الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 149 ] الشرط الثالث [ العدالة في الدين ] فالفاسق لا تقبل روايته كما لا يوثق بشهادته ، والعدل هو العادل توسعا ، مأخوذ من الاعتدال ، وفي الاصطلاح : من تقبل شهادته ويحكم بها . والعدالة في الأصل هي الاستقامة ، يقال : طريق عدل ، لطريق الجادة ، وضدها الفسق ، وهو الخروج عن الحد الذي جعل له ، والمقصود أن لا تقبل روايته من حيث إن هواه غالب على تقواه ، فلا تصح الثقة بقوله ، ثم ضابط الشرع في ذلك معتبر ، فلو لاح بالمخايل صدقه لم يجز قبول روايته ، فإنه يخالف ضابط الشرع ، وليس لنا أن نعمل بكل ظن ، بل ظن له أصل شرعا . هذا إذا رجع الفسق إلى الديانة فلا خلاف فيه كما قاله ابن برهان وغيره ، فإن رجح إلى العقيدة كأهل الأهواء والبدع فقد سبق حكمه . قال القاضي : ولا تقبل ممن اتفق على فسقه ، وإن كان متأولا . [ تعريف العدالة ] واعلم أن العدالة شرط بالاتفاق ، ولكن اختلف في معناها ، فعند الحنفية عبارة عن الإسلام مع عدم معرفة الفسق ، وعندنا ملكة في النفس تمنع عن اقتراف الكبائر وصغائر الخسة كسرقة لقمة ، والرذائل المباحة كالبول في الطريق ، والمراد جنس الكبائر والرذائل الصادق بواحدة ، لا حاجة ; للإصرار على الصغيرة ; لأنها تصير كبيرة . قال ابن القشيري : والذي صح عن الشافعي أنه قال : ليس من الناس من يمحض الطاعة ، فلا يمزجها بمعصية ، ولا في المسلمين من يمحض [ ص: 150 ] المعصية ، فلا يمزجها بالطاعة . فلا سبيل إلى رد الكل ، ولا إلى قبول الكل ، فإن كان الأغلب على الرجل من أمره الطاعة والمروءة قبلت شهادته ، وإن كان الأغلب المعصية وخلاف المروءة رددتها . وهو ظاهر في جري الرواية والشهادة مجرى واحدا ، وعليه جرى القاضي .

                                                      وقال أبو بكر الصيرفي : من قارف كبيرة ردت شهادته ، ومن اقترف صغيرة لم ترد شهادته ، ولا روايته . قال : والمواظبة على الصغيرة كمقارفة الكبيرة ، وقال : لو ثبت كذب الراوي ردت روايته إذا تعمد ، وإن كان لا يعد ذلك الكذب من الكبائر ; لأنه قادح في نفس المقصود بالرواية . وقال القاضي ما معناه : المعني في الرواية الثقة ، فكل ما لا يخرم الثقة لا يقدح في الرواية ، وإنما القادح ما يخرم الثقة . ا هـ . وقال الصيرفي في كتاب الدلائل والأعلام " : المراد بالعدل من كان مطيعا ; لله في نفسه ، ولم يكثر من المعاصي إلا هفوات وزلات ، إذ لا يعرى واحد من معصية ، فكل من أتى كبيرة فاسق ، أو صغيرة فليس بفاسق ، لقوله تعالى : { إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه } ومن تتابعت منه الصغيرة وكثرت وقف خبره ، وكذا من جهل أمره . قال : وما ذكرت من متابعة الأفعال للعاصي أنها علم الإصرار ; لعلم الظاهر ، كالشهادة الظاهرة ، وعلى أني على حق النظر لا أجعل المقيم على الصغيرة المعفو عنها ، مرتكبا للكبيرة إلا أن يكون مقيما على المعصية المخالفة أمر الله دائما . قال : فكل من ظهرت عدالته فمقبول حتى يعلم الجرح ، وليس لذلك غاية يحاط بها وأنه عدل في الحقيقة ، ولا يكون موقوفا حتى يعلم الجرح . ا هـ .

                                                      وقال ابن السمعاني في القواطع " : لا بد في العدل من أربع شرائط : 1 - المحافظة على فعل الطاعة واجتناب المعصية . [ ص: 151 ] وأن لا يرتكب من الصغائر ما يقدح في دين أو عرض . 3 - وأن لا يفعل من المباحات ما يسقط القدر ، ويكسب الندم . 4 - وأن لا يعتقد من المذاهب ما ترده أصول الشرع . وقال إمام الحرمين : الثقة من المعتمد عليها ، فمتى حصلت الثقة بالخبر قبل ، وهذا مفهوم من عادة الأصوليين ، وهذا ظاهر نص الشافعي في ، الرسالة " فإنه قال : وليس للعدل علامة تفرق بينه وبين غير العدل في بدنه ولا لفظه ، وإنما علامة صدقه بما يختبر من حاله في نفسه ، فإن كان الأغلب من أمره ظاهر الخير قبل وإن كان فيه تقصير من بعض أمره ; لأنه لا يعرى أحد رأيناه من الذنوب ، فإذا خلط الذنوب والعمل الصالح فليس فيه إلا الاجتهاد على الأغلب من أمره ، والتمييز بين حسنه وقبحه . ا هـ .

                                                      واعلم أن العدالة في الرواية وإن كانت عندنا شرطا بلا خلاف ، لكن اختلف أصحابنا هل ينتهي إلى العدالة المشترطة في الشهادة أم لا ؟ وفيه وجهان حكاهما ابن عبدان في شرائط الأحكام . أحدهما : أن تعتبر العدالة ممن يقبله الحاكم في الدماء والفروج والأموال ، أو زكاه مزكيان . [ ص: 152 ] والثاني : أنه لا يعتبر في ناقل الخبر ، وعدالته ما يعتبر في الدماء والفروج والأموال ، بل إذا كان ظاهره الدين والصدق قبل خبره ، هذا كلامه . قلت : وظاهر نص الشافعي على الأول ، فإنه قال في اختلاف الحديث في جواب سؤال أورده : فلا يجوز أن يترك شهادتهما إذا كانا عدلين في الظاهر . ا هـ . وهو ظاهر في أن ظاهر العدالة من يحكم الحاكم بشهادته . ثم اختلفوا في مواطن .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية