الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كنظر إلى غير محرم وقعود في مسجد مع الجنابة ومس مصحف بغير وضوء واعتقاد بدعة وشرب خمر ، وسماع ملاه وغيره ، ذلك مما لا يتعلق بمظالم العباد فالتوبة عنها بالندم ، والتحسر عليها وبأن يحسب مقدارها من حيث الكبر ، ومن حيث المدة ، ويطلب لكل معصية منها حسنة تناسبها ، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم « اتق الله حيث كنت ، وأتبع السيئة تمحها بل من قوله تعالى : إن الحسنات يذهبن السيئات فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر ويكفر القعود في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة ويكفر مس المصحف محدثا بإكرام المصحف وكثرة قراءة القرآن منه ، وكثرة تقبيله بأن يكتب مصحفا ويجعله وقفا ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه وعد جميع المعاصي غير ممكن ، وإنما المقصود سلوك الطريق المضادة ; فإن المرض يعالج بضده فكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور يرتفع إليها بحسنة ، تضادها ، والمتضادات هي المتناسبات ; فلذلك ينبغي أن تمحى كل سيئة بحسنة من جنسها ، لكن تضادها ; فإن البياض يزال بالسواد لا بالحرارة والبرودة وهذا التدريج والتحقيق من التلطف في طريق المحو ، فالرجاء فيه أصدق ، والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات ، وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى ، ويدل على أن الشيء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل خطيئة وأثر اتباع الدنيا في القلب السرور بها والحنين إليها ، فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم قال صلى الله عليه وسلم :« من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم ، وفي لفظ آخر : إلا الهم بطلب المعيشة وفي حديث عائشة رضي الله عنها : إذا كثرت ذنوب العبد ، ولم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله تعالى عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه ويقال : إن الهم الذي يدخل على القلب ، والعبد لا يعرف هو ظلمة الذنوب ، والهم بها وشعور القلب بوقفه الحساب ، وهول المطلع .

فإن قلت : هم الإنسان غالبا بما له وولده وجاهه ، وهو خطيئة فكيف يكون كفارة ، فاعلم أن الحب له خطيئة ، والحرمان عنه كفارة ، ولو تمتع به لتمت الخطيئة ، فقد روي أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فقال له كيف تركت الشيخ الكئيب فقال : قد حزن عليك حزن مائة ثكلى قال فما له عند الله قال : أجر مائة شهيد فإذن الهموم أيضا مكفرات حقوق الله فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى .

التالي السابق


اعلم أن الترك المتعلق بالماضي الذي هو التدارك لما فرط من أمره، هل تتوقف صحة التوبة على هذا، وهذا هو الغاية المقصودة، وأما من أجاز الصحة فيكتفي بالعلم والندم والعزم والترك في الحال، والصحيح الذي مشى عليه المصنف أن فيه تفصيلا; لأن المعاصي المرجوع عنها إما أن تكون قاصرة الضرر على المذنب أو متعدية إلى غيره، فالقاصرة منها يقبل القضاء; كالصلاة والصيام والزكاة والحج، وقد ذكرها المصنف، ومنها ما لا يقبل القضاء، وإليه الإشارة بقوله: (كنظر إلى غير محرم) أو لمس، (وقعود في مسجد مع الجنابة) أي: اللبث فيه على غير طهارة، (ومس مصحف بغير وضوء) ، ولا تيمم، (واعتقاد بدعة) غير مخرجة عن الملة، (وشرب خمر، وسماع ملاه، وغير ذلك) كإلقاء المال في البحر، وإنفاقه في المعصية، وما أشبه ذلك (مما لا يتعلق بمظالم العباد) ، ولا يقبل القضاء، (فالتوبة عنها بالندم، والتحسر عليها) ، والترك والعزم على أن لا يعود، (وبأن يحسب مقدارها من حيث الكثرة، ومن حيث المدة، ويطلب لكل سيئة منها حسنة تناسبها، فيأتي من الحسنات بمقدار تلك السيئات أخذا من قوله صلى الله عليه وسلم) لأبي ذر رضي الله عنه: ("اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها) ، وخالق الناس بخلق حسن" رواه الترمذي وصححه، وتقدم أوله في كتاب آداب الكسب، وبعضه في كتاب رياضة النفس، وبعضه في هذا الكتاب قريبا، (بل من قوله تعالى: إن الحسنات يذهبن السيئات فيكفر سماع الملاهي بسماع القرآن وبمجالس الذكر) والعلم، (ويكفر القعود في المسجد جنبا بالاعتكاف فيه مع الاشتغال بالعبادة) بأنواعها، (ويكفر مس المصحف محدثا بإكرام المصحف وكثرة القراءة منه، وكثرة تقبيله) ، ووضعه على العينين، ورفعه في أشرف المواضع، (وبأن يكتب مصحفا) بخطه، (ويجعله وقفا) على المسلمين، يقرؤون فيه، (ويكفر شرب الخمر بالتصدق بشراب حلال هو أطيب منه وأحب إليه) بأن يتصدق بشرب السكر مثلا، يجعله في كيزان ويسقي الناس في المجامع، أو يقف في ممر الناس في أوقات شدة الحر والعطش، (وعد جميع المعاصي غير ممكن، وإنما المقصود سلوك طريق المضادة; فإن المرض إنما يعالج بضده) ليقاومه فيعتدل المزاج [ ص: 577 ] (وكل ظلمة ارتفعت إلى القلب بمعصية فلا يمحوها إلا نور ارتفع إليها بطاعة من جنسها، لكن تضادها، والمتضادات هي المتناسبات; فلذلك ينبغي أن يمحو كل سيئة بحسنة من جنسها، لكن تضادها; فإن البياض يزال بالسواد) فإنه ضده (لا بالحرارة والبرودة) ، والحرارة تزال بالبرودة، وبالعكس لا باليبوسة والرطوبة، (وهذا التدريج من التلطف في تحقيق طريق المحو، فالرجاء فيه أصدق، والثقة به أكثر من أن يواظب على نوع واحد من العبادات، وإن كان ذلك أيضا مؤثرا في المحو) ، وكذا إن فعل أنواعا من العبادات، ولكنها ليست من جنس المعاصي المرجوع عنها; فإنها مؤثرة في المحو كذلك، وقد روى الخطيب من حديث أنس: "إذا كثرت ذنوبك فاسق الماء على الماء تتناثر كما يتناثر الورق من الشجر في الريح العاصف، (فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى، ويدل على أن الشيء يكفر بضده أن حب الدنيا رأس كل خطيئة) كما ورد في الخبر، وتقدم الكلام عليه، (وأثر اتباع الدنيا في القلب السرور بها والحنين إليها، فلا جرم كان كل أذى يصيب المسلم ينبو بسببه قلبه عن الدنيا يكون كفارة له إذ القلب يتجافى بالهموم والغموم عن دار الهموم) أي: يتباعد، (قال صلى الله عليه وسلم: "من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهموم، وفي لفظ آخر: إلا الهم بطلب المعيشة) ، ولفظ القوت: اعلم أن الغم على ما يفوت من الدنيا والهم والحرص عليها من العقوبات، والفرح والسرور بما نال من الدنيا مع ما لا ينال بما فرح من ذنبه من العقوبات، وقد كان عقوبة الذنب ذنبا مثله وأعظم منه، كما يكون ثواب الطاعة طاعة مثلها، أو أفضل منها، وقد يكون دوام العوافي واتساع الغنى من عقوبات الذنوب، إذا كانا سببين إلى المعاصي، وفي إحدى الوجوه من معنى قوله: وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون قال: الغنى والعافية، فقد صار الفقر والمرض رحمة من الله تعالى: إذا كانا سبين للعصمة، وفي الخبر: "من الذنوب ذنوب لا يكفرها إلا الهم بطلب المعيشة، وفي لفظ آخر: إلا الهموم" فالهموم والأحزان بالمباحات من حاجات الدنيا كفارات، وهي على ما تقرر من قربات الآخرة للمؤمنين درجات، وهي على حسب الدنيا والجمع منها والحرص عقوبات. انتهى .

والحديث المذكور قال العراقي: رواه الطبراني في الأوسط، وأبو نعيم في الحلية، والخطيب في تلخيص المتشابه من حديث أبي هريرة بسند ضعيف، وتقدم في النكاح. انتهى .

قلت: لفظ الطبراني وأبي نعيم: إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة، ولا الوضوء، ولا الحج، ولا العمرة. قيل: فما يكفرها يا رسول الله؟ قال: الهموم بطلب المعيشة"، وهكذا رواه ابن عساكر أيضا، وهو غريب جدا، وفيه يحيى بن يوسف بن يعقوب الرقي، وهو ضعيف، وفي لفظ: لا تكفرها الصلاة ولا الصوم ولا الحج، ويكفرها الهم في طلب المعيشة، ورواه الخطيب في تلخيص المتشابه بنحوه من طريق يحيى بن بكير، عن مالك، عن محمد بن عمرو بن علقمة، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة، وفي لفظ: " عرق الجبين بدل الهم"، وللديلمي من حديث أبي هريرة: "إن في الجنة درجة لا ينالها إلا أصحاب الهموم" يعني في المعيشة، وروى الخطيب في المتفق والمفترق عن أبي عبيد، عن أنس رفعه: إن من الذنوب ذنوبا لا تكفرها الصلاة، ولا الزكاة، ولا الصوم، ولا الحج، يكفرها الهموم في طلب المعيشة"قال الأزدي: أبو عبيد عن أنس شبه لا شيء .

(وفي حديث عائشة رضي الله عنها: إذا كثرت ذنوب العبد، ولم تكن له أعمال تكفرها أدخل الله عليه الهموم فتكون كفارة لذنوبه) ، ولفظ القوت: ولم تكن له من الأعمال ما يكفر أدخل إليه الهموم والغموم، قال العراقي: تقدم أيضا في النكاح، وهو عند أحمد من حديث عائشة: "ابتلاه الله بالحزن" انتهى. قلت: ذكر هناك أن فيه ليث بن أبي سليم مختلف فيه، ولفظ أحمد في المسند: "إذا كثرت ذنوب العبد، فلم يكن له من العمل ما يكفرها ابتلاه الله بالحزن ليكفرها عنه" قال المنذري: رواته ثقات إلا ليث بن أبي سليم، وقال الهيثمي: فيه ليث، وهو مدلس، وبقية رجاله ثقات، ولكن حسنه الحافظ السيوطي، وكأنه رجح جانب التوثيق فيه، والله أعلم .

(ويقال: إن الهم الذي يدخل على القلب، والعبد لا يعرفه هو ظلمة الذنوب، والهم بها شعور القلب بوقفة الحساب، وهول المطلع) ، ولفظ القوت، ويقال: إن الهم الذي يعرض للقلب في الوقت لا يعلم العبد سببه هو كفارة الهم بالخطايا، ويقال: هو حرز العقل عند تذكرة الوقوف والمحاسبة; لأجل جنايات الجسد [ ص: 578 ] فيلزم العقل ذلك، فيظهر على العبد منه كآبة، لا يعرف بها سبب غمه; (فإن قلت: هم الإنسان غالبا بماله وولده وجاهه، وهو خطيئة فكيف يكون كفارة، فاعلم أن الحب له خطيئة، والحرمان عنه كفارة، ولو تمتع به لتمت الخطيئة، فقد روي) في أخبار يعقوب عليه السلام أن الله تعالى أوحى إليه: لولا ما سبق لك من علمي من عنايتي بك، لجعلت نفسي عندك أبخل الباخلين لكثرة ترددك علي، وطول سؤالك لي، وتأخير إجابتك، ولكن من عنايتي بك أن جعلت نفسي في قلبك أني أرحم الراحمين، وأحكم الحاكمين، وقد سبقت لك عندي منزلة لم تكن تنالها بشيء من عملك إلا بحزنك على يوسف، فأردت أن أبلغك تلك المنزلة، وكذلك روي (أن جبريل عليه السلام دخل على يوسف عليه السلام في السجن فقال له) يوسف: (يا أخي كيف تركت الشيخ الكبير) ، وفي نسخة: الكئيب، (فقال: قد حزن عليك حزن مائة ثكلى قال) يوسف (فما) ذا (له عند الله قال: أجر مائة شهيد) كذا في القوت .

قلت: أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم عن السدي قال: أتى جبريل عليه السلام يوسف عليه السلام، وهو في السجن فسلم عليه، وجاءه في صورة رجل حسن الوجه طيب الريح، نقي الثياب، فقال له يوسف: أيها الملك الحسن وجهه، الكريم على ربه، الطيب ريحه، حدثني كيف يعقوب؟ قال: حزن عليك حزنا شديدا، قال: فما بلغ من حزنه؟ قال: حزن سبعين مثكلة. قال: فما بلغ من أجره؟ قال: أجر سبعين شهيدا. قال يوسف: من آوى بعدي؟ قال: إلى أخيك بنيامين. قال: فتراني ألقاه؟ قال: نعم. فبكى يوسف لما لقي أباه، ثم قال: ما أبالي ما لقيت إن الله أرانيه، وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ليث بن سليم نحوه، وأخرجه من طريق ليث عن ثابت البناني نحوه، عن ليث بن سليم نحوه من طريق ليث، عن مجاهد نحوه، وعن عبد الله بن أبي جعفر نحوه، وأخرجه عبد بن حميد، وأبو الشيخ عن وهب بن منبه نحوه، وأخرجه ابن جرير، عن عكرمة نحوه، وفيه: أجر سبعين ثكلى، وعن الحسن وفيه وجد أجر سبعين ثكلى، وأجر مائة شهيد، وما ساء ظنه بالله ساعة من ليل ولا نهار، (فإذن الهموم أيضا مكفرات حقوق الله) عز وجل، (فهذا حكم ما بينه وبين الله تعالى) ، والذي يقبل القضاء فتصح أيضا توبته، ولكن يجب عليه قضاء ما فات; لأن التوبة عبادة الوقت; لوجوبها على الفور، وقد قام بها، ولا وقت لها معين، والذمة مشغولة به، وهذا الحكم في المعاصي المتعدى ضررها إلى الغير، وأجناسها ثلاثة في النفس والمال والعرض، وفي كل واحد من هؤلاء حق لله، وحق للعبد; أما حق الله فقد كفرته التوبة .




الخدمات العلمية