الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            معلومات الكتاب

            مناهج العلوم الإسلامية والمتغيرات العالمية

            الأستاذ الدكتور / قطب مصطفى سانو

            الفصل الأول

            في المسألة التعليمية والمناهج

            الإطار والأهمية

            - الفقرة الأولى: في المسألة التعليمية والمناهج: الإطار:

            إن الحديث عن مناهج العلوم الإسلامية ومدى قدرتها على الصمود والبقاء أمام زحف التغيرات والتطورات كان ولا يزال يدفع الجيل الصاعد إلى طرح جملة حسنة من الأسئلة المحورية المحرجة المتمركزة حول طبيعة تلك المفاهيم والتصورات والمعارف، التي أنتجتها علومنا المسماة بالعلوم الإسلامية من حيث الثبات، والتغير، والتطور، والتحول في ضوء الأوضاع الفكرية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية المتجددة، والمتغيرة!

            أجل، ليس من مرية في أن هذا الجيل الصاعد يرنو اليوم - أكثر من أي وقت مضى - إلى رؤية تلك العلوم، التي تركها الأجداد، وهي تزاحم أخواتها من العلوم المسماة بالعلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، في تجدد رشيد مستمر لأهدافها، وتطور متتابع حصيف لمحتوياتها ومكوناتها، وانفتاح واع عميق لوسائلها وأساليبها، وذلك بغية صيرورتها علوما مواكبة وقادرة على إعداد جيل [ ص: 33 ] ينتج المعارف والمفاهيم، ويساهم - بفاعلية - فيما يدور حوله من أحداث وتغيرات وتطورات، طمعا في أن تعود للأمة الغراء تلك الريادة الفكرية، والهيبة العلمية، والقيادة المعرفية الرشيدة، التي تئن إليها البشرية في العصر الحاضر، وتتطلع إليها الإنسانية نتيجة حيدة الإنسان المعاصر عن الجادة، وجور الزمان على قيومية تعاليم الخالق الديان على الحياة المعاصرة!

            نعم، لقد علت، منذ ما يربو على عقد من الزمن، أصوات وصرخات، داعية الأمة الإسلامية في أرجاء المعمورة إلى القيام بتغيير جذري محتوم عاجل وشامل لمناهج التعليم الموسوم بالتعليم الديني (=العلوم الإسلامية) بغية تفريغها من محتوياتـها ومضامينها، وذلك بحسبانها - في خلدهم - المناهج المسؤولة عما جرى وما يجري في العالم المعاصر من تصادم وتناحر وخصام وتدافع بين الحضارات المتعاقبة والثقافات المتعددة، كما أنها تعد - في حس صانعي قراراتهم الفكرية والحضارية - المناهج المسؤولة عن حالة الاكفهرار الدائم بين الشعوب، والرفض المطلق لكافة المشاريع الوافدة، والكراهية المتنامية لوجود (الآخر)، والنبذ العنيف المتصاعد لكل ما هو وافد غربي أو شرقي، مما أدى إلى فصام عنيد نكد، وشك متأصل بين الإنسان المسلم المعاصر وأخيه الإنسان في ذلك العالم الآخر.

            وفضلا عن هذا، فلقد لاذ زمرة من أولئك المصدوعين المفجوعين من هول المصيبة بتقرير القول: إن مناهج علومنا الإسلامية الموروثة هي التي أخرجت - ولا تزال تخرج - للعالم تلك الجماعات الفكرية المتزمتة، [ ص: 34 ] والتنظيمات الإرهابية المتطرفة المسلحة، التي لا تطيق - بأي حال من الأحوال- التعـايش مع (الآخر)، ولا تعتد - لا فـكرا ولا سلوكا - بحق المخـالف، أي مخالف، لها في الحياة والأمن والاستقرار، لذلك، فإن تغيير مناهج هذه العلوم، بأهدافهـا ومحتوياتـها ومقرراتـها وأسـاليبها، يعـد - في رأيهم - ضـرورة حتـمية لا محيص منها، بل إن تغيير تلك المناهج يعد واجبا إنسانيا لا مناص منه، في حس صانعي الحضارة الغالبة المتحكمة!!

            إي، في غمرة هاتيك الصرخات الصاخبة الملحة، وتلك النداءات العنيفة المهددة والمصرة على ضرورة القيام بواجب التغيير العاجل، انتبذت في عقر ديارنا أقلام أخر مغلوب على أمرها، وطفقت تلفق مزيدا من تلك التهم الجزاف، وتردد - بلا وعي ولا خجل- ذلك التحامل الرخيص والغمز الجارح على العلـوم الإسـلامية عامة ومناهجـها خاصة، فأقسمـت هي الأخرى -والانهزام الفكري المهين يملؤها - بأنه لا يحق لامرئ -أي امرئ - أن يجادل أو يشكك فيما انتهى إليه القوم من آراء مقلوبة وأفكار مشبوهة حول مسؤولية المناهج عن سائر الأحداث والكوارث، التي يشهدها عالمنا المعاصر، بل إنهم ملأوا الأصـقاع ضجيجا وصراخا بكون منـاهج العلوم الإسلامية هي المسـؤولة، المسـؤولية الأسـاس عما يموج العالم اليوم من صدام حاد بين الحضـارات، ومن تنافر مرير بين الثقافات، ومن تناكر واضح بين المنطلقات والرؤى، فضلا عن تضارب مشهود بين مصالح عالمنا الإسلامي والعالم الآخر!! [ ص: 35 ]

            أجل، إن بعضا من أولئك المنبهرين بما انتهى إليه صناع القرار هنالك من تقرير صارم يؤكد مسؤولية مناهج العلوم الإسلامية، بالغوا في ترديد تلك التهم بين الملأ، وأسرفوا في تأكيدها بين العالمين، ونشرها في الآفاق، فنادوا - على حين غفلة منهم- بالإغلاق الفوري العاجل للعديد من المؤسسات والمراكز والمعاهد والكليات الإسلامية في الأقطار الإسلامية وغيرها، ظنا منهم بأن تيك المؤسسات والمراكز والكليات هي البؤر، التي أعدت ولا تزال تعد أولئك المسؤولين عن كافة الجرائم، التي يرتكبها الأفراد والجماعات باسم الدين الحنيف، إن بطريقة مباشرة أو غير مباشرة! والحال أن هؤلاء المبهورين المنهزمين لا يدرون بأن السواد الأعظم من أولئك المشتبه بهم المتهمين بارتكاب تلك الجرائم ما قضوا -ولو يوما- في أحضان تلك المؤسسات والمراكز والكليات الإسلامية، وليس أدل على ذلك من سيرهم الذاتية، التي لا تدع مجالا للشك في كونهم نتاج كليات وجامعات ومعاهد غير شرعية!!

            بل إنه من المخجل حقا أن يتسارع - في خضم تلك الدعوات المتحاملة- العديد من المؤسسات والمعاهد والمراكز العلمية في تلك الديار إلى فتح مزيد من الأقسام والشعب للعلوم الإسلامية والفكر الإسلامي سعيا منهم إلى التعرف على حقيقة ما يعرف لدى بعض مفكريهم بذلك "المارد الجديد القادم الهادم"!

            نعم، أمام تلك الاتهامات الفكرية الخجلى، والإكراهات المعرفية الوجلى، تزاحمت في الوسط الفكري الإسلامي هي الأخرى أفكار حيارى، وتعالت [ ص: 36 ] طروحات متناقضة، وانتفضت رؤى في أشكال متعددة مدافعة ومندفعة ومتحمسة ترفض - جملة وتفصيلا- أي مساس أو مراجعة لعلومنا الإسلامية بمناهجها، ومحتوياتها، ومقرراتها، وأساليبها، بل إنها أنكرت - إنكارا شديدا - أن يكون ثمة أدنى رحم بين تلك العلوم وذلك المكروه السياسي، الذي ألم بديار القوم، مما يجعل - والحال كذلك - تحمل المناهج وزر ذلك الإثم المبين من لغو القول، وفحش البيان، وجور التصرف، وبتعبير أدق، لا حاجة - فكرا وعملا - إلى أية مراجعة لتلك المناهج، ولا مبرر منطقيا للمساس بتلك المناهج السديدة والقويمة الصالحة لكل زمان ومكان!

            أجل، لئن كانت هذه الرؤى ذات طبيعة ردة فعل تمثل موقف السواد الأعظم ممن درسوا على مناهج علومنا الموروثة، فإن الحقيقة التي لا يمترئ فيها امرؤ ذو وعي حصيف أن هنالك في الوسط الفكري الإسلامي الرصين طائفة غير منكورة من أهل التحقيق الفكري السديد والوعي الحضاري المكين ما كان لهم ليشاطروا - بأي حال من الأحوال - موقف أولئك المندفعين، بل ما كان لهم ليصدروا في موقفهم عن ردة فعل لغلو الهجمات الفكرية والتحاملات الممنهجة على مناهج العلوم الإسلامية، بل إن أولئك الطائفة من المحققين الرافضين - الفعل ورده - تؤمن إيمانا قارا بضرورة البحث الجاد الموزون عن سائر السبل والطرق، التي ينبغي اتباعها من أجل الحفاظ على أصالة علومنا الإسلامية، وذلك بتطوير مؤسساتها، والنهوض بها، ومراجعة مناهجها، وإصلاح محتوياتها، وعصرنة أساليب تدريسها، وطرق تقويمها، لتغدو - بعد - علوما تنتج مفاهيم ومعارف تخاطب الواقع المتغير مخاطبة حضارية مؤثرة، وتسـدد العالم [ ص: 37 ] المتطور من حولها بدعم الجـديد الوليد المفيد، وتجاوز القديم التليد المبيد، وتدفع - في الوقت نفسه - عن نفسها، ودارسيها تهم التخلف، والتقهقر، والتطرف، والتشـدد، والإرهاب، اعتبارا بكونها علوما أسهمت ذات يوم -بفاعلية- في إنتاج تلك المعـارف والمفاهيم والحقائق التي بنت - بشهادة التاريخ - أعظم حضارة عرفها الإنسان يوم أن كانت مناهج مواكبة ومتطورة وشاهدة!!

            ومن ثم، فإن المخرج الرشيد من هذا التيه الفكري، والتناكر المعرفي، يكمن في نظرنا في ضرورة استيعـاب تلك الطروحات الوافـدة المبتـورة التي تكيل التهم جزافا على مناهج العلوم الإسلامية، وذلك بغية إبراز ما تنطوي عليه تلك الطروحات من ضحالة فكرية واضحة، وفقر منهجي جلي لتعارضها الواضح مع أبسط أبجديات النظر العلمي، والتحليل الفكري الرصين المتمثل في التزام الموضوعية، والتجرد عند مناقشة الأفكار والآراء بعيدا عن القناعات القبلية، والمواقف الفكرية المسبقة!

            وبمقابل هذا، إننا نرى أنه ينبغي - كذلك - التبرؤ من ردود الفعل المتحمسة المنغلقة، ومن الدفاعات الرخيصة المكرورة القائمة على استصحاب نظرية المؤامـرة الدائمة في كل صغـيرة وكبيرة، وعلى الرفض المطلق لأي فكر أو مشروع وافد بغض النظر عن وجـاهته وسداده ورشاده، إذ إن هذه الردود لا تستند -هي الأخرى- على منهجية علمية واعية، وتفتقر إلى الموضوعية والواقعية، وذلك اعتبارا بكون الشأن التربوي في شرعنا شأنا اجتهاديا لا يسمو - بأي حال من الأحوال- على المراجعة المستمرة، والتطوير الدائم، والتحديث [ ص: 38 ] المواكب، مما يدفع عن المناهج وغيرها من الأفكار والرؤى البشرية القدسية العلية، والصوابية المطلقة!

            وتأسيسا على هذا، فإن المنهجية العلمية الرشيدة تقتضي رفض كلا الموقفين: المندفع والمنغلق، وضرورة تجاوزهما لعلة الاندفاع المتعالي المرفوض من جهة، ولعلة الانغلاق المتزمت المردود من جهة أخرى!

            إن اللواذ بالنظرة الموضوعية الواقعية المتجردة في التعامل مع هاتي الإشكالية المعقدة هو المنقذ من هذا الضلال المرجعي المتنافر، وهو الهادي من هذا التيه الفكري المتناحر، إذ لا يمكن أن يتحقق للأمة تمكين، فشهود حضاري، ما لم تستعد دورها الريادي، ومشاركتها الفاعلة في ترشيد وتوجيه الفعل الإنساني، وذلك من خلال اتخاذها مبدأ المراجعة الدائبة والإصلاح المستمر لمناهجها التربوية، ومؤسساتها العلمية، ونظمها التعليمية، التي تمرض كما يمرض البشر، وتهرم كما يهرم البشر، مما يتطلب تطعيمها، وتقليصها من الوهن والضعف!

            على أنه من نافلة القول: إن تحقيق الشهود الحضاري لعموم الأمة بمنطوق الآية الكريمة: ( وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا ) (البقرة:143)، يتوقف على امتلاك الأمة امتلاكا راسخا ومتينا ومواكبا أزمة سائر العلوم والمعارف النقلية والعقلية والعمرانية والطبيعية.

            وبتعبير آخر، إذا كان تحقيق الشهود الحضاري فريضة على عموم الأمة في كل العصور والأمصار، وكان تحقيق ذلك الشهود الحضاري متوقفا - أصالة [ ص: 39 ] وتبعا - على تمكن الأمة وريادتها في جميع العلوم النقلية والعقلية، فإن تحقيق القيادة والريادة في تلك العلوم يغدو - ثم - واجبا يأثم عموم الأمة إذا لم تقم به، استنادا إلى القاعدة الأصولية: "ما لا يتم الواجب المطلق - تحقيق الشهود الحضاري - إلا به- التمكن من العلوم النقلية والعقلية - فهو واجب- أي التمكن من تلك العلوم بنقليها وعقليها"!

            وبطبيعة الحال، إن تحقيق القيادة والريادة في العلوم النقلية والعقلية والعمـرانية والطبيعية يتوقف هو الآخر على ضرورة تعهد مناهج تلك العلوم - أهدافا، ومحتويات، وأساليب - بالمراجعة الدائبة، والترقية المستمرة، والتجديد الصائب لتقوى مخرجاتها ومنتجاتها على التوجيه والتسديد؛ لذلك، فمن مكرور القول: اعتبار تينكما المراجعة والترقية وذينكما التجديد والتحديث داخلة في الواجب الفكري، الذي يتوقف عليه تحقيق الشهود الحضاري لعموم الأمة!

            وصفوة القول، يجب على الأمة الإسلامية وجوبا أزليا أن تكون شاهدة على غيرها تحقيقا للأمر الإلهي السالف ذكره، وذلك من خلال تمثلها تمثلا فعليا مقومات الشهادة المنشودة (=الشهود الحضاري) المتمثلة في تحقيق الريادة العلمية في سائر علوم الحضارة والإعمار، والقيادة الفكرية في ابتكار النظريات والرؤى الإعمارية البناءة، والسيادة الخلقية في تعاملها مع مخرجات العلوم ومنتجاتها، فضلا عن ضرورة تعهدها سائر علوم الحضارة والبناء والإعمار بالمراجعة المسؤولة، والتجديد المرجو لمناهجها، ومحتوياتها، وآلياتها المتغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال. [ ص: 40 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية