الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومنه ) أي ومن الخبر ( تواتر ) يعني أن الخبر ينقسم قسمين ، تواترا وآحادا ( وهو ) أي التواتر ( لغة تتابع ) شيئين فأكثر ( بمهلة ) أي واحد بعد واحد من الوتر . ومنه قوله سبحانه وتعالى { ثم أرسلنا رسلنا تترى } أصلها وترا أبدلت التاء من الواو . قاله ابن قاضي الجبل . ثم قال : قلت قال الجواليقي : من غلط العامة قولهم : تواترت كتبك إلي . أي اتصلت من غير انقطاع . وإنما التواتر الشيء [ ص: 258 ] بعد الشيء بينهما انقطاع . وهو تفاعل من الوتر ، وهو العود انتهى ( و ) التواتر ( اصطلاحا ) أي في اصطلاح العلماء ( خبر عدد يمتنع معه ) أي مع هذا العدد ( لكثرته ) أي من أجل كثرته ( تواطؤ ) فاعل يمتنع ( على كذب ) متعلق بتواطؤ ( عن محسوس ) متعلق بخبر ، أي بخبر عدد عن محسوس ( أو خبر ) عدد ( عن عدد كذلك ) أي يمتنع معه لكثرته تواطؤ على كذب ( إلى أن ينتهي إلى محسوس ) أي معلوم بإحدى الحواس الخمس . كمشاهدة أو سماع . فقوله : " خبر " جنس يشمل المتواتر وغيره . وبإضافته إلى " عدد " يخرج خبر الواحد . وبقوله " يمتنع معه . . . " إلى آخره : يخرج به خبر عدد لم يتصف ذلك العدد بالوصف المذكور . وخرج بقيد " المحسوس " ما كان عن معلوم بدليل عقلي كإخبار أهل السنة دهريا بحدوث العالم لتجويزه غلطهم في الاعتقاد ( مفيد ) صفة لتواتر ، أي ومن الخبر تواتر مفيد ( للعلم بنفسه ) . فخرج بذلك الخبر الذي صدق المخبرين فيه بسبب القرائن الزائدة على ما لا ينفك عن المتواتر عادة وغيرها ; لأن هذا الخبر مفيد للعلم لا بنفسه ، بل بسبب ما احتف به من القرائن . ثم القرائن المفيدة للعلم قد تكون عادية كالقرائن التي تكون على من يخبر بموت ولده من شق الجيوب والتفجع . وقد تكون عقلية ، كخبر جماعة تقتضي البديهة أو الاستدلال صدقه . وقد تكون حسية كالقرائن التي تكون على من يخبر بعطشه . وكون خبر التواتر مفيدا للعلم هو قول أئمة المسلمين ( و ) العلم ( الحاصل ) بخبر التواتر ( ضروري ) عند أصحابنا والأكثر ، إذ لو كان نظريا لافتقر إلى توسط المقدمتين ، ولما حصل لمن ليس من أهل النظر كالنساء والصبيان ، ولساغ الخلاف فيه عقلا ، كسائر النظريات ، ولأن الضروري ما اضطر العقل إلى التصديق به . وهذا كذلك . وقال أبو الخطاب وجمع : إنه نظري ; إذ لو كان ضروريا لما افتقر إلى النظر في المقدمتين . وهما اتفاقهم على الإخبار وامتناع تواطئهم على الكذب . فصورة الترتيب ممكنة .

رد ذلك بأنه مطرد في كل ضروري . وقال الطوفي في مختصره : والخلاف لفظي ; [ ص: 259 ] إذ مراد الأول بالضروري : ما اضطر العقل إلى تصديقه . والثاني : البديهي الكافي في حصول الجزم به تصور طرفيه . والضروري ينقسم إليهما . فدعوى كل غير دعوى الآخر ، والجزم حاصل على القولين . ثم اعلم أن خبر التواتر لا يولد العلم ، بل ( يقع ) العلم ( عنده ) أي عند خبر التواتر ( بفعل الله تعالى ) عند الفقهاء وغيرهم ، وخالف قوم . لنا على الأول : ما ثبت من الأصول أنه لا موجد إلا الله . وهو بمنزلة إجراء العادة بخلق الولد من المني ، وهو قادر على خلقه بدون ذلك خلافا لمن قال بالتولد . قال المخالف : يمكن أن يخلقه الله ويمكن ضده . قلنا : هو ممكن عقلا وواجب عادة ، واستدل بأنه لو ولد العلم فإما من الأخير وحده ، وهو محال إذ كان يكفي منفردا . أو منه ومن الجملة قبله ، وهو محال أيضا ، لعدم صدور المسبب عن شيئين فصاعدا ، أو لأنها تعدم شيئا فشيئا . والمعدوم لا يؤثر . فقيل : يجوز تأثير الأخير مشروطا بوجود ما قبله وانعدامه أيضا . فهو وارد في إفادته التولد ( وهو ) أي التواتر قسمان قسم ( لفظي ) وهو ما اشترك عدده في لفظ بعينه .

وذلك ( كحديث : { من كذب علي ) متعمدا . فليتبوأ مقعده من النار } فإنه قد نقله من الصحابة الجم الغفير . قال ابن الصلاح : يصلح أن يكون هذا مثالا للمتواتر من السنة . انتهى . واعلم أن التواتر يكون في القرآن . وقد تقدم أن القراءات السبع متواترة . وتقدم الخلاف في العشر . وأما الإجماع : فالمتواتر فيه كثير . وأما السنة : فالمتواتر فيها قليل ، حتى إن بعضهم نفاه إذا كان لفظيا ، لكن الأكثر على أن الحديث المتقدم من المتواتر اللفظي من السنة . وزاد بعضهم حديث ذكر حوض النبي صلى الله عليه وسلم . فإن البيهقي في كتاب البعث والنشور : أورد روايته عن أزيد من ثلاثين صحابيا . وأفرده المقدسي بالجمع . قال القاضي عياض : وحديثه متواتر بالنقل . وحديث الشفاعة . قال القاضي عياض : بلغ التواتر ، وحديث المسح على الخفين . قال ابن عبد البر : رواه نحو أربعين صحابيا واستفاض وتواتر . وأما التواتر المعنوي من السنة ، وهو بأن يتواتر معنى [ ص: 260 ] في ضمن ألفاظ مختلفة ، ولو كان المعنى المشترك فيه بطريق اللزوم فكثير ( و ) قسم ( معنوي ، وهو تغاير الألفاظ مع الاشتراك في معنى كلي ) ولو بطريق اللزوم كما تقدم . وذلك ( كحديث الحوض ، وسخاء حاتم ) وشجاعة علي رضي الله عنه وغيرها . وذلك إذا كثرت الأخبار في الوقائع واختلف فيها ، لكن كل واحد منها يشتمل على معنى مشترك بينها بجهة التضمن أو الالتزام ، حصل العلم بالقدر المشترك ، وهو مثلا الشجاعة أو الكرم ونحو ذلك ، ويسمى المتواتر من جهة المعنى وذلك كوقائع حاتم فيما يحكى من عطاياه من فرس وإبل وعين وثوب ونحوها .

فإنها تتضمن جوده فيعلم ، وإن لم يعلم شيء من تلك القضايا بعينه ، وكقضايا علي رضي الله عنه في حروبه من أنه هزم في خيبر كذا وفعل في أحد كذا ، إلى غير ذلك . فإنه يدل بالالتزام على شجاعته . وقد تواتر ذلك منه ، وإن كان شيء من تلك الجزئيات لم يبلغ درجة القطع ( ولا ينحصر ) التواتر ( في عدد ) عند أصحابنا والمحققين ( ويعلم ) حصول العدد ( إذا حصل العلم ) عنده ( ولا دور ) إذ حصول العلم معلول الأخبار ودليله . كالشبع والري معلول المشبع والمروي ودليلهما ، وإن لم يعلم ابتداء القدر الكافي منهما . وما ذكر من التقديرات تحكم لا دليل عليه . نعم لو أمكن الوقوف على حقيقة اللحظة التي يحصل لنا العلم بالمخبر عنه فيها أمكن معرفة أقل عدد يحصل العلم بخبره ، لكن ذلك متعذر ; إذ الظن يتزايد بتزايد المخبرين تزايدا خفيا تدريجيا . كتزايد النبات وعقل الصبي ونمو بدنه ، ونور الصبح وحركة الفيء فلا يدرك . قال ابن قاضي الجبل ، فإن قيل : كيف نعلم العلم بالتواتر مع الجهل بأقل عدده ؟ قلنا : كما يعلم أن الخبز مشبع ، والماء مرو ، وإن جهلنا عدده . انتهى

التالي السابق


الخدمات العلمية