الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                      صفحة جزء
                                                      [ ص: 353 ] فصل [ تحرير مذهب الشافعي في العمل بالمرسل ] . وأما تحرير مذهب الشافعي ، فإن النقل قد اضطرب عنه ، فنقل القاضي أبو بكر عنه أنه لا يرى العمل بالمراسيل إلا عند شريطة أن يسنده عمن أرسله ، أو يعمل به صاحبه ، أو العامة ، أو أن المرسل لا يرسل إلا عن ثقة ، ولهذا استحسن مراسيل سعيد . وذكر إمام الحرمين عن الشافعي أنه لا يرد المرسل مطلقا ، ولكن يتطلب فيه مزيد تأكيد ، ليحصل غلبة الظن في الثقة ، واستنبط هذا من مذهبه في قبول مراسيل سعيد بن المسيب ، واستحسانه مراسيل الحسن ، وهذا ما اختاره إمام الحرمين ، ورأى أن الراوي الموثوق به ، العالم بالجرح والتعديل إذا قال : حدثني من أثق به وأرضاه ، يوجب الثقة بحديثه ، وإن قال : حدثني رجل ، توقف عنه . وكذلك إذا قال الإمام الراوي : قال النبي صلى الله عليه وسلم ، فهذا بالغ في ثقة من روى له . قال : وقد عثرت في كلام الشافعي على أنه إذا لم يجد إلا المرسل مع الإقرار بالتعديل على الإجمال ، فإنه يعمل به ، فكان إضرابه عن المرسل في حكم تقديم المسانيد عليها . ا هـ . وهذا الذي حكاه الإمام عن الشافعي غريب ، وهو شيء ضعيف ، ذكره الماوردي أيضا . وقد تناهى ابن السمعاني في الرد عليه . وقال : هذا عندي خلاف مذهب الشافعي ، وقد أجمع كل من نقل عنه هذه المسألة من العراقيين والخراسانيين أن على أصله لا يكون المرسل حجة معه بحال . قال : وأنا لا أعجب من أبي بكر الباقلاني إن كان ينصر القول بالمرسل [ ص: 354 ] فإنه كان مالكي المذهب ، ومن مذهب مالك قبول المراسيل . ا هـ .

                                                      وكذا قال ابن الصباغ في العدة " : المرسل لا يكون حجة عند الشافعي ، وأما احتجاجه بخبر سعيد بن المسيب في بيع اللحم بالحيوان ، فقيل : لأنه عرف أنه لا يرسل إلا عن الصحابة . وقيل : إن المسند وغيره سواء ، وإنما ذكره الشافعي لقوله عما أسنده غيره . قال : وبهذا قال أكثر أصحابنا . ونحوه قول ابن أبي حاتم الرازي في قول الشافعي : ليس المنقطع بشيء ، ما عدا منقطع سعيد بن المسيب . قال أبو محمد : يعني ما عدا منقطع ابن المسيب ، فإنه يعتبر به . ا هـ . فلم يحمل قول الشافعي على أنه يحتج بمرسل سعيد ، بل على أنه يعتبر به خاصة . وأما الغزالي فأطلق في المستصفى " أن المرسل مردود عند الشافعي والقاضي . قال : وهو المختار .

                                                      وقال في المنخول " المراسيل مردودة عند الشافعي إلا مراسيل سعيد بن المسيب ، والمرسل الذي عمل به المسلمون . ثم قال : وقال القاضي أبو بكر ثبت أن مذهب الشافعي قبول المراسيل ، فإنه قال في المختصر " أخبرني الثقة ، وهو المرسل بعينه ، وقد أورده بنقل عنه ويعتقده ، فيعتمد مذهبه ، وعن هذا قبل مراسيل سعيد . قال القاضي : والمختار عندي أن الإمام العدل إذا قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو أخبرني الثقة قبل ، فأما الفقهاء والمتوسعون في كلامهم ، فقد يقولونه لا عن ثبت ، فلا يقبل منهم . [ ص: 355 ] ومن قبل هذا قال : هذا مقبول من الحسن البصري ، والشافعي ، فلا يقبل في زماننا هذا ، وقد كثرت الرواية ، وطال البحث ، واتسعت الطرق ، فلا بد من ذكر اسم الرجل . قالالغزالي : والأمر على ما ذكره القاضي ، إلا في هذا الأخير ، فإنا لو صادفنا في زماننا متقنا في نقل الأحاديث مثل مالك قبلنا قوله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يختلف ذلك بالأعصار . ا هـ .

                                                      وما حكاه عن القاضي غريب ، والذي رأيته في كتاب التقريب " له التصريح بأنه لا يقبل المرسل مطلقا ، حتى مراسيل الصحابة ، لا لأجل الشك في عدالتهم ، ولكن لأجل أنهم قد يروون عن تابعي ، إلا أن يخبر عن نفسه بأنه لا يروي إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أو عن صحابي ، فحينئذ يجب العمل بمرسله ، ونقل مثل ذلك عن الشافعي أنه رد المراسيل ، وقال بها بشروط أخر . وقال في آخر الشروط : فاستحب قبولها إذا كانت كذلك ، قال : ولا يستطيع أن يزعم أن الحجة ثبتت بها ثبوتها بالمتصل ، فنص بذلك على أن قبولها عند تلك الشروط مستحب غير واجب . هذا لفظه .

                                                      وقال إلكيا الطبري : قبل الشافعي مرسل سعيد دون غيره ، ثم قال : إذا تبين من حال المرسل أنه لا يروي إلا عن صحابي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أو عن رجل تتفق المذاهب على تعديله ، صار حجة . قال : وهذا معنى قول الشافعي : أقبل من المراسيل ما أرسله كل معتبر من الأئمة ، وهذا تصريح بما قلناه . انتهى . وقال ابن برهان في الوجيز " : مذهب الشافعي أن المراسيل لا يجوز الاحتجاج بها إلا مراسيل سعيد بن المسيب ، ومراسيل الصحابة ، وما انعقد الإجماع على العمل به ، خلافا لأبي حنيفة .

                                                      التالي السابق


                                                      الخدمات العلمية