فاستلاما للكراهات الاقتصادية، ثم رضوخا للإملاءات السياسية التي توجهها يمنة ويسرة!

            التالي السابق


            الخدمات العلمية