وفرقة أخرى أحكموا العلم ، وطهروا الجوارح ، وزينوها بالطاعات ، واجتنبوا ظواهر المعاصي وتفقدوا أخلاق النفس وصفات القلب من الرياء ، والحسد والحقد ، والكبر ، وطلب العلو ، وجاهدوا أنفسهم في التبري منها ، وقلعوا من القلوب منابتها الجلية القوية ، ولكنهم بعد مغرورون ; إذ بقيت في زوايا القلب من خفايا مكايد الشيطان ، وخبايا خداع النفس ما دق وغمض مدركه فلم يفطنوا لها وأهملوها ، وإنما مثاله من يريد تنقية الزرع من الحشيش فدار عليه وفتش عن كل حشيش رآه فقلعه إلا أنه لم يفتش على ما لم يخرج رأسه بعد من تحت الأرض وظن ، أن الكل قد ظهر وبرز ، وكان قد نبت من أصول الحشيش شعب لطاف ، فانبسطت تحت التراب فأهملها وهو يظن أنه قد اقتلعها فإذا هو بها في غفلته وقد نبتت ، وقويت وأفسدت أصول الزرع من حيث لا يدري .
فكذلك العالم قد يفعل جميع ذلك ، ويذهل عن المراقبة للخفايا ، والتفقد للدفائن ، فتراه يسهر ليله ونهاره في جمع العلوم وترتيبها وتحسين ألفاظها وجمع التصانيف فيها ، وهو يرى أن باعثه الحرص على إظهار دين الله ، ونشر شريعته .
ولعل باعثه الخفي هو طلب الذكر وانتشار الصيت في الأطراف ، وكثرة الرحلة إليه من الآفاق وانطلاق ، الألسنة عليه بالثناء ، والمدح بالزهد ، والورع والعلم والتقديم له في المهمات وإيثاره في الأغراض ، والاجتماع حوله للاستفادة ، والتلذذ بحسن الإصغاء عند حسن اللفظ ، والإيراد والتمتع بتحريك الرءوس إلى كلامه والبكاء عليه ، والتعجب منه ، والفرح بكثرة الأصحاب والأتباع والمستفيدين ، والسرور بالتخصص بهذه الخاصية من بين سائر الأقران والأشكال ; للجمع بين العلم والورع وظاهر الزهد والتمكن به من إطلاق لسان الطعن في الكافة المقبلين على الدنيا لا عن تفجع بمصيبة الدين ، ولكن عن إدلال بالتمييز ، واعتداد بالتخصيص .
ولعل هذا المسكين المغرور حياته في الباطن بما انتظم له من أمر وإمارة ، وعز وانقياد ، وتوقير وحسن ثناء فلو تغيرت عليه القلوب ، واعتقدوا فيه خلاف الزهد بما يظهر من أعماله فعساه يتشوش عليه قلبه وتختلط أوراده ، ووظائفه .
وعساه يعتذر بكل حيلة لنفسه وربما يحتاج إلى أن يكذب في تغطية عيبه .
وعساه يؤثر بالكرامة والمراعاة من اعتقد فيه الزهد والورع ، وإن كان قد اعتقد فيه فوق قدره وينبو قلبه عمن عرف حد فضله وورعه ، وإن كان ذلك على وفق حاله وعساه يؤثر بعض أصحابه على بعض ، وهو يرى أنه يؤثره لتقدمه في الفضل والورع ، وإنما ذلك لأنه أطوع له ، وأتبع لمراده وأكثر ثناء عليه وأشد إصغاء إليه وأحرص على خدمته ، ولعلهم يستفيدون منه ، ويرغبون في العلم ، وهو يظن أن قبولهم له لإخلاصه وصدقه ، وقيامه بحق علمه ، فيحمد الله تعالى على ما يسر على لسانه من منافع خلقه ، ويرى أن ذلك مكفر لذنوبه ، ولم يتفقد مع نفسه تصحيح النية فيه .
وعساه لو وعد بمثل ذلك الثواب في إيثاره الخمول والعزلة وإخفاء العلم لم يرغب فيه لفقده في العزلة ولاختفاء ، لذة القبول وعزة الرياسة ، ولعل مثل هذا هو المراد بقول الشيطان : من زعم من بني آدم أنه بعلمه امتنع مني فبجهله وقع في حبائلي .
وعساه يصنف ويجتهد فيه ظانا أنه يجمع علم الله لينتفع به ، وإنما يريد به استطارة اسمه بحسن التصنيف ، فلو ادعى مدع تصنيفه ، ومحا عنه اسمه ونسبه إلى نفسه ثقل عليه ذلك مع علمه بأن ثواب الاستفادة من التصنيف إنما يرجع إلى المصنف ، والله يعلم بأنه هو المصنف لا من ادعاه ، ولعله في تصنيفه لا يخلو من ولقد كان في غنية عن الطعن فيه ، ولعله يحكي من الكلام المزيف ما يريد تزييفه فيعزيه إلى قائله وما يستحسنه فلعله لا يعزيه إليه ليظن أنه من كلامه فينقله بعينه كالسارق له ، أو يغيره أدنى تغيير كالذي يسرق قميصا فيتخذه قباء ، حتى لا يعرف أنه مسروق ، ولعله يجتهد في تزيين ألفاظه ، وتسجيعه ، وتحسين نظمه كيلا ينسب إلى الركاكة ويرى أن غرضه ترويج الحكمة وتحسينها وتزيينها ، ليكون أقرب إلى نفع الناس . الثناء على نفسه إما صريحا بالدعاوي الطويلة العريضة ، وإما ضمنا بالطعن في غيره ليستبين من طعنه في غيره أنه أفضل ممن طعن فيه ، وأعظم منه علما
وعساه غافلا عما روي أن بعض الحكماء وضع ثلاثمائة مصحف في الحكمة فأوحى الله إلى نبي زمانه قل له : قد ملأت الأرض نفاقا وإني لا أقبل من نفاقك شيئا .
ولعل جماعة من هذا الصنف من المغترين إذا اجتمعوا ظن كل واحد بنفسه السلامة عن عيوب القلب وخفاياه ، فلو افترقوا واتبع كل واحد منهم فرقة من أصحابه ، نظر كل واحد إلى كثرة من يتبعه ، وأنه أكثر تبعا أو غيره فيفرح ، إن كان أتباعه أكثر ، وإن علم أن غيره أحق بكثرة الأتباع منه ، ثم إذا تفرقوا ، واشتغلوا بالإفادة تغايروا وتحاسدوا ، ولعل من يختلف إلى واحد منهم إذا انقطع عنه إلى غيره ثقل على قلبه ، ووجد في نفسه نفرة منه فبعد ذلك لا يهتز باطنه لإكرامه ولا يتشمر لقضاء حوائجه ، كما كان يتشمر من قبل ، ولا يحرص على الثناء عليه كما أثنى مع علمه بأنه مشغول بالاستفادة ، ولعل التحيز منه إلى فئة أخرى كان أنفع له في دينه لآفة من الآفات كانت تلحقه في هذه الفئة ، وسلامته عنها في تلك الفئة ومع ذلك لا تزول النفرة عن قلبه ، ولعل واحدا منهم إذا تحركت فيه مبادئ الحسد لم يقدر على إظهاره فيتعلل بالطعن في ، دينه ، وفي ورعه ليحمل غضبه على ذلك ، ويقول : إنما غضبت لدين الله لا لنفسي .
ومهما ذكرت عيوبه بين يديه ربما فرح له وإن أثنى عليه ربما ساءه وكرهه ، وربما قطب وجهه إذا ذكرت عيوبه يظهر أنه كاره لغيبة المسلمين وسر قلبه راض به ، ومريد له ، والله مطلع عليه في ذلك .
فهذا وأمثاله من خفايا القلوب لا يفطن له إلا الأكياس ولا يتنزه عنه إلا الأقوياء ولا مطمع فيه لأمثالنا من الضعفاء ، إلا أن أقل الدرجات أن يعرف الإنسان عيوب نفسه ، ويسوءه ذلك ، ويكرهه ، ويحرص على إصلاحه ، فإذا أراد الله بعبد خيرا بصره بعيوب نفسه فهو مرجو الحال وأمره أقرب من المغرور المزكي لنفسه ، الممتن على الله بعمله وعلمه ، الظان أنه من خيار خلقه ، فنعوذ بالله من الغفلة والاغترار ، ومن المعرفة بخفايا العيوب مع الإهمال . ومن سرته حسنته ، وساءته سيئته
هذا . غرور الذين حصلوا العلوم المهمة ولكن قصروا في العمل بالعلم