الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : سألت أبي ، فقلت : يا أبت ، الجهمية يزعمون أن الله تعالى لا يتكلم بصوت . فقال : كذبوا ، إنما يدورون على التعطيل ، ثم قال أحمد : حدثنا عبد الرحمن بن محمد المحاربي . قال : حدثني الأعمش عن أبي الضحى عن مسروق عن عبد الله بن مسعود قال { إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء } قال السجزي : وما في رواة هذا الخبر إلا إمام مقبول . انتهى . وتتمة الحديث { فيخرون سجدا ، حتى إذا فزع عن قلوبهم - قال : سكن عن قلوبهم - نادى أهل السماء : ماذا قال ربكم ؟ قالوا : الحق . قال : كذا وكذا } وقال القاضي أبو الحسين وغيره : ومثل هذا لا يقوله ابن مسعود إلا توقيفا ; لأنه إثبات صفة للذات . انتهى . وهو كما قال السادس : ما روى بهز بن حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال { إذا نزل جبريل بالوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم فزع أهل السموات لانحطاطه ، وسمعوا صوت الوحي كأشد ما يكون من صوت الحديد على الصفا . فكلما مر بأهل سماء [ ص: 186 ] فزع عن قلوبهم . فيقولون : يا جبريل ، بم أمرت ؟ فيقول : نور العزة العظيم . كلام الله بلسان عربي } السابع : ما روي عن ابن عباس في قوله تعالى ( { حتى إذا فزع عن قلوبهم } - الآية ) قال " لما أوحى الله الجبار عز وجل إلى محمد صلى الله عليه وسلم دعا الرسول من الملائكة ليبعثه بالوحي . فسمعت الملائكة صوت الجبار يتكلم بالوحي . فلما كشف عن قلوبهم سألوه عما قال ؟ قالوا : الحق ، وعلموا أن الله لا يقول إلا حقا ، وأنه منجز وعده - قال ابن عباس : وصوت الرحمن كصوت الحديد على الصفا - كلما سمعوه خروا سجدا ، فلما رفعوا رءوسهم قالوا : ما قال ربكم ؟ قال : الحق ، وهو العلي الكبير " الثامن : ما رواه أبو سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { يقول الله : يا آدم . فيقول : لبيك وسعديك فينادي بصوت : إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثا إلى النار } رواه البخاري وغيره التاسع : ما رواه النواس بن سمعان . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إذا أراد الله أن يوحي بأمر أخذت السماوات منه رجفة شديدة من خوف الله تعالى . فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا له سجدا ، فيكون أولهم يرفع رأسه جبريل عليه السلام ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فينتهي به جبريل عليه السلام إلى الملائكة ، كلما مر به في سماء سأله أهلها : ماذا قال ربنا يا جبريل ؟ قال : الحق ، وهو العلي الكبير . فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل فينتهي به جبريل عليه السلام حيث أمر من السماء والأرض } رواه الحافظ ضياء الدين بسنده إلى عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيان متصلا إلى النواس بن سمعان العاشر : ما رواه جابر بن عبد الله . قال { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرض نفسه على الناس بالموقف . ويقول : ألا رجل يحملني إلى قومه . فإن قريشا قد منعوني أن أبلغ كلام ربي } رواه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه الحادي عشر : ما رواه جابر . قال { لما قتل أبي يوم أحد . قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا جابر ، ألا أخبرك بما قال الله تعالى [ ص: 187 ] لأبيك ؟ قال : بلى . قال : وما كلم الله أحدا إلا من وراء حجاب ، إلا أباك . فكلم الله أباك كفاحا . فقال : يا عبد الله تمن علي أعطك . قال : يا رب تردني فأقتل فيك ثانية . فقال : سبق مني القول : أنهم إليها لا يرجعون . فقال : يا رب أخبر من ورائي . فأنزل الله تعالى { ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون } } رواه الترمذي وابن ماجه

الثاني عشر : ما رواه أبو هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى قرأ طه ويس قبل أن يخلق آدم بألف عام ، فلما سمعت الملائكة ، قالت : طوبى لأمة ينزل هذا عليهم ، وطوبى لأجواف تحمل هذا ، وطوبى لألسن تتكلم به } رواه ابن خزيمة الثالث عشر : ما رواه أبو أمامة الباهلي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما أذن الله تعالى لعبد في شيء أفضل من ركعتين يصليهما ، وإن البر ليذر على رأس العبد ما دام في صلاته ، وما تقرب العباد إلى الله بمثل ما خرج منه } قال أبو نضر : يعني القرآن ، رواه الترمذي أيضا بلفظ { ما أذن الله لعبد } وساقه أيضا من غير طريقه الرابع عشر : ما رواه عثمان عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال { فضل القرآن على سائر الكلام ، كفضل الله على خلقه . وذلك أنه منه } رواه الحافظ أيضا بسنده . وروى أيضا بسنده عن عكرمة قال : صليت مع ابن عباس على جنازة فسمع رجلا يقول : يا رب القرآن اغفر له . فقال ابن عباس " اسكت . فإن القرآن كلام الله تعالى ، ليس بمربوب ، منه خرج وإليه يعود " الخامس عشر : ما رواه أبو شريح . قال { خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أبشروا ، أبشروا ، ألستم تشهدون أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ؟ فقالوا : بلى . فقال : فإن هذا القرآن سبب ، طرفه بيد الله ، وطرفه بأيديكم . فتمسكوا به . فإنكم لن تضلوا ولن تهلكوا بعده أبدا } رواه ابن أبي شيبة . وروى معناه أبو داود الطيالسي في الصحيح { ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه يوم القيامة ليس بينه وبينه ترجمان } وفي أحاديث أخر تبلغ نحو [ ص: 188 ] الثلاثين واردة في الحرف والصوت ، بعضها صحاح وبعضها حسان ، ويحتج بها أخرجها الضياء المقدسي وغيره . وأخرج أحمد غالبها ، واحتج به ، وأخرج غالبها أيضا ابن حجر في شرح البخاري ، واحتج بها البخاري أيضا وغيره من أئمة الحديث على أن الله يتكلم بحرف وصوت . وقد صححوا هذه الأحاديث واعتقدوها مع ما فيها ، واعتمدوا عليها ، منزهين الله عما لا يليق بجلاله من شبهات الحدوث وغيرها ، كما قالوا في سائر الصفات . فإذا رأينا أحدا من الناس ما يقدر عشر معشار هؤلاء يقول لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد أنه تكلم بصوت . ورأينا هؤلاء الأئمة أئمة الإسلام الذين اعتمد أهل الإسلام على أقوالهم وعملوا بها ودونوها ودانوا الله بها صرحوا بأن الله تكلم بحرف وصوت لا يشبهان صوت مخلوق ولا حرفه بوجه ألبتة . معتمدين على ما صح عندهم عن صاحب الشريعة المعصوم في أقواله وأفعاله ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلا وحي يوحى ، مع اعتقادهم الجازمين به ، الذي لا يعتريه شك ولا وهم ولا خيال : نفي التشبيه والتمثيل والتعطيل والتكييف ، وأنهم قائلون في صفة الكلام كما يقولون في سائر الصفات لله تعالى ، من النزول والاستواء والمجيء والسمع والبصر واليد والقدم والوجه والعين وغيرها ، كما قاله سلف الأمة ، مع إثباتهم لها . فماذا بعد الحق إلا الضلال ، ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور . وذكر أبو نصر السجستاني - رادا على منكري الحرف والصوت - عن الزهري عن أبي بكر [ بن ] عبد الرحمن بن الحارث عن جرير عن كعب أنه قال { لما كلم الله موسى بالألسنة كلها قبل لسانه ، فطفق موسى يقول : والله يا رب ما أفقه هذا ، حتى كلمه بلسانه آخر الألسنة بمثل صوته } قال : وهو محفوظ عن الزهري . رواه عنه ابن أبي عتيق والزبيدي ومعمر ويونس بن يزيد وشعيب بن أبي حمزة ، وهم أئمة ، ولم ينكره واحد منهم . وقوله " بمثل صوته " معناه : أن موسى حسبه مثل صوته في تمكنه من سماعه وبيانه عنده ، ويوضحه قوله تعالى " لو كلمتك بكلامي لم تك شيئا ولم تستقم [ ص: 189 ] له . " . وذكر القاضي أبو الحسين : أن أباه أبا يعلى : ذكر في المرتضى من الدلائل : أن القادر بالله جمع العلماء من سائر الفرق . وكتب رسالة في الاعتقاد ، وقرئت على العلماء كلهم وأقروا بها . وكتبوا خطوطهم عليها . وأنه ليس له اعتقاد إلا هذا ، وقرئت مرارا في أماكن كثيرة ، وفيها : أن القرآن كلام الله غير مخلوق تكلم به تكلما .

، وأنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم على لسان جبريل بعد ما سمعه جبريل من الله . فتلاه جبريل على محمد ، وتلاه محمد على أصحابه ، وتلاه أصحابه على الأمة ، ولم يصر بتلاوة المخلوقين له مخلوقا ; لأن ذلك الكلام بعينه الذي تكلم الله به . وأطال في ذلك وحكى ابن حجر الإجماع من السلف على أن القرآن كلام الله غير مخلوق تلقاه جبريل عن الله ، وبلغه جبريل إلى محمد ، وبلغه محمد إلى أمته . وقال ابن الجوزي في صيد الخاطر : نهى الشرع عن الخوض فيما يثير غبار شبهة ، ولا يقوى على قطع طريقه إقدام الفهم . وإذا كان قد نهى عن الخوض في القدر . فكيف يجيز الخوض في صفات المقدر ؟ وما ذاك إلا لأحد أمرين : إما لخوف إثارة شبهة تزلزل العقائد ، أو لأن قوى البشر تعجز عن إدراك الحقائق . واستدل لأحمد والبخاري وابن المبارك عبد الله وعثمان بن سعيد الدارمي وأئمة السلف والحديث بالكتاب والسنة والآثار والفطرة والعقل ، وتولده تنوعه إلى ماض وأمر ومضارع ومشتق وغيره ، ومصدر وقول وأداة تأكيد وغير ذلك عن تكليما . والمناداة والمناجاة من وراء حجاب لا ترجمان بينهما ، وإسماع البشر حقيقة لا يقع إلا للأصوات . ومن زعم أن غير الصوت يجوز في العقل أن يسمعه من كان على هذه البنية التي نحن عليها احتاج إلى دليل . وقد قال تعالى : ( { فلما أتاها نودي يا موسى } ) والنداء عند العرب ، لا يكون إلا بصوت ، ولم يرد عن الله ولا رسله ، ولا عن غيرهم من السلف أنه من الله غير صوت .

وكلم موسى بلا واسطة إجماعا . قال البغوي في تفسير طه ، قال وهب : ونودي من الشجرة فقيل : يا موسى . فأجاب سريعا ما يدري من دعاه . فقال : [ ص: 190 ] إني أسمع صوتك ولا أرى مكانك . فأين أنت ؟ قال : أنا فوقك ومعك وأمامك وخلفك ، وأقرب إليك من نفسك . فعلم أن ذلك لا ينبغي إلا لله . فأيقن به .

قال الموفق في قصة موسى : إنه لما رأى النار هالته وفزع منها . فناداه ربه يا موسى .

فأجاب سريعا استئناسا بالصوت . فقال : لبيك لبيك ، أسمع صوتك ولا أرى مكانك . فأين أنت ؟ قال : فوقك وأمامك ووراءك ، وعن يمينك وعن شمالك .

فعلم أن هذه الصفة لا تنبغي إلا لله . قال : فكذلك أنت يا إلهي ، كلامك أسمع أم كلام رسولك ؟ قال : بل كلامي يا موسى . وقالت بنو إسرائيل لموسى : بم شبهت صوت ربك ؟ قال : إنه لا شبه له . وروي : أن موسى لما سمع كلام الآدميين مقتهم ، لما وقر في مسامعه من كلام الله تعالى ، ولأن حقيقة التكلم والمناداة والمناجاة شيء تواردت الأخبار والآثار به . فما إنكاره إلا عناد واتباع للهوى ، وصدوف عن الحق ، وترك للصراط المستقيم .

التالي السابق


الخدمات العلمية