الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ومن الحوادث أمر الله عز وجل الخليل ببناء البيت

قد ذكرنا أن إبراهيم عليه السلام قدم مكة بهاجر وإسماعيل ، فوضعهما هنالك ، ثم قدم لزيارة ابنه ثلاث مرات ، فلقيه في الثالثة ، وقال له: إن الله قد أمرني أن أبني بيتا هاهنا .

وقد روى خالد بن عرعرة ، عن علي عليه السلام ، قال: أوحى الله تعالى إلى إبراهيم أن ابن لي بيتا في الأرض ، فضاق إبراهيم بذلك ذرعا ، فأرسل عز وجل السكينة وهي ريح خجوج ولها رأسان ، فانتهت به إلى مكة فتطوقت على موضع البيت كتطوي الجحفة ، وأمر إبراهيم أن يبني حيث تستقر السكينة ، فبنى إبراهيم وبقي حجر ، فانطلق الغلام يلتمس له حجرا فأتاه فوجده قد ركب الحجر الأسود في مكانه ، [ ص: 270 ] فقال: يا أبت من أتاك بهذا الحجر ، قال: أتاني به من لم يتكل على بنائك ، جاء به جبرئيل من السماء .

وروى حارثة بن مضرب ، عن علي رضي الله عنه قال: لما قدم إبراهيم مكة رأى على رأسه في موضع البيت مثل الغمامة فيه مثل الرأس ، فكلمه ، فقال: يا إبراهيم ابن على ظلي ولا تزد ولا تنقص .

حدثنا محمد بن عبد الباقي ، أخبرنا الجوهري ، أخبرنا ابن حيويه ، أخبرنا أحمد بن معروف ، حدثنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا محمد بن سعد ، أخبرنا محمد بن عمر ، حدثنا موسى بن محمد بن إبراهيم ، عن أبي بكر بن أبي الجهم ، عن أبي بكر سليمان بن أبي خيثمة ، عن أبي جهم بن حذيفة بن غانم ، قال: أوحى الله إلى إبراهيم أن يبني البيت وهو يومئذ ابن مائة سنة ، وإسماعيل يومئذ ابن ثلاثين سنة ، فبناه معه .

فإن قيل: هل بني البيت قبل إبراهيم؟

قلنا: ذكرنا في قصة آدم أن الله عز وجل أنزل ياقوتة فجعلها مكان البيت ، وأمر آدم بالطواف حولها . وفي رواية: أن آدم بناه ثم بناه بعده بنوه إلا أن الغرق عفى أثره ، وبقي مكانه أكمة إلى أن بناه الخليل .

فأما حدود الحرم: فأول من وضعها الخليل عليه السلام ، وكان جبرئيل يأمر به ، ثم لم يتحرك حتى كان قصي [بن كلاب] فجددها ، فقلعتها قريش في زمن نبينا صلى الله عليه وسلم ، فاشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه جبريل ، فقال: إنهم سيعيدونها ، فرأى رجال منهم في المنام قائلا يقول: حرم أعزكم الله به نزعتم أنصابه ، الآن يتخطفكم العرب ، فأعادوها ، فقال جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا محمد أعادوها ، فقال: فأصابوا؟ قال: [ ص: 271 ] ما وضعوا منها نصبا إلا بيد الملك .

ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح تميم بن راشد فجددها ، ثم جددها عمر بن الخطاب ، ثم جددها معاوية ، ثم عبد الملك بن مروان .

[فإن] قال قائل: ما السبب في بعد بعض الحدود وقرب بعضها؟

ففيه ثلاثة أجوبة:

أحدها: أنه لما أهبط الله عز وجل على آدم بيتا من ياقوت أضاء ما بين المشرق والمغرب ، ففرت الجن والشيطان وأقبلوا ينظرون ، فجاءت ملائكة تردهم ، فوقفوا مكان حدود الحرم . رواه سعيد بن جبير ، عن ابن عباس .

والثاني: أنه كان في ذلك البيت قناديل فيها نور فانتهى ضوء ذلك النور إلى مواضع الحرم . قاله وهب بن منبه .

والثالث: أنه لما وضع الخليل الركن أضاء ، فالحرم إلى موضع انتهاء نوره .

ومن الأحداث: أنه لما فرغ إبراهيم من بناء البيت أمره الله عز وجل أن يؤذن في الناس بالحج

قال ابن عباس: لما بنى البيت أوحى الله تعالى إليه: أن وأذن في الناس بالحج [22: 27] فقال: يا رب وما يبلغ صوتي؟ قال: أذن وعلي البلاغ . فقام على الحجر فنادى: أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتا وأمركم أن تحجوه ، فسمعه من بين السماء والأرض ، وأسمع من في أصلاب الرجال وأرحام النساء ، فأجابه من سبق في علم الله أنه يحج إلى يوم القيامة: لبيك اللهم لبيك ، فاستجاب له ما سمعه من حجر أو شجر أو أكمة [أو تراب] أو شيء: لبيك اللهم لبيك .

وقال عبد بن عمر: استقبل إبراهيم اليمن فدعا إلى الله وإلى حج بيته ، فأجيب: [ ص: 272 ] لبيك لبيك ، ثم إلى الشام فأجيب لبيك لبيك .

أخبرنا محمد بن عبد الباقي ، أخبرنا الجوهري ، أخبرنا ابن حيويه ، أخبرنا محمد بن معروف ، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة ، حدثنا محمد بن سعد ، أخبرنا هشام بن محمد ، عن أبيه قال: خرج إبراهيم إلى مكة ثلاث مرات دعا الناس إلى الحج في آخرهن فأجابه كل شيء سمعه ، فأول من أجابه جرهم قبل العماليق ، ثم أسلموا ، ورجع إبراهيم إلى بلد الشام ، فمات به ، وهو ابن مائتي سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية