الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                        معلومات الكتاب

                        إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم الأصول

                        الشوكاني - محمد بن علي بن محمد الشوكاني

                        صفحة جزء
                        فذهب الأكثر إلى جوازه ووقوعه ، واختاره جماعة من المحققين ، منهم القاضي . ومنهم من منع ذلك ، كما روي عن أبي علي ، وأبي هاشم .

                        ومنهم من فصل بين الغائب والحاضر ، فأجازه لمن غاب عن حضرته - صلى الله عليه وآله وسلم ، كما وقع في حديث معاذ ، دون من كان بحضرته الشريفة - صلى الله عليه وآله وسلم ، واختاره الغزالي ، وابن الصباغ ، ونقله إلكيا عن أكثر الفقهاء ، والمتكلمين ، ومال إليه إمام الحرمين .

                        قال القاضي عبد الوهاب : إنه الأقوى على أصول أصحابهم .

                        قال ابن فورك : بشرط تقريره عليه .

                        وقال ابن حزم : إن كان اجتهاد الصحابي في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - في الأحكام ، كإيجاب شيء ، أو تحريمه ، فلا يجوز ، كما وقع من أبي السنابل من الإفتاء باجتهاده في الحامل ، المتوفى عنها زوجها أنها تعتد بأربعة أشهر وعشر ، فأخطأ [ ص: 734 ] في ذلك ، وإن كان اجتهاده في غير ذلك فيجوز ، كاجتهادهم فيما يجعلونه علما للدعاء إلى الصلاة ; لأنه لم يكن فيه إيجاب شريعة تلزم .

                        وكاجتهاد قوم بحضرته - صلى الله عليه وآله وسلم - فيمن هم السبعون ألفا الذين يدخلون الجنة ووجوههم كالقمر ليلة البدر ، فأخطئوا في ذلك ، وبين لهم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - من هم ، ولم يعنفهم في اجتهادهم .

                        ومنهم من قال : وقع ظنا لا قطعا ، واختاره الآمدي ، وابن الحاجب .

                        ومنهم من قال : إنه يجوز للحاضر في مجلس النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أن يجتهد ، إذا أمره بذلك ، كما وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - من أمره لسعد بن معاذ أن يحكم في بني قريظة ، وإن لم يأمره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - لم يجز له الاجتهاد ، إلا أن يجتهد ويعلم به النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فيقرره عليه ، [ ص: 735 ] كما وقع من أبي بكر رضي الله عنه في سلب القتيل ، فإنه قال : " لاها الله إذا لا يعمد إلى أسد من أسد الله ، فيعطيك سلبه " فقرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - ( وكذلك امتناع علي - رضي الله عنه - من محو اسم النبي - صلى الله عليه وسلم - من الصحيفة ) .

                        والحق ما تقدم من التفصيل بين من كان بحضرته - صلى الله عليه وآله وسلم - ( فلا يجوز له الاجتهاد ; لتعين السؤال منه للنبي - صلى الله عليه وسلم - ) فيما نابه من الأمر ، وبين من كان غائبا عنها ، فيجوز له الاجتهاد .

                        وقد وقع من ذلك واقعات متعددة ، كما وقع من عمرو بن العاص من صلاته بأصحابه ، وكان جنبا ولم يغتسل ، بل تيمم وقال : سمعت الله تعالى يقول : ولا تقتلوا أنفسكم فقرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - على ذلك .

                        [ ص: 736 ] وكما وقع منه - صلى الله عليه وآله وسلم - من الأمر بالنداء يوم انصرافه من الأحزاب بأنه لا يصلين أحد إلا في بني قريظة فتخوف ناس من فوت الوقت ، فصلوا دون بني قريظة ، وقال آخرون : لا نصلي إلا حيث أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم ، وإن فات الوقت ، فما عنف أحدا من الفريقين .

                        ومن أدل ما يدل على هذا التفصيل : تقرير معاذ على اجتهاد رأيه لما بعثه إلى اليمن ، وهو حديث مشهور ، له طرق متعددة ، ينتهض مجموعها للحجية ، كما أوضحنا ذلك في مجموع مستقل .

                        ومنه بعثه - صلى الله عليه وآله وسلم - لعلي قاضيا ، فقال : لا علم لي بالقضاء ، فقال النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - اللهم اهد قلبه وثبت لسانه أخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، والحاكم في المستدرك .

                        ومن ذلك ما رواه أحمد في المسند : أن ثلاثة وقعوا على امرأة في طهر ، فأتوا عليا يختصمون في الولد فأقرع بينهم ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - فقال : لا أعلم فيها إلا ما قال علي وإسناده صحيح وأمثال هذا كثير .

                        قال الفخر الرازي في المحصول : الخلاف في هذه المسألة لا ثمرة له في الفقه .

                        وقد اعترض عليه ذلك ، ولا وجه للاعتراض ; لأن الاجتهاد الواقع من الصحابي إن قرره النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كان حجة وشرعا بالتقدير ، لا باجتهاد الصحابي ، وإن لم يبلغه كان اجتهاد الصحابي فيه الخلاف المتقدم في قول الصحابي ، [ ص: 737 ] عند من قال بجوازه في عصره - صلى الله عليه وآله وسلم - ( لا عند من منع منه ، وإن بلغ النبي - صلى الله عليه وسلم - ) وأنكره ، أو قال بخلافه ، فليس في ذلك الاجتهاد فائدة ; لأنه قد بطل بالشرع .

                        التالي السابق


                        الخدمات العلمية