الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ فصل ]

[ ص: 91 ] وفي زمان يزدجرد هذا هلك امرؤ القيس بن عمرو بن امرئ القيس ، واستخلف مكانه ابنه النعمان بن امرئ القيس بن عمرو بن عدي ، وهو صاحب الخورنق .

وكان سبب بناء الخورنق : أن يزدجرد الأثيم كان لا يبقى له ولد [ فولد له بهرام ] فسأل عن منزل صحيح من الأدواء والأسقام . فدل على ظهر الحيرة . فدفع ابنه بهرام جور إلى النعمان هذا ، وأمره ببناء الخورنق مسكنا له ، وأنزله إياه .

فبعث إلى الروم فأتي منها برجل مشهور بعمل الحصون والقصور للملوك يقال له: سنمار ، فكان يبني مدة يغيب - يقصد بذلك أن يطمأن إلينا ، فبناه في سنتين ، فلما فرغ من بنائه صعد النعمان عليه ومعه وزيره وسنمار ، فرأى البر والبحر ، وصيد الظبيان والظباء والحمير ، ورأى صيد الحيتان والطير ، وسمع غناء الملاحين وأصوات الحداة ، فعجب بذلك إعجابا شديدا ، وكان البحر حينئذ يضرب إلى النجف ، فقال له سنمار متقربا إليه بالحذق وحسن الصنعة: إني لأعرف من هذا البناء موضع حجر لو زال لزال جميع البنيان . فقال: لا جرم لا رغبة ، ولا يعلم مكان ذلك الحجر أحد . ثم أمر به فرمي من أعلى البنيان فتقطع .

وقيل: إنهم لما تعجبوا من حسنه وإتقان عمله قال سنمار - [ وكان قد جاءوا به من الروم لبنائه ]: لو علمت أنكم توفونني أجرتي وتصنعون لي ما أنا أهله بنيته بناء يدور مع الشمس حيثما دارت ، فقال: وإنك لتقدر على أن تبني ما هو أفضل منه ثم لم تبنه! ثم أمر به فطرح من رأس الخورنق [ فمات ] ، فكانت العرب تضرب بذلك مثلا فتقول: [ وكان ] جزاء سنمار " .

قال سليط بن سعد : [ ص: 92 ]


جزى بنوه أبا الغيلان عن كبر وحسن فعل كما يجزى سنمار

وقال آخر:


جزاني جزاه الله شر جزائه     جزاء سنمار وما كان ذا ذنب

وكان النعمان هذا قد غزا الشام مرارا ، وسبى وغنم ، وكان أشد الملوك نكاية في عدوه ، وكان ملك فارس قد جعل معه كتيبتين يقال لإحداهما: دوسر وهي لتنوخ ، والأخرى: الشهباء وهي لفارس ، فكان يغزو بهما بلاد الشام ، ومن لم يدن له من العرب .

وإنه جلس يوما في مجلسه من الخورنق ، فأشرف منه على النجف وما يليه من البساتين والنخيل والأنهار مما يلي المغرب ، وعلى الفرات مما يلي المشرق في يوم من أيام الربيع ، فأعجب بما رأى من الخضرة والأنهار فقال لوزيره: هل رأيت مثل هذا المنظر قط! فقال: لا ، لو كان يدوم! ؟ . قال: فما الذي يدوم ؟ قال: ما عند الله في الآخرة . قال: فبم ينال ذلك ؟ قال: بترك الدنيا وعبادة الله . فترك ملكه من ليلته ، ولبس المسوح ، وخرج مستخفيا هاربا لا يعلم به أحد ، وأصبح الناس لا يعلمون بحاله .

وفي ذلك يقول عدي بن زيد :


وتبين رب الخورنق إذ     أصبح يوما وللهدى تفكير
سره حاله وكثرة ما يلقاه     والبحر معرض والسدير
فارعوى قلبه فقال وما     غبطة حي إلى الممات يصير

وكان ملك النعمان إلى أن تركه وساح في الأرض تسعا وعشرين سنة وأربعة [ ص: 93 ] أشهر ، من ذلك في زمن يزدجرد خمس عشرة سنة ، وفي زمن بهرام جور بن يزدجرد أربع عشرة سنة .

التالي السابق


الخدمات العلمية