الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            المجال الثالث: إصلاح أساليب مناهج العلوم الإسلامية:

            من نافلة القول: إن سلامة الأهداف ووجاهة الغايات، وسداد الموضوعات والمحتويات، التي تتضمنها مناهج العلوم الإسلامية تمثل مقدمات ضـرورية أساسية لتحقيق إصـلاح واع رشيد ومتـزن لهذه المناهج، غير أنها لا تضمن - بأي حال من الأحوال - نجاح العملية التعليمية بإحداث ذلك التغيير المنشود في شخصية النشء، كما أنها لا تضمن أيضا تمكن تلك المناهج من إعداد جيل قادر على القيام بمهمة الخلافة لله وعمارة الكون وفق منهج الله، ويعني هذا أن هنالك عنصرا ثالثا لا بد من الاعتداد به، عنصرا مهما في العملية التعليمية، ويتمثل في الأساليب التعليمية، التي تستخدم من أجل تمكين الأجيال الصاعدة من الأهداف التعليمية المحددة، والموضوعات والمقررات المنضبطة، فهذه الأساليب تمثل أحد العناصر المهمة، التي يتوقف عليها نجاح العملية التعليمية، وتمكن مناهج العلوم الإسلامية من الإسهام بفعالية في التأثير في شخصية المتعلم، وتأهيله للقيام بواجب الإصلاح لنفسه والمجتمع والواقع، الذي يعيش فيه.

            ولئن بسطنا بعضا من القول في مجالات الإصلاح المنشود للأهداف والمحتـويات، فإن تحقيق ذلك الإصلاح لذينكما العنصرين يتوقف على إصلاح هذا العنصر، الذي يعد حلقة وصل بين الهدف والمادة، وجسرا رابطا بين المثال والواقع! [ ص: 142 ]

            وعليه، فإن للمرء أن يتساءل عن كيفية إصلاح الأساليب التعليمية التقليدية، التي يتم من خلالها تزويد النشء بالأهداف والمحتويات التعليمية. وبطبيعة الحال، إننا نبادر إلى تقرير القول: إن الإسلام تجاوز - قصدا - عن حصر الأساليب التعليمية في أساليب تعليمية معينة، كما أن الشرع اكتفى برسم الأسس والكليات العامة، التي ينبغي الوعي عليها عند الهم بتزويد النشء بالأهداف والمحتويات التعليمية.

            ومن ثم، فإننا نفزع إلى القول: إن إصلاح الأساليب التعليمية يعني الانطلاق من المنهجية الإسلامية الخالدة المتمثلة في أساليب الحوارية، والتشويق، والترغيب، والترهيب، والنقدية، والمعاصرة، وذلك عند تلقين النشء المواد التعليمية، بعيدا عن أساليب القمع والإرهاب والاستبداد والتسلط والمثالية. فالأساليب التعليمية القادرة على إحداث التغير المطلوب في النشء هي تلك الأساليب، التي تقوم على مراعاة واحترام مشاعر النشء، وتقدير واقعهم وأحوالهم، وتوفير جو من الرحمة، والرفق، والتفاعل الإيجابي، والحوار البناء معهم تمكينا لهم من حسن استيعاب الأهداف والمحتويات التعليمية.

            فإذا اكتملت في الأساليب التعليمية هذه الركائز المذكورة أدى ذلك إلى إقبال النشء على التعـلم بشغف وشوق ورغبة، فضلا عن أن ذلك سيوفر لهم تحصينا عميقا بالأهـداف والمحتويات، فيصبحون لا يقبلون ما يلقى عليهـم إلا بعد اقتنـاعهم بجـدواه وصحته. وهذا بدوره يؤدي إلى ترسيـخ ما يتلقونه من خبرات ومعارف ومهارات وتجارب في أذهانهم، ويدفعهم ذلك [ ص: 143 ] كله إلى التفاعل الإيجابي الواقعي مع أنفسهم ومع الواقع والمجتمع، الذي يعيشون فيه.

            وبناء على هذا، فإننا نخلص إلى تقرير القول: إن إصلاح الأساليب التعليمية، في مناهج علومنا الإسلامية، يتوقف على ارتكازها بصورة واضحة وفي جميع المراحل التعليمية على الحوارية، والنقدية، والواقعية.

            وبالنسبة للحوارية فإننا نروم بها في هذا المقام أن يعتمد المعلم أثناء تقديمه المادة التعليمية للنشء مبدأ المناقشة البناءة الهادفة الهادئة القائمة على توفير جو من حرية الرأي وحرية التعبير لديه دون خوف أو وجل، وعلى تنمية مبدأ الحوار والحرية فيه، مما يدفعه إلى التفاعل مع تلك المعارف والمعلومات، التي تقدم له؛ وبتعبير آخر يراد بالحوارية عند بعض المفكرين المعاصرين تلك الصفة، التي يتربى عليها العقل "..فيصبح في حركته الفكرية ممتدا إلى عقول الآخرين يعرض عليها ما توصل إليه من أفكار: شرحا لحقيقتها، واحتجاجا لها، بغية بيانها لتلك العقول، ووضعها أمامها على محك الامتحان، كما يصبح ممتدا إليها لاستبانة ما توصلت إليه من آراء للنظر فيها والوقوف على ما تضمنته من قوة ومن ضعف، استفادة من قوتها، واتقاء لضعفها، وذلك في حركة تفاعل مشترك بين العقول.." [1] . [ ص: 144 ]

            وتتجلى أهمية هذا المبدأ في الدرس الكلامي، والفقهي، والتربوي، حيث تنتعش فيه الأفكار والآراء وتتعارض فيه الرؤى والمذاهب، مما يستوجب فسح المجال أمام المتلقي للتعرف على الأفكار والمذاهب والآراء بشكل مجرد ومحايد، وتركه بعـد ذلك لاختيار ما يراه أقرب إلى فكره وعقلـه ونظرته استنادا إلى ما تتضمنه الآراء من قوة في الحجة ومتانة في الطرح، بعيدا عن تخطئة المخالف، أو تفسيقه، أو تأثيمه!

            إن الحوارية أسلوب حضاري ينبغي اتخاذه الأساس، الذي لا يحيد عنه المعلم بحسبانه الضمان الآكد للتواصل الفكري، والتسامح العلمي، والتكامل المعرفي؛ ولذلك، فإن مراجعة الأساليب التعليمية المعاصرة ينبغي أن تبدأ من تبني هذا المبدأ، وممارسته على جميع المراحل التعليمية سعيا إلى إحداث التغيير المرجو في فكر المتعلم وسلوكه!

            ولئن كانت الحوارية مبدأ يقوم على توفير ذلك الجو من حرية الرأي وحرية التعبير عنه، فإنه لا تمام لهذه الحوارية ما لم يصحبها مبدأ آخر اصطلحنا عليه في هذا الكتاب بالنقدية، ونروم به تبني المعلم أثناء تدريسه وتلقينه النشء أسلوب الانفتاح الرشيد على الآراء والأفكار والرؤى والاجتهادات عند تقديم المعلومات والمعارف والخبرات إلى النشء سواء في الدرس الفقهي أم في الدرس العقدي، أم في الدرس التربوي، بحيث يتبنى الإنصاف والعدل في عرض كل الآراء ونقدها مع الابتعاد عن الانحياز والحكم القبلي المسبق على بعض الآراء والأفكار بالخطأ والبطلان! [ ص: 145 ]

            فليس من المقبول علما أن يبدأ المعلم درسه بشحن ذهن النشء بمعلومات مغلوطة ومقلوبة عن الآراء والأفكار والأنظار، وذلك من خلال الحكم القيمي على كل مخالف له بالخطأ والضلال والشبه!

            إن مبدأ النقدية يقتضي عرض أوجه القوة والضعف في الآراء والأفكار والأنظار بطريقة علمية محايدة متزنة سعيا إلى تمكين النشء من تبنى هذا الأسلوب وتمكينهم من الانفتاح على المخالفين لهم في [ ص: 146 ] الرأي والفكر، والتقارب معهم قدر الاستطاعة. فعلى سبيل المثال، ينبغي على المعلم والأستاذ عند تدريسه المذاهب الإسلامية الانفتاح على الآراء المختلفة والنظر فيها نظر المقارنة بينها في غير حجب لشيء منها واستبعاد له من دائرة البحث والدراسة، سعيا إلى التلاقي العاصم من الخصام والتعادي، وتحقيقا للتعاون العاصم من الفرقة والتشتت.

            إن هذه النقدية إذا تربى عليها النشء وغدت خاصية راسخة في أذهانهم، من شأن ذلك "..أن توجههم وجهة التقارب مع المخالفين لهم في الرأي، وتجعل المتكونين عليها من أهل المذاهب ينفتح بعضهم على بعض، ويأنس بعضهم لبعض، ويعتذر بعضهم لبعض.." [2] .

            وبناء على هذا، فإن الحاجة اليوم تمس إلى تجاوز ما يجده الناظر في العديد من المؤلفات والكتب من هجمات عنيفة على المخالفين لهم في المختلف فيه، ووصفهم إياهم بأبشع الأوصاف، وأشنع النعوت، واعتبارهم آراء أولئك المخالفين لهم وحججهم شبهات لا وجاهة ولا سداد فيها، والحال أن الحق في المختلف فيه يتعدد بتعدد المجتهدين على رأي المحققين من أهل العلم بالأصول!

            ولئن تجلت أهمية اعتماد النقدية وقبلها الحوارية أساسين للأساليب التعليمية المعاصرة، فإن الحاجة تدعو إلى الالتفات بمبدأ ثالث لا يقل أهمية عن هذين المبدأين، وهو ما اصطلحنا عليه بالمعاصرة والواقعية، ونعني بالمعاصرة أن ينتقي المعلم الوسائل التعليمية الحديثة المعاصرة الأكثر تأثيرا في شخصية النشء، والأقرب إلى زمانه ومكانه تشويقا له للتعلم، وترغيبا له في التلقي. ولقد كانت من رحمة الله وفضله أن تجاوزت النصوص الشرعية التنصيص على وسيلة تعليمية دون سواها، مما يعني أن الشرع الحكيم ترك لكل عصر ومصر المجال لاختيار أنسب وأليق الوسائل التعليمية، التي تستجيب لمتطلبات العصر، وتتوافر على وسائل التشويق والترغيب.

            وبناء على هذا، فليس من المقبول اليوم أن تظل الوسائل التعليمية الحديثة المسماة بتكنولوجيا التعليم الحديث غائبة في الجامعات والمعاهد والكليات، التي تدرس العلوم الشرعية، بل ليس من الشرع في شيء أن يظل النشء الذين يدرسون في تلك الجامعات والمعاهد والكليات عواما لا يتوافرون على أدنى معرفة بهذه الوسائل، التي من الله بها على البشرية في العصر الراهن. [ ص: 147 ]

            إن مراجعة الأساليب التعليمية المراجعة المنشودة لا تمام لها ما بقيت جامعاتنا ومعاهدنا وكلياتنا تدرس وتلقن النشء علومنا الإسلامية على الطريقة التقليدية، التي كانت يلقن بها الآباء والأجداد النشء في زمانهم، وذلك ظنا منهم أن تلك الطرق التقليدية الموروثة هي الطرق المثلى، والحال لو أن أولئك الآباء والأجداد عاشوا في زمـاننا هذا ورأوا ما جاد به الزمان من وسائل تعليمية حديثة باهرة لتبنوا هذه الوسائل الحديثة ولاستخدموها في سائر المواد التعليمية، التي تقدم للنشء، وليس أدل على هذا كونهم استخدموا تلك الوسائل والطرائق، التي كانت موجودة في أيامهم، لا لأنها هي الوسائل والطرائق المثلى ولكنها لأنها هي الوسائل والطرائق الموجودة والمتوافرة في زمانهم. والشأن في هذا كالشأن في العديد من المفاهيم والمصطلحات، التي يجدها الناظر في المدونات الفقهية والكلامية، أعني أن اتصال علماء الكلام وعلماء الأصول بالفلاسفة والمناطقة دفعهم إلى استخدام مصطلحاتهم ومقرراتهم في الدفاع عن المقررات الشرعية الفقهية والكلامية، وقد كان لاستيعابهم تلك المصطلحات وتهذيبهم إياها أثرا كبيرا سواء في الدعوة إلى الإسلام أم في تدوين العلوم وتصقيلها.

            وبناء على هذا، فإننا نرى أنه من الظلم للآباء والأجداد الاعتقاد بأن استخدامهم لتلك الطرائق والوسائل إنما كان حبا لها، والحال أن ذلك كان استنادا إلى مبدأ الواقعية، الذى اتسم به جميع تصرفاتهم إزاء مختلف الوسائل [ ص: 148 ] والطرائق، التي كانت متاحة في زمانهم، ولذلك فأنى لامرئ أن يكلفهم استخدام وسائل ما جاد بها زمانهم، ولا عرفتها ساحتهم! وأنى لامرئ أن يتكلف باستصحاب واستحضار تلك الوسائل والطرائق، التي عفا عليها الزمن ولم تعـد قادرة على إحـداث أي تغيير مرجو في فكر النشء أو سلوكه، بل إنها في كثير من الأحيان تنفرهم من التلقي والتلقين!

            وعلى العموم، إن تضمن الأساليب التعليمية هذه الركائز الأساسية (الحوارية، والنقدية، والمعاصرة) من شأنها ضمان تمكن النشء من الأهداف والموضوعات التعليمية المقدمة لهم. وإن المتأمل - بعمق ودقة - في سيرة خير المعلمين وقدوة العـالمين رسـول الله صلى الله عليه وسلم يجد أن هذه الركائز كانت حاضرة دوما وأبدا عند تعليمه الصحابة، رضوان الله عليهم، ومن توافد عليه من أهل البادية والحضر.

            فقد امتثل مبدأ الحوارية في تعليم ذلك الأعرابي، الذي بال في المسجد، كما كان التشـويق والترغيب منهجـا حـاضرا في دعوته وتعليمه للناس، وأما النقدية، فقد اتخذها منهجا في استكشاف آراء الصحابة في النوازل، التي كانت تنـزل بسـاحتهم إذا لم يكن ثمـة وحي يبين حـكم الشرع فيها، وأما المعـاصرة والواقعية، فقد أرسى قواعد وصدر عنها في سائر تصرفاته المتمثلة فيما اتخذه من منهـج وطريقة في الدعوة إلى الله، في مكة المكرمة والمدينة المنورة، انطلاقا مما كان شائعا في ذلك الزمان من أساليب وطرائق في التواصل والإقناع. [ ص: 149 ]

            ومهما يكن من شيء، فإن النظر المتفحص في الأساليب التعليمية التقليدية الشائعة في العالم الإسلامي، يفضي إلى تقرير القول: إنه لا حضور حقيقيا لهذه الركائز، وبدلا منها، فإن أساليب القمع والاستبداد والتكميم تعد الأساليب التعليمية المفضلة والمقننة والمحببة في النفوس نتيجة ما يفتقر إليه الواقع الإسلامي من حرية في الرأي والتعبير، ولهذا، فلا غرو أن تغدو الديار الإسلامية أوكارا لنشأة أفكار الغلو والتطرف والتعصب.

            إن الحاجة تمس اليوم إلى إعادة الحوارية والنقدية والمعاصرة إلى الأساليب التعليمية التقليدية السـائدة لتغدو أساليب تعليمية إسلامية، فالاستبداد والقمع والتكميم يعد كل أولئك أساليب غير إسـلامية وإن تبنتها بعض المناهج التعليمية في الأقطار الإسلامية. إن الأساليب التعليمية التي لا تبنى على الركائز المذكورة لا يمكن لها - بأي حال من الأحوال - أن تعد جيلا قادرا على القيام بمهمة الخلافة، وعمارة الأرض وترقيتها، ولا يمكن لها أن تسهم في تمكين الأمة من استـعادة عافيتها ودورهـا الريـادي والقيادي، ولن يشفع لهذه الأساليب سداد الأهداف ووجاهة المحتويات، بل إنها تزيد الناس رفضـا وابتعـادا عن تلك الأهداف والمحتويات ظنا منهم بأن الخلل فيها وليس في الأساليب!

            على أنه من الحري بالتقرير أن ثمة توهما لا يزال جاثما على القلوب، ويتمثل في تخوف الكثيرين من فتح باب حرية الرأي في التفكير والتعبير ظنا منهم أن ذلك مدعاة إلى الفرقة والتنازع، والحال أن هذه الحرية هي التي تعصم [ ص: 150 ] المجتمع من الفرقة والتشتت والتنازع، ذلك لأنه عندما تتاح هذه الحرية، فإن للمرء أن يعلن عن كل خواطره وأفكاره، فتطرح تلك الخواطر والأفكار على محك الحجة ومائدة النظر، وتمتحن بالحوار مع الآخرين، وحينئذ يتبين لديه الصحيـح منها من الخطأ، والقـوي من الضعيف، ويكون ذلك سبيلا للالتقاء مع الآخرين المخالفين له..

            وأما حينما يتربى الفرد على القمع الفكري في نطاق المذهبية المنغلقة، فإن الكثير من الخواطر والأفكار، التي تنشأ في الذهن تبقى حبيسة فيه بحـكم القمع المعلن أو المضـمر، وشيئا فشيئا، ترتقي تلك الأفكار في النفس إلى درجـة اليقـين الجازم بأنـها حـق، حتى ما كان منها مظنونا أو موهوما، لأنـها لم تمتحن بتداولها مع الآخرين.. فيرتقي في نفسه ما يرى من أفكار مخالفة بأنها باطل ضال، وفي نهاية المطاف، ينتهي الأمر بـهذا الفرد المقمـوع في رأيه إلى أن يكون منـافرا للآخرين، ناشزا عنهم، ناميا في اتجاه معاكس لاتجاه العامة، ولا يلبث كل ذلك أن يعبر هذا المقموع عن نفسه في مظاهر عملية من الخصام والغلو والتطرف والخروج على الجماعة [3] .

            على أن مقتضى الاعتداد اليوم بمراعاة المعاصرة والواقعية في إصلاح الأساليب والوسائل التعليمية في العصر الراهن يتحقق من خلال الاستغناء [ ص: 151 ] التام عن جزء غير يسير من تلك الوسائل، التي لم تعد صالحة لتعليم النشء في القرن الحادي والعشرين، أعني أساليب الترهيب والضرب والتأليم النفسي والجسدي وسواها من الأساليب القديمة، التي أضحى ضررها اليوم أكبر من نفعها في كثير من الأحيان، وكذلك الحال في أساليب التسلط والتكميم والاستعلاء والازدراء وسواها من الأساليب التعليمية القديمة البالية، وبدلا منها جميعا، ينبغي أن تكون هنالك - كما قررنا سابقا - عودة مباركة وحميدة إلى الأساليب الإسلامية الأساسية الخالدة في مجال التربية والتعليم، أعني أساليب التشويق والترغيب والإقناع والانفتاح والحرية وسواها، فهذه الأساليب الراقية كانت في الأساس أساليب إسلامية، غير أنها انزوت واختفت - بقدرة قادر- في الحياة الإسلامية المعاصرة، وحلت محلها تلك الأساليب، التي لا تتناسب بأي حال من الأحوال مع واقع النشء في القرن الحالي.

            إن الطفل الناشئ يحتاج إلى خطاب "يبني ويكون ويغرس في نفسه الصفات والطاقات النفسية الإيجابية، التي تدفعه إلى الثقة بنفسه، والرغبة في أداء مهمته في الحياة والاعتزاز بها، والشوق إلى النجاح فيها، ومعرفة أسرارها، بما يجعل شخصيته تتجلى بالقوة والثقة والاعتزاز والمبادرة وما يتصل بها من صفات لازمة لنجاح الأمة في أداء مهمتها في الخلافة.. إن من المهم أن نجنب الطفل في مراحل تكوينه النفسي خطاب الإرهاب والتخويف السلبي المدمر للطاقات النفسية اللازمة لصفات الشجاعة والثقة والاعتزاز والمبادرة، وأن ننهج في تربيته وفي الإجابة على تساؤلاته منهج الحب والتشجيع فيما يتعلق بمفهومه [ ص: 152 ] ونظرته وعلاقته بالله سبحانه وتعالى الحق العدل الودود الرحمن الرحيم، بحيث يقبل الطفل، في قوة وفي صبر وفي تشوق وفي حب، على الله سبحانه وتعالى وعلى الحياة، ودوره فيها، وعلى الدار الآخرة ولقاء الله فيها، أي تلقين الصغير لمبادئ الدين وقيمه وغاياته وعقائده يجب أن تكون في مراحل التكوين الأولى إيجابية تنمي مشاعر الحب والشوق والتطلع والإنجاز، لأن من يحب ويتطلع ويعتز يقبل ويؤدي ويتفانى ويضحي ويصبر، أما من يخاف ويرهب، فهو يحذر، وينفر، ولا يعمل إلا بالحد الأدنى وتحت ألوان من الصراع والتمزق النفسي المستمر والذي يلازمه طوال حياته نتيجة مشاعر الإرهاب، التي تنفره عن الإقبال من ناحية، وتدفعه إلى الخضوع والإذعان من ناحية أخرى، فيكون التكاسل وعدم الانتظام والتقصير والتفاوت والتناقض والأداء بالحد الأدنى وعلى غير حماس أو إتقان، وهو ما نلحظه من صفات أكثر المسلمين في العصور المتأخرة.." [4] .

            ومن الأمور: التي ينبغي الالتفات إليها في مجال إصلاح الوسائل التعليمية التقليدية، الإسراع في تمكين المعلم من أوجه الاستفادة مما جادت به الأيام من وسائل وتكنولوجيات تعليمية حديثة بحسبانها وسائل تقصر المسافات، وتعصم الجهود والأوقات من الضياع، وسوء الاستغلال، فليس من الحكمة، ولا من الإسلام في شيء الجمود على الوسائل التعليمية التقليدية وتقديسها، بل لا بد [ ص: 153 ] من تحـديثها والتخـلص من كافة الوسائل التقليدية، التي تجاوزتها الأمم المتمدنة والمتقدمة.

            ولهـذا، فليس من حصيف القول ولا من سديد الرأي، اعتبار الاجتهادات التربوية والتعليمية المتصلة بمحتوى مناهج العلوم الإسلامية وأسـاليبها التربوية اجتهـادات مقدسـة ودائمة وأبدية، بل يجب أن تخضع بما تخضع لها كافة الاجتهـادات من إصـلاح ومراجعة وتقويم وتسديد وتطوير وتغيير إذا لزم الأمر في بعض الأحيان. وهذا ما درجت عليه كثير من الأمم المتمدنة والراغبة في التقدم والتطور والنهضة، حيث إنـها تتعهد مؤسساتـها التعليمية وخـاصة منـاهجها التعـليمية بالمراجعة الدائبة والتقويم المستمر، وتحدث فيها الكثير من التعديلات والتطويرات والتغييرات لتلبية ما يستجد في واقعها وأحوالها.

            وصفوة القول، إن الأساليب التعليمية السائدة في كثير من الأقطار الإسلامية تحتاج إلى الارتقاء بها وتجريدها من جميع ألوان الترهيب والتأليم النفسي والجسدي؛ وليكن الرفق والرحمة والتشويق والحوارية والنقدية والترغيب الأساليب الأساسية الشائعة في المؤسسات التعليمية، التي ترنو إلى إعداد الفرد الصالح الملتزم بقيم دينه، القادر على التفاعل والتأثير في مجتمعه، والقادر على القيام بمهمة الخلافة لله، وعمارة الأرض وترقيتها وفق منهج الله، وذلك هو غاية الإصلاح المنشود للمناهج والمؤسسات التعليمية. [ ص: 154 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية