الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      وقال ابن السمعاني في القواطع " : مذهب الشافعي أن المرسل بنفسه [ ص: 356 ] لا يكون حجة ، وقد ينضم إليه ما يكون حجة على ما سنبين ، ثم قال : واعلم أن الشافعي إنما رد المرسل ، لدخول التهمة فيه . فإن اقترن به ما يزيل التهمة فإنه يقبل ، وذلك بأن يوافق مرسله مسند غيره ، أو تتلقاه الأمة بالقبول أو انتشر ، ولم يظهر له نكير . قال بعضهم : وكذلك إذا اشترط في إرساله عدلان فأكثر ، فيقوى به حال المرسل ، أو يكون موافقا للقياس . قال : وعندي أن المرجح إنما هو في مسند آخر ، أو تلقي الأمة له بالقبول ، أو اشتهاره من غير نكير ، وما عدا ذلك ، فلا يدل على قبول المرسل . انتهى .

                                                      وقال صاحب المعتمد " : حكي عن الشافعي أنه خص مراسيل الصحابة بالقبول ، وحكي عنه أيضا أنه قال : إذا قال الصحابي : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ، قبلت ، إلا إذا علم أنه أرسله . ا هـ . ولنذكر كلام الشافعي في الرسالة " فإنه يعرف منه مذهبه ، قال البيهقي في المدخل " : أخبرنا أبو عبد الله الحافظ ، حدثنا أبو العباس محمد بن يعقوب ، أنبأنا الربيع بن سليمان ، قال الشافعي : يعني في كتاب الرسالة " : المنقطع يختلف ، فمن شاهد أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروى حديثا منقطعا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتبر عليه بأمور : منها : أن ينظر إلى ما أرسله من الحديث ، فإن شركه الحفاظ المأمونون فأسندوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل معنى ما روى ، كانت هذه دلالة واضحة على صحة من قبل عنه ، وحفظه ، وإن انفرد به مرسلا لم يشركه فيه من يسند قبل ما ينفرد به من ذلك ، ويعتبر عليه بأن ينظر هل يوافقه مرسل آخر ، فإن وجد ذلك قوي ، وهي أضعف من الأولى . [ ص: 357 ] وإن لم يوجد ذلك نظر إلى بعض ما يروى عن بعض الصحابة قولا له ، فإن وجدنا ما يوافق بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت شاهدة دلالة على أنه لم يأخذ مرسله إلا عن أصل يصح إن شاء الله تعالى ، وكذلك إن وجد عوام من أهل العلم يفتون بمثل معنى ما روي لم يعتبر عليه بأن يكون إذا سمى من روى عنه لم يسم مجهولا ولا واهيا ، فيستدل بذلك على صحته ، ويكون إذا شرك أحدا من الحفاظ في حديثه لم يخالفه ، ووجد حديثه أنقص كانت في هذه دلائل على صحة مخرج حديثه . ومتى خالف ما وصفت أضر بحديثه ، حتى لا يسع أحدا قبول مرسله .

                                                      قال : وإذا وجدت الدلائل بصحة حديثه بما وصف أحببنا أن نقبل مرسله ، ولا نستطيع أن نزعم أن الحجة تثبت به ثبوتها بالمتصل ، وذلك أن معنى المنقطع مغيب ، يحتمل أن يكون حمل عمن يرغب في الرواية عنه إذا سمي ، وأن بعض المنقطعات ، وإن وافقه مرسل مثله ، فقد يحتمل أن يكون مخرجهما واحدا من حيث لو سمي لم يقبل ، وأن قول بعض الصحابة إذا قال برأيه لو وافقه لم يدل على صحة مخرج الحديث دلالة قوية إذا نظر فيها ، ويمكن أن يكون إنما غلط به حين سمع قول بعض الصحابة بموافقه .

                                                      قال : فأما من بعد كبار التابعين فلا أعلم واحدا يقبل مرسله ، لأمور : أحدها : أنهم أشد تجوزا ممن يروون عنه ، والآخر أنهم لم يوجد عليهم الدلائل فيما أرسلوا لضعف مخرجه ، والآخر كثرة الإحالة في الأخبار ، وإذا كثرت الإحالة كان أمكن للوهم وضعف من يقبل عنه . انتهى كلام الشافعي .

                                                      وقد تضمن كلامه رضي الله عنه أمورا : [ ص: 358 ] أحدها : أن المرسل إذا أسند من وجه آخر دل على صحة ذلك المرسل ، وعلم من كلام الشافعي اشتراط صحة ذلك المسند . الثاني : أنه إذا لم يسند من وجه آخر نظر ، هل يوافقه مرسل آخر ، فإن وافقه مرسل آخر قوي ، لكنه يكون أنقص درجة من المرسل الذي أسند من وجه آخر . فإن قيل على هذين الأمرين : إن كان الوجه الآخر إسنادا ، فالعمل حينئذ على المسند ، وإن كان إرسالا فضم غير مقبول إلى غير مقبول ، كانضمام الماء النجس إلى مثله ، وشهادة الفاسق مع مثله ، لا يفيد الطهارة والقبول ، وهذا اعترضه القاضي أبو بكر على الشافعي وتبعوه ، وهو مردود ، لأنا لا نسلم أن العمل بالمسند فقط ; لأن بالمسند يتبين صحة إسناد الإرسال ، حتى تحكم له مع إرساله بأنه صحيح الإسناد ، وأيضا لو عارض المسند الذي دون المرسل مسند آخر يترجح صاحب المرسل ، إذا تعذر الجمع ، وأيضا فالاحتجاج بالمسند إنما ينتهض إذا كان بنفسه حجة ، ولعل الشافعي أراد هنا بالمسند ما لا ينتهض بنفسه ، كما أشار إليه الإمام في المحصول ، وإذا ضم إلى المرسل قام به المرسل ، وصار حجة ، وهذا ليس عملا بالمسند ، بل بالمرسل لزوال التهمة عنه ، ولا نسلم عدم قبوله إذا كان القوي مرسلا ، لجواز تأكيد أحد الظنين بالآخر . الثالث : أنه إذا لم يوافقه مرسل آخر لم يسند من وجه آخر ، ولكنه وجد عن بعض الصحابة قول له يوافق هذا المرسل عن النبي صلى الله عليه وسلم دل على أن له أصلا ، ولا يطرح ، ولا يرد اعتراض القاضي بأن قول الصحابي عنده ليس بحجة ، لأن مراده التقوية به ، لا الاستقلال .

                                                      الرابع : أنه إذا وجد جمع من أهل العلم يقولون بما يوافق هذا المرسل ، [ ص: 359 ] دل على أن له أصلا ، واعترض القاضي أبو بكر بأنه إن أراد بالأكثر الأمة فهو إجماع ، والحجة حينئذ فيه لا في المرسل ، وإن أراد بعض الأمة فقولها ليس بحجة ، والجواب عنه أنه أراد الثاني ، ولا شك أن الظن يقوى عنده ، وكذا قول الصحابي ، وإذا قوي الظن وجب العمل بالمرسل ، فمجرده ضعيف ، وكذا قول أكثر أهل العلم ، وحالة الاجتماع قد يقوم منها ظن غالب ، وهذا شأن كل ضعيفين اجتمعا . الخامس : أنه ينظر في حال المرسل ، فإن كان إذا سمى شيخه سمى ثقة لم يحتج بمرسله ، وإن كان إذا سمى لم يسم إلا ثقة ، ولم يسم مجهولا ولا واهيا ، كان دليلا على صحة المرسل ، وقد تقدم أن هذا محل وفاق ، لكنه دون ما قبله .

                                                      السادس : أن ينظر إلى هذا المرسل له ، فإن كان إذا أشرك غيره من الحفاظ في حديث وافقه فيه ، ولم يخالفه ، دل على حفظه ، وإن خالفه ووجد حديثه أنقص إما في الإسناد أو المتن ، كان هذا دليلا على صحة مخرج حديثه ، وأن له أصلا ، فإن هذا يدل على حفظه وتحريه ، بخلاف ما إذا كانت مخالفته بزيادته ، فإن هذا يوجب التوقف والاعتبار ، وهذا دليل من الشافعي ( رضي الله عنه ) على أن زيادة الثقة عنده ليست مقبولة مطلقا كما يظن جماعة ، فإنه اعتبر أن يكون حديث هذا المخالف أنقص من حديث من خالفه ، ولم يعتبر المخالف بالزيادة ، وجعل نقصان هذا الراوي من الحديث دليلا على صحة مخرج حديثه ، وأخبر أنه متى خالف ما وصف أضر ذلك بحديثه ، ولو كانت الزيادة عنده مقبولة مطلقا ، لم تكن مخالفته بالزيادة مضرا بحديثه . السابع : هذا الحكم لا يختص عنده بمرسل سعيد بن المسيب ، وزعم [ ص: 360 ] بعض الأصحاب اختصاصه بسعيد معتمدا على قوله في الأم " في كتاب الرهن الصغير وقد قيل له : كيف قبلتم عن ابن المسيب منقطعا ، ولم تقبلوه عن غيره ؟ قلنا : لا نحفظ لسعيد منقطعا إلا وجدنا ما يدل على تسديده ، ولا يأثره عن أحد فيما عرفناه عنه إلا عن ثقة معروف . انتهى . وهذا القائل كأنه لم ينظر قوله بعده : فمن كان مثل حاله قبلنا منقطعه .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية