الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وفرقة أخرى أحكموا العلم والعمل ، فواظبوا على الطاعات الظاهرة ، وتركوا المعاصي إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلاء وإرادة السوء للأقران والنظراء ، وطلب الشهرة في البلاء والعباد ، وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم ، فهو مكب عليها غير متحرز عنها ، ولا يلتفت إلى قوله صلى الله عليه وسلم : « أدنى الرياء شرك .

»
وإلى قوله عليه السلام : « لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر » . .

وإلى قوله صلى الله عليه وسلم : « الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب » . .

وإلى قوله عليه السلام : « حب الشرف والمال ينبتان النفاق كما ينبت الماء البقل .

إلى غير ذلك من الأخبار التي أوردناها في جميع ربع المهلكات في الأخلاق المذمومة .

فهؤلاء زينوا ظواهرهم وأهملوا بواطنهم، ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم: إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم .

»
فتعهدوا الأعمال وما تعهدوا ، القلوب ، والقلب هو الأصل إذ لا ينجو إلا من أتى الله بقلب سليم .

ومثال هؤلاء كبئر الحش ظاهرها جص وباطنها نتن ، أو كقبور الموتى ظاهرها مزين وباطنها جيفة ، أو كبيت مظلم باطنه ، وضع سراج على سطحه فاستنار ظاهره ، وباطنه مظلم أو كرجل قصد الملك ضيافته إلى داره فجصص باب داره ، وترك المزابل في صدر داره ، ولا يخفى أن ذلك غرور ، بل أقرب مثال إليه رجل زرع زرعا فنبت ، ونبت معه حشيش يفسده ، فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش بقلعه من أصله فأخذ يجز رءوسه وأطرافه فلا تزال تقوى أصوله فتنبت لأن مغارس المعاصي هي الأخلاق الذميمة في القلب فمن لا يطهر القلب منها لا تتم له الطاعات الظاهرة ، إلا مع الآفات الكثيرة .

بل هو كمريض ظهر به الجرب وقد أمر بالطلاء وشرب الدواء فالطلاء ليزيل ما على ظاهره ، والدواء ليقطع مادته من باطنه فقنع بالطلاء وترك ، الدواء ، وبقي يتناول ما يزيد في المادة فلا يزال يطلي الظاهر والجرب دائم به يتفجر من المادة التي في الباطن .

التالي السابق


(وفرقة أخرى) منهم (أحكموا العلم والعمل، فواظبوا على الطاعات الظاهرة، وتركوا المعاصي إلا أنهم لم يتفقدوا قلوبهم ليمحوا عنها الصفات المذمومة عند الله من الكبر والحسد والرياء وطلب الرياسة والعلا وإرادة السوء للأقران والنظراء، وطلب الشهرة في البلاد والعباد، وربما لم يعرف بعضهم أن ذلك مذموم، فهو مكب عليها غير محترز عنها، ولا يلتفت إلى قوله صلى الله عليه وسلم: "أدنى الرياء شرك") رواه الطبراني في الكبير، وأبو نعيم في الحلية، والحاكم من حديث معاذ وابن عمر ومعا بلفظ: إن أدنى الرياء شرك، وأحب العبيد إلى الله الأتقياء الأخفياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم [ ص: 449 ] يعرفوا، أولئك أئمة الهدى، ومصابيح الظلم، وقد تقدم في كتاب ذم الجاه والرياء .

(وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة كبر") رواه مسلم من حديث ابن مسعود. وقد تقدم مرارا .

(وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: "الحسد يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب") رواه أبو داود من حديث أبي هريرة، وقال البخاري: لا يصح، ورواه ابن ماجه من حديث أنس بإسناد ضعيف، ورواه الخطيب في التاريخ بإسناد حسن، وقد تقدم في كتاب العلم .

(وإلى قوله صلى الله عليه وسلم: "حب الشرف والمال ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل") رواه أبو نعيم، ومن طريق الديلمي من حديث أبي هريرة بلفظ: "حب الغنى ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب"، ورواه الديلمي من طريق سلمة بن علي، عن عمر مولى غفرة، عن أنس بلفظ: "الغنى واللهو ينبتان النفاق في القلب كما ينبت الماء العشب" الحديث، وروى البيهقي من حديث جابر: "الغنى ينبت النفاق في القلب كما ينبت الزرع"، ورواه هكذا ابن أبي الدنيا في ذم الملاهي والبيهقي أيضا من حديث ابن مسعود، ولكن بلفظ: البقل بدل الزرع، وكل ذلك قد تقدم في كتاب الوجد والسماع، وفي كتاب ذم الجاه .

إلى غير ذلك من الأخبار التي أوردناها في جميع ربع المهلكات في الأخلاق المذمومة فهؤلاء زينوا ظواهرهم، وأهملوا بواطنهم، ونسوا قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله لا ينظر إلى صوركم، ولا إلى أموالكم، وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم" رواه أحمد ومسلم وابن ماجه من حديث أبي هريرة بلفظ: "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن إنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم"، ورواه أيضا أبو بكر الشافعي في الغيلانيات، وابن عساكر من حديث أبي أمامة، ورواه هناد عن الحسن مرسلا، وعند الطبراني من حديث أبي مالك الأشعري: "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى أحسابكم، ولا إلى أموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم، فمن كان له قلب صالح تحنن الله عليه"، ورواه الحكيم عن يحيى بن أبي كثير مرسلا نحوه .

(فتعهدوا الأعمال، ولم يتعهدوا القلوب، والقلب هو الأصل إذ لا ينجو) غدا يوم القيامة (إلا من أتى الله بقلب سليم) أي: سالم عن الغش والكدر، (ومثال هؤلاء كبئر الحش) كذا في النسخ، وفي بعضها كبيت الحش، وهو الصواب، والحش بالضم، ويفتح بستان النخل. قال أبو حاتم: قولهم: بيت الحش مجاز لأن العرب كانوا يقضون حوائجهم في البساتين، فلما اتخذوا الكنف، وجعلوها خلفا عنها أطلقوا عليها ذلك الاسم، (ظاهرها جص) أي: مبيض به، (وباطنها نتن، أو كقبور الموتى ظاهرها مزين) بالعمارة، (وباطنها جيف، أو كبيت مظلم باطنه، وضع السراج على سطحه فاستنار ظاهره، وباطنه مظلم) ، وهذه الأمثلة الثلاثة في العلماء السوء لسيدنا عيسى عليه السلام نقله صاحب القوت. وتقدم بعضها في كتاب العلم، وبعضها في كتاب ذم الدنيا، (أو كرجل قصد الملك ضيافته إلى داره فجصص باب داره، وترك المزابل في صدر داره، ولا يخفى أن ذلك غرور، بل أقرب مثال إليه رجل زرع زرعا فنبت، ونبت معه حشيش يفسده، فأمر بتنقية الزرع عن الحشيش) المذكور (بقلعه من أصله فأخذ يجر رؤوسه) أي: يقطعها (وأطرافه) المتشعبة (فلا يزال يقوى أصله وينبت) ، وإنما كان هذا أقرب مثال إليه، (لأن مغارس المعاصي هي الأخلاق المذمومة في القلب فمن لا يطهر القلب منها لا تتم له الطاعات الظاهرة، إلا مع الآفات الكثيرة، بل هو كمريض ظهر به الجرب) والحكة، (وقد أمر بالطلاء) عليه من ظاهر البدن، (وشرب الدواء) من الباطن، (فالطلاء يزيل ما على ظاهره، والدواء يقلع مادته من باطنه فيقنع بالطلاء، ويترك الدواء، وبقي يتناول ما يزيد في المادة) من داخل، (فلا يزال يطلي الظاهر) فلا ينفعه، (والجرب به دائم يتفجر عن المادة التي في الباطن) .




الخدمات العلمية