الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                        [ ص: 28 ] فصل

                                                                                                                                                                        قال لزوجته : أنت علي حرام ، أو محرمة ، أو حرمتك ، بأن نوى الطلاق ، نفذ رجعيا ، فإن نوى عددا وقع ما نوى . وحكى الحناطي وجها أنه لا يكون طلاقا إذا قلنا : إنه صريح في اقتضاء الكفارة ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى قريبا وهذا وإن كان غريبا ، ففيه وفاء بالقاعدة المعروفة : أن اللفظ الصريح إذا وجد نفاذا في موضوعه ، لا ينصرف إلى غيره بالنية ، وإن نوى الظهار ، فهو ظهار ، وإن نواهما معا ، فهل يكون ظهارا أم طلاقا أم تخير ؟ فما اختاره منهما ، ثبت فيه أوجه ، أصحها الثالث ، وبه قال ابن الحداد ، وأكثر الأصحاب ، ولا ينعقد الاثنان معا قطعا . ولو نوى أحدهما قبل الآخر ، قال ابن الحداد : إن أراد الظهار ثم أراد الطلاق ، صحا جميعا ، وإن أراد الطلاق أولا ، فإذا كان بائنا ، فلا معنى للظهار بعده وإن كان رجعيا كان الظهار موقوفا ، فإن راجعها ، فهو صحيح والرجعة عود وإلا فهو لغو ، قال الشيخ أبو علي : هذا التفصيل فاسد عندي ، لأن اللفظ الواحد إذا لم يجز أن يراد به التصرفان لم يختلف الحكم بإرادتهما معا ، أو متعاقبين ، وإن نوى تحريم عينها أو فرجها أو وطئها ، لم تحرم عليه ، ويلزمه كفارة يمين ، كما لو قال ذلك لأمته . وفي وقت وجوب الكفارة وجهان ، أحدهما : لا يجب إلا عند الوطء ، ويكون هذا اللفظ مع نية التحريم ، كاليمين على ترك الوطء ، وعلى هذا الوجه يكون مؤليا بقوله : أنت علي حرام لوجوب الكفارة بالوطء كقوله : والله لا أطؤك . والثاني وهو الصحيح : أن الكفارة تجب في الحال وإن لم يطأ ، وهي ككفارة اليمين وليست كفارة يمين ، لأن اليمين لا تنعقد إلا بأسماء الله تعالى وصفاته فعلى هذا لو قال : أردت الحلف على ترك الوطء لم يقبل على الصحيح لما ذكرناه ، وقيل : يقبل [ ص: 29 ] وينعقد يمينا ، فعلى هذا هل يصير لفظ التحريم يمينا بالنية في غير الزوجات والإماء كالطعام واللباس وغيرهما ، أم يختص بالأبضاع ؟ وجهان .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما يختص . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        وإن أطلق قوله : أنت علي حرام ولم ينو شيئا ، فقولان أظهرهما : وجوب الكفارة وقوله : أنت علي حرام ، صريح في لزوم الكفارة ، والثاني : لا شيء عليه وهذا اللفظ كناية في لزوم الكفارة ، وهذا التفصيل مستمر فيمن قال : أنت علي حرام في بلاد لم يشتهر فيها لفظ الحرام في الطلاق ، وفيمن قاله في بلاد اشتهر فيها للطلاق إذا قلنا : إن الشيوع والاشتهار لا يجعله صريحا ، فأما إذا قلنا : إنه يصير به صريحا فمقتضى ما في " التهذيب " ، أنه يتعين للطلاق ولا تفصيل ، وقال الإمام : لا يمنع ذلك صرف النية إلى التحريم الموجب للكفارة ، كما أنا وإن جعلناه صريحا في الكفارة عند الإطلاق يجوز صرفه بالنية إلى الطلاق قال : وإذا أطلق وجعلناه صريحا في الكفارة ، بني على أن الصرائح تؤخذ من الشيوع فقط ، أم منه ومن ورود الشرع به ؟ إن قلنا

                                                                                                                                                                        [ بالأول حمل على الغالب في الاستعمال وإن قلنا ] بالثاني فهل يثبت الطلاق لقوته ، أم يتدافعان ؟ فيه رأيان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قول الغزالي في " الوسيط " : إن نوى التحريم كان يمينا ، هذا غلط ، بل الصواب ما اتفق عليه جميع الأصحاب أنه ليس بيمين ، لكن فيه كفارة يمين .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال لأمته : أنت علي حرام ، أو حرمتك ، فإن نوى العتق عتقت ، وإن نوى طلاقا أو ظهارا ، فهو لغو ، قال ابن الصباغ : وعندي أن نية الظهار كنية التحريم . [ ص: 30 ] وإن نوى تحريم عينها ، لم تحرم ويلزمه كفارة يمين ، وإن أطلق ولم ينو شيئا لزمته الكفارة على الأظهر . وقيل : قطعا . ولو قال ذلك لأمته التي هي أخته ونوى تحريم عينها ، أو لم ينو شيئا ، لم تلزمه الكفارة ، لأنه صدق في وصفها ، وإنما تجب الكفارة لوصفه الحلال بالحرمة .

                                                                                                                                                                        ولو كانت الأمة معتدة ، أو مرتدة ، أو مجوسية ، أو مزوجة ، أو كانت الزوجة محرمة ، أو معتدة عن شبهة ، ففي وجوب الكفارة وجهان ، لأنها محل لاستباحة في الجملة .

                                                                                                                                                                        ولو كانت حائضا أو نفساء أو صائمة ، وجبت على المذهب ، لأنها عوارض . ولو خاطب به الرجعية ، فلا كفارة على المذهب ، ونقل الحناطي فيه خلافا .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : هذا الثوب ، أو العبد ، أو الطعام حرام علي ، فهو لغو لا يتعلق به كفارة ولا غيرها .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : كل ما أملكه حرام علي وله زوجات وإماء ، ونوى تحريمهن ، أو أطلق وجعلناه صريحا ، أو قال لأربع زوجات أنتن علي حرام ، فهل تتعدد الكفارة ، أم تكفي كفارة واحدة عن جميع ذلك ؟ فيه خلاف ، المذهب الاكتفاء في الجميع ، وقيل : تتعدد بالأشخاص ، وقيل : للزوجات كفارة والإماء أخرى ، وقيل : وللمال أخرى حكاه الحناطي .

                                                                                                                                                                        قال لزوجته : أنت علي حرام ، أنت علي حرام ونوى التحريم ، أو جعلناه صريحا فإن قال ذلك في مجلس ، أو قاله في مجالس ونوى التأكيد ، فعليه كفارة واحدة وإن قاله في مجالس ونوى الاستئناف ، تعددت الكفارة على الأصح .

                                                                                                                                                                        [ ص: 31 ] وقيل : عليه كفارة فقط ، وإن أطلق ، فقولان .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : أنت حرام ولم يقل : علي ، قال البغوي : هو كناية بلا خلاف ، ولو قال : أنت علي كالميتة ، والدم ، والخمر ، أو الخنزير وقال : أردت الطلاق ، أو الظهار نفذ ، وإن نوى التحريم ، لزمته الكفارة . وإن أطلق ، فظاهر النص أنه كالحرام فيكون على الخلاف . وعلى هذا جرى الإمام ، والذي ذكره البغوي وغيره أنه لا شيء عليه ، قال الحناطي : الخلاف هنا مرتب على لفظ الحرام ، وهنا أولى بأن لا يكون صريحا ، وحكى قولا شاذا أنه لا كفارة وإن نوى التحريم . قال الشيخ أبو حامد : ولو قال أردت أنها حرام علي ، فإن جعلناه صريحا ، وجبت الكفارة وإلا فلا لأنه ليس للكناية كناية ، وتبعه على هذا جماعة ، ولا يكاد يتحقق هذا التصوير ، ولو قال : أردت أنها كالميتة في الاستقذار ، صدق ولا شيء عليه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال إسماعيل البوشنجي : إنما يقع الطلاق بقوله : أنت حرام علي إذا نوى حقيقة الطلاق ، وقصد إيقاعه بهذا اللفظ ، أما إذا لم ينو كذلك ، فلا يقع وإن اعتقد قوله : أنت علي حرام موقعا ، وظن أنه قد وقع طلاقه .

                                                                                                                                                                        فرع

                                                                                                                                                                        قال : متى قلت لامرأتي : أنت علي حرام ، فإني أريد به الطلاق ثم قال لها بعد مدة : أنت علي حرام ، فهل يحمل على الطلاق ، أم يكون كما لو ابتدأ به ؟ وجهان خرجهما أبو العباس الروياني .

                                                                                                                                                                        قلت : أصحهما الثاني . والله أعلم .

                                                                                                                                                                        [ ص: 32 ] فرع : تكرر في كلام الأصحاب في المسألة ، أن قوله : أنت علي حرام صريح في الكفارة ، أم كناية ، وفي الحقيقة ليس لزوم الكفارة معنى اللفظة حتى يقال : صريح فيه ، أم كناية ، وإنما هو حكم رتبه الشرع على التلفظ به . واختلفوا في أنه يتوقف على نية التحريم أم لا ؟ فتوسعوا بإطلاق لفظ الصريح والكناية .

                                                                                                                                                                        فصل

                                                                                                                                                                        الكناية لا تعمل بنفسها ، بل لا بد فيها من نية الطلاق ، وتقترن النية باللفظ فلو تقدمت ، ثم تلفظ بلا نية ، أو فرغ من اللفظ ثم نوى ، لم تطلق ، فلو اقترنت بأول اللفظ دون آخره ، أو عكسه ، طلقت على الأصح ، ولا تلتحق الكناية بالصريح بسؤال المرأة الطلاق ، ولا بقرينة الغضب واللجاج ، ومتى تلفظ بكناية ، وقال : ما نويت صدق بيمينه ، فإن نكل ، حلفت ، وحكم بوقوع الطلاق ، وربما اعتمدت قرائن يجوز الحلف بمثلها .

                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية