الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
            الفقرة الثانية: في مناهج العلوم الإسلامية وقاعدة: تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال [1] :

            أوردت مجلة الأحكام العدلية في مادتها التاسعة والثلاثين قاعدة تعد من درر القواعد الفقهية الأصولية الناصعة المبرزة لمبدأي المرونة والسعة، اللذين يعتبران سمتين لازمتين لتعاليم الإسلام الحنيف، ونص هذه القاعدة كما ورد في المجلة هو: "لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعادات والتقاليد والأعراف".

            واعتدادا بما يمكن أن يثور من إشكال حول هذه القاعدة بهذه الصياغة، وذلك انطلاقا من المقرر لدى علماء الفـكر الأصـولي أن ثمة أحكاما ثابتة [ ص: 80 ] لا يمسـها تغـير ولا تقبل تغييرا ولا تطويرا، بل إنها بطبيعتها تسمو على تعدي صروف الزمان والمكان وتقلبات الأوضاع والأحوال والعادات والتقاليد، ومرد هـذا إلى كون تلك الأحـكام أحـكاما ذات نصوص قطعية في الثبوت والدلالة.

            بناء على هـذا، فإن القاعدة المذكورة بصياغتها المشهورة لم ولن تسلم من إشكال، وقد فطن لهذا النوع من الإشكال، الذي يثار حول القاعدة جهـابذة العلماء المحققين، وعلى رأسهم الإمـام القيم ابن قيم الجوزية، حيث أعـاد صياغة هذه القـاعدة صياغة تتجاوز الإشكال المذكور وتعبر عن المقصود منها، فقال، رحمه الله، ما نصه: فصل: في تغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيات والعوائد.. [2] . فهذه الصياغة تعد صياغة غير مباشرة للقاعدة وتدل على المراد منها بشكل أكثر دقة ووضوحا.

            وعلى العموم، لنتجاوز ما يمكن أن يثار من إشكال إزاء القاعدة في صياغتها الشهيرة، ولنعتد بهذه الصياغة في هذه الدراسة مستندين إلى ما تواتر عند عامة أهل العلم بالفقه والأصول من كون الأحكام الشرعية منقسمة إلى أحكام ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والعوائد، وإلى أحكام [ ص: 81 ] أخرى متغـيرة بتغير الأزمنة والأمـكنة والأحوال، وتستمد الأحكام الثابتة ثباتها من كونـها أحـكاما مستفادة من نصوص قطعية في الثبوت والدلالة لا تؤثر فيها الظروف الزمنية ولا تعـتريها الأحـوال المكانية، ولا تمسها تقلبات الأوضاع والأحوال، وذلك بحسبانها أحكاما فوق الزمان والمكان والوضـع، وصالحة لكل زمان ومكان، بل إنها تمثل نقطة الالتقاء والاتفاق بين عموم المسلمين، ولم ولن لا يؤثر فيها خلاف معتبر بين أبناء الأمة الإسـلامية. وتنتظـم هذه الأحـكام الثابتة الخـالدة جمـلة أصول العقيدة، وكبرى الواجبات الشرعية (أركان الإسلام وأركان الإيمان الخ..) والمحرمات العينية (الكبائر)، والفرائض، والحدود، والمقادير، وسواها من المسائل الموسومة بالثوابت والقواطع المعلومة من الدين بالضرورة، ولا يعذر أحد في جهلها من أهل القبلة.

            وأما الأحـكام المتغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة والأحـوال، فإن تغيرها يعـود إلى كونـهـا أحـكاما مستفـادة من نصوص ظـنية في الـدلالة أو في الثبـوت أو فيهما معا، مما جعلها أحكاما متأثرة بتغيرات الظروف الزمنية، وتحولات الأحوال المكانية، وتقلبات الأوضـاع الاجتماعية، ولذلك لا غرو أن يعتد جميع العارفين بالشرع بوجود ذلك التأثير الكبير للأحوال الزمنية والمكانية والأوضاـع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية في تلك الأحكام! [ ص: 82 ]

            وفضـلا عما سبق، فإن هذه الأحكام المتغيرة تعد في واقع الأمر أحكاما صاغتها العقول البشرية المحدودة بحـدود الزمان والمكان هادفة إلى توقيع المراد الإلهي السـامي على واقع الإنسان، وتسـديد الحياة بتعاليم الخالق الديان في يسر وسهـولة، كما تعد هذه الأحكام بمجملها أحكاما ذات ارتباط وثيق وعميق بالظروف الزمانية والأحوال المكانية والأوضاع الاجتماعية والسياسية، والوسائل الزمنية والظروف الفكرية والاجتماعية والسياسية السـائدة، الأمر الذي جعل من هـذه الأحـكام أحكاما تعد في فترة من الزمن تدابير أو علاجا لأوضـاع أو ظروف، لكنها تغـدو مع مرور الزمـن وتغـير الأحوال وتبدلها لا توصل إلى المقصود منها، بل ربما تفضي إلى العكس، مما يستوجب تغيرها بتغير الأزمنة والأمـكنة والأوضاع، التي صيغت فيها.

            وعلى العمـوم، تمثل هـذه الأحكام المتغيرة السواد الأعظم من الأحـكام الشرعية، إذ إنها تشمـل سائر الأحـكام الشرعية عـدا الأحـكام القطعـية المستفادة من النصـوص القطعية الثبوت والدلالة! وبتعبير أدق، هي مجموع الأحكام الشرعية المرنـة المتعلقـة بأفعـال المكلفين في معاشـهم ومعادهـم، وتتـغير كلما تغيرت الأزمنة، أو تحولت الأمكنة، أو تقلبت الأوضاع!

            وتأسيسا على هذا، فإن النظر إلى المسـألة التعليمية عامة ومسألة مناهج العلوم الإسـلامية خـاصة، يجـدها المرء أنهـا من جنس الأحكام المتغيرة، [ ص: 83 ] التي لا ينكر تغيرها بتغير الأزمنة والأمـكنة والأحـوال والأوضاع، ذلك لأنها -كما أسلفنا- اجتهادات بشرية تصاغ في شكل مقررات دراسية سعيا إلى تمكين النشء من التعامل مع الأوضاع الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية السائدة وفق النظرة الإسلامية الشاملة للإنسان والكون والحياة. وتعد المناهج من جنس الوسائل، التي يسري عليها التغير والتبدل والتحول، والمعهود عن الشرع الحكيم عدم تحديد الوسائل في معظم الأحيان، وخاصة إذا كانت تلك الوسيلة ذات تأثر بالأوضاع الاجتماعية والفكرية والسياسية والأحوال الزمنية.

            إن عامة أهل العلم بالفقه والأصول يقررون بأن تغير الأحكام الاجتهادية يعود إلى تغير الزمان والحال، وأن لتغير الزمان سببين في الغالب الأعم، وهما: الفساد، والتطور. فالأحكام الاجتهادية يمكن تغييرها نتيجة فساد الزمان عملا بما قرره الخليفة الراشد الخامس عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - عندما قال: يحدث للناس من الأقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور. وتراثنا الفقهي الأصولي مليء بالعديد من الأحكام الفقهية، التي تغيرت نتيجة فساد الزمان، وفقدان الورع، وضعف الوازع.

            وأما السبب لتغـير الزمان، فيكمن في سنـة التطور، التي تغشى الأفـكار والاجتهـادات والأشياء، وتؤثر في الحكم الاجتهادي القديم، وتجعله حكما غير صالح ولا مـلائم للوضـع الجـديد، مما يستلزم ضرورة [ ص: 84 ] تغير الأحكام الاجتهادية لتواكب وتلائم الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية، التي تستجد في حياة الناس.

            اعتبارا بكون مسألة مناهج العلوم الإسلامية من جنس المسائل التي تنشأ - كما أسلفنا - في الغالب الأعم لتمكين النشء من التعامل مع مختلف الأوضاع، لذلك، فإنها تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع، وبقاؤها بلا تغير مع تغير الأوضاع، التي تنشأ فيها يفضي بها إلى أن تغدو عائقة وحائلة دون تحقيق الأهداف المرجوة منها.

            وبناء على هذا، فإننا ننتهي إلى القول: إن مناهج العلوم الدينية/ وغير الدينية تتغير بتغير الأوضاع والأحوال، وقد يكون مرد تغيرها فساد الزمان، وفقدان الوازع، وقلة الورع، وربما كان الداعي إلى تغيرها تغير الأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وكل واحد من هذين السببين كاف لإصلاح المناهج وتعهدها بالتطوير والمواكبة والملاءمة لما يستجد في واقع الناس من أوضاع وظروف.

            على أنه من الحري بنا أن نبادر إلى تقرير القول: إننا لا ننكر اشتمال مناهج العلوم الإسلامية على جملة من القيم والمعلومات والمعارف الثابتة، التي لا تقبل تغييرا ولا تبديلا ولا تحويلا بحسبانها قيما وحقائق سامية لا تخضع للتاريخ، ولا يؤثر فيها الزمان والمكان والحال، غير أننا نقرر ونؤكد أن صياغات تلك القيم والمعلومات والمعارف الثابتة هي التي تتغير بتغير الأزمنة والأوضاع والأحوال، لأنها تعد اجتهادات بشرية غير معصومة لم تخل ولن تخلو من التأثر [ ص: 85 ] بالأوضـاع والأزمنة والأمـكنة والأحـوال والعادات والتقاليد والأعراف، التي كانت سائدة عشية صياغتها وتدوينها، ولذلك، فإن التغير في المناهج يتجه إلى تلك الصياغات والاجتهادات، ولا يتجه - بأي حال من الأحوال- إلى ذات الحقـائق والقيم الثابتة المقررة في ثنايا الكتاب الكريم والسنة الصحيحة الشريفة.

            وفضلا عن هذا، فإنه من غير المنكور أن الأساليب التربوية برمتها تعد وسائل اجتهادية توظف من أجل تمكين النشء من القيم والحقـائق والمعلومات والمعارف الثابتة والمتغيرة، وتتغير بتغير الأنظار الاجتهادية التربوية، وتفاوت الأذواق التعليمية، ومداهمة الأوضاع الفكرية والتربوية المتجددة بتجدد الزمان والمكان.

            وأما طرق التقويـم في مناهج العلوم الإسلامية، فإنها كسابقتها تعد طرائق اجتهادية متغيرة وقابلة للتطوير والتغيير والتبديل، ذلك لأن للأوضاع الفـكرية والتربوية تأثيرا كبيرا في صياغتـها، وضبطـها، كما أن لظروف الزمان والمكان أثرهما في تكوينها وتصقيلها بحسبانها طرائق ابتكرتها العقول، وتنامت عـبر الأجيال، ولا تزال تشهد بين الفينة والأخرى تغييرا وتطويرا وتحويلا واستغناء.

            وصفـوة القـول، إن علاقة مناهج العلوم الإسلامية بعناصرها الأربعة - الأهداف، والمحتويات، والأساليب والوسائل - بقـاعدة تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأوضـاع علاقة وثيقة، وتعد من أبرز مظاهر النظر الاجتهادي [ ص: 86 ] في مجـال المسـألة التعليمية بصورة خاصة، ذلك لأن المناهج بعناصرها الأربعة تعد من جنس المسائل الاجتـهادية التربوية، التي تنشأ في رحم الظـروف والأوضـاع الفـكرية والاجتمـاعية والسيـاسـية والاقتصادية، مما يستـدعي ضرورة تجديد النظر والتأمل والتمعن فيها عند تغير تلك الظروف والأوضاع الفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وليس من خلاف في أن سنة التطور والتغير تغشى سائر الأحكام الاجتهادية، سواء أكانت تلك الأحـكام متعـلقة بالشـأن الاجتماعي، أو الشأن السياسي، أو الشأن التربوي والتعليمي والاقتصادي، ولذلك لا بد من استحضار هذه السنة عند الحديث عن إصلاح مناهج العلوم الإسلامية وسواها من المسائل المرتبطة بالتربية والتعليم.

            أجل، إن الإعراض عن إصلاح مناهج العلوم الإسلامية في ضوء التغيرات المتلاحقة والتطورات المتواصلة، التي تداهم الحياة الإسلامية، لا يعدو أن يكون رفضا غير مبرر لهذه القاعدة الفقهية الأصولية الناصعة، كما لا يعدو أن يكون ذلك إخراجا للمسألة التربوية والتعليمية من دائرة الأحكام الاجتهادية المتغيرة بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع، ولا يخفى ما في ذلك من شطط وخروج على الجادة ومخالفة للمنهجية الإسلامية الراسخة التي تأبى الخلط بين الثوابت والمتغيرات، وبين القواطع والمظنونات.

            فلئن اتفق العالمون من الفقهاء والأصوليين على عدم جواز تحويل الثوابت والقواطـع من الأحكام إلى متغيرات، ويعدون ذلك اعتداء صارخا على [ ص: 87 ] مقررات الشرع والمعـلوم من الدين بالضرورة، فإنهم يتفقون أيضا على عدم جواز تحـويل المتغيرات من الأحـكام إلى الثوابت والقواطع تفويتا على النظار والمحققين من أهل الاجتهاد حقهم في تجديد النظر والتأمل في تلك الأحكام، التي أرادها الباري - جل جلاله - أن تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأحوال والأوضاع.

            وصفوة القول، إن مناهج العلوم الإسلامية بعناصرها مندرجة ضمن قـاعدة: لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمنة والأمكنة، وينطبق عليها الأسباب الموضوعية والظرفية والمنهجية المتمثلة في التطور، وفساد الزمان، وسواهما، فثمة تطور حثيث وتطور متلاحق في كافة المجالات، كما أن ثمة فسـادا واضحا في التصور والسـلوك والممـارسة لدى كثير من الصبية، الذين أساؤوا فهم مقررات العلوم الإسلامية، فتمثلوها تمثلا خاطئا مخالفا لمقاصد تلك العلوم. [ ص: 88 ]

            التالي السابق


            الخدمات العلمية