الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكلفا ، كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره ، حتى إذا سافر ، وفارق تكلفا ، وصبر عنه مدة تسلى عنه قلبه فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكلفا بأن يبذله بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له .

ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم ، والاشتهار بالسخاء ، فيبذل على قصد الرياء حتى تسمح نفسه بالبذل طمعا في حشمة الجود ، فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل ، واكتسب بها خبث الرياء ، ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء ، ويزيله بعلاجه ، ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال كما يسلى الصبي عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير ، وغيرها لا ليخلى واللعب ولكن لينفك عن الثدي إليه ، ثم ينقل عنه إلى غيره فكذلك ، هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب ، وتكسر سورته بها ، ويسلط الغضب على الشهوة ، وتكسر رعونتها به ، إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء فيبدل ، الأقوى بالأضعف ، فإن كان الجاه محبوبا عنده كالمال ، فلا فائدة فيه ، فإنه يقلع من علة ، ويزيد في أخرى مثلها ، إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء فبذلك ، يتبين أن الرياء أغلب عليه ، فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء ، فينبغي أن يبذل ، فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه .

ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال : إن الميت تستحيل جميع أجزائه دودا ثم يأكل بعض الديدان البعض حتى يقل عددها ، ثم يأكل بعضها بعضا حتى ترجع إلى اثنتين قويتين عظيمتين ، ثم لا تزالان تتقاتلان إلى أن تغلب إحداهما الأخرى ، فتأكلها ، وتسمن بها ، ثم لا تزال تبقى جائعة وحدها إلى أن تموت فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها ويجعل الأضعف قوتا للأقوى إلى أن لا يبقى إلا واحدة ، ثم تقع العناية بمحوها وإذابتها بالمجاهدة وهو منع القوت عنها .

ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها ، فإنها تقتضي لا محالة أعمالا وإذا ، خولفت خمدت الصفات ، وماتت .

مثل البخل ، فإنه يقتضي إمساك المال ، فإذا منع مقتضاه ، وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل ، وصار البذل طبعا ، وسقط التعب فيه فإن ، علاج البخل بعلم ، وعمل فالعلم يرجع إلى معرفة آفة البخل ، وفائدة الجود ، والعمل يرجع إلى الجود ، والبذل على سبيل التكلف ، ولكن قد يقوى البخل بحيث يعمي ويصم فيمنع تحقق المعرفة فيه ، وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة ، فلم يتيسر العمل ، فتبقى العلة مزمنة كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء ، وإمكان استعماله ، فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت .

وكان ، من عادة بعض شيوخ الصوفية في معالجة علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص بزواياهم .

وكان إذا توهم في مريد فرحه بزاويته وما فيها نقله إلى زاوية غيرها ، ونقل زاوية غيره إليه ، وأخرجه عن جميع ما ملكه وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه ، أو سجادة يفرح بها ; يأمره بتسليمها إلى غيره ، ويلبسه ثوبا خلقا لا يميل إليه قلبه .

فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا .

فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها فإن كان له ألف متاع كان له ألف محبوب ; ولذلك إذا سرق كل واحد منه ألمت به مصيبة بقدر حبه له ، فإذا مات نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة ; لأنه كان يحب الكل ، وقد سلب عنه ، بل هو في حياته على خطر المصيبة بالفقد ، والهلاك .

حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج مرصع بالجواهر لم ير له نظير ، ففرح الملك بذلك فرحا شديدا ، فقال لبعض الحكماء عنده : كيف ترى هذا قال : أراه مصيبة ، أو فقرا ، قال : كيف ? قال : إن كسر كان مصيبة لا جبر لها ، وإن سرق صرت فقيرا إليه ولم تجد مثله ، وقد كنت قبل أن يحمل إليك في أمن من المصيبة ، والفقر ، ثم اتفق يوما أن كسر أو سرق ، وعظمت مصيبة الملك عليه فقال : صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا . وهذا شأن جميع أسباب الدنيا فإن الدنيا عدوة لأعداء الله ; تسوقهم إلى النار وعدوة أولياء الله ; إذ تغمهم بالصبر عنها وعدوة الله ; إذ تقطع طريقه على عباده وعدوة نفسها ، فإنها تأكل نفسها ، فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحراس .

والخزائن والحراس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال ، وهو بذل الدراهم والدنانير ، فالمال يأكل نفسه ويضاد ذاته حتى يفنى ، ومن عرف آفة المال لم يأنس به ولم يفرح ولم يأخذ منه إلا بقدر حاجته ومن قنع بقدر الحاجة ، فلا يبخل ; لأن ما أمسكه لحاجته ، فليس ببخل وما لا ، يحتاج إليه ، فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله ، بل هو كالماء على شط الدجلة ; إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بمقدار الحاجة .

التالي السابق


(ولا تزول صفة البخل إلا بالبذل تكالفا، كما لا يزول العشق إلا بمفارقة المعشوق بالسفر عن مستقره، حتى إذا سافر، وفارق تكالفا، وصبر عليه مدة تسلى عنه قلبه) ، وبرد عشقه (فكذلك الذي يريد علاج البخل ينبغي أن يفارق المال تكالفا بأن يبذله) في وجوه الخير، (بل لو رماه في الماء كان أولى به من إمساكه إياه مع الحب له) ; لأنه يقطع علاقته عن قلبه .

(ومن لطائف الحيل فيه أن يخدع نفسه بحسن الاسم، والاشتهار بالسخاء، فيبذل) أولا (على قصد الرياء) ، والسمعة لأجل أن يقال: إنه سخي (حتى تسمح نفسه بالبذل طمعا في حشمة الجود، فيكون قد أزال عن نفسه خبث البخل، واكتسب لها خبث الرياء، ولكن ينعطف بعد ذلك على الرياء، ويزيله بعلاجه، ويكون طلب الاسم كالتسلية للنفس عند فطامها عن المال كما يسلى الصبي [ ص: 210 ] عند الفطام عن الثدي باللعب بالعصافير، وغيرها لا ليخلى واللعب) ، فإنه ما خلق لذلك، (ولكن لينتقل عن الثدي إليه، ثم ينتقل عنه إلى غيره، وكذلك هذه الصفات الخبيثة ينبغي أن يسلط بعضها على بعض كما تسلط الشهوة على الغضب، وتكسر سورته بها، ويسلط الغضب على الشهوة، وتكسر رعونتها) ، وأنفتها (به، إلا أن هذا مفيد في حق من كان البخل أغلب عليه من حب الجاه والرياء، فيبدل الأقوى بالأضعف، فإن كان الجاه محبوبا عنده كالمال، فلا فائدة فيه، فإنه يقطع علة، ويزيد في أخرى) هي (مثلها، إلا أن علامة ذلك أن لا يثقل عليه البذل لأجل الرياء، فبذلك يتبين أن الرياء أغلب عليه، فإن كان البذل يشق عليه مع الرياء، فينبغي أن يبذل، فإن ذلك يدل على أن مرض البخل أغلب على قلبه، ومثال دفع هذه الصفات بعضها ببعض ما يقال: إن الميت يستحيل جميع أجزائه دودا) في قبره (ثم يأكل بعض الديدان بعضا حتى يقل عددها، وتكبر، ثم يأكل بعضها بعضا حتى ترجع إلى ثنتين قويتين عظيمتين، ثم لا يزالان يتقاتلان) ، وفي نسخة: يقتتلان (إلى أن تغلب إحداهما الأخرى، فتأكلها، وتسمن بها، ثم لا تزال تبقى وحدها جائعة إلى أن تموت) إذا لم تجد ما تأكله; كالنار تأكل نفسها إن لم تجد ما تأكله .

(فكذلك هذه الصفات الخبيثة يمكن أن يسلط بعضها على بعض حتى يقمعها بذلك فيجعل الأضعف قويا للأقوى إلى أن لا تبقى إلا واحدة، ثم تقع العناية بمحوها) ، وإزالتها (وإذابتها بالمجاهدة) ، والرياضة (وهو منع القوت عنها، ومنع القوت عن الصفات أن لا يعمل بمقتضاها، فإنها تقتضي لا محالة أعمالا، فإذا خولفت خمدت الصفات، وماتت) ، وما لم يمنع قوتها لم ينفع التسليط (مثل البخل، فإنه يقتضي إمساك المال، فإذا منع مقتضاه، وبذل المال مع الجهد مرة بعد أخرى ماتت صفة البخل، وصار البذل طبعا، وسقط التعب فيه، فإذا علاج البخل بعلم، وعمل العلم يرجع إلى معرفة آفة البخل، وفائدة الجود، والعمل يرجع إلى الجود، والبذل على سبيل التكلف، ولكن قد يقوى البخل) في الإنسان (بحيث يعمي) الأبصار (ويصم) الأسماع (فيمنع تحقق المعرفة بآفاته، وإذا لم تتحقق المعرفة لم تتحرك الرغبة، فلم يتيسر العمل، فتبقى العلة مزمنة) ، أي: ملازمة لا تفارق (كالمرض الذي يمنع معرفة الدواء، وإمكان استعماله، فإنه لا حيلة فيه إلا الصبر إلى الموت، و) لقد (كان من عادة بعض الشيوخ) من السادة (الصوفية) نفع الله بهم (في معالجة علة البخل في المريدين أن يمنعهم من الاختصاص) ، والانفراد (بزواياهم) المختصة بهم (فكان إذا توهم في مريد فرحة بزاويته) ، ورآه قد أعجب بها (وما فيها نقله إلى زاوية غيره، ونقل زاوية غيره إليه، وأخرجه عن جميع ما ملكه) كسرا لالتفات قلبه (وإذا رآه يلتفت إلى ثوب جديد يلبسه، أو سجادة يفرح بها; يأمره بتسليمه إلى غيره، ويلبسه ثوبا خلقا) قد لبسه غيره، ثم خلفه (لا يميل إليه قلبه، فبهذا يتجافى القلب عن متاع الدنيا) ، ويتسلى عنه، فلا يمر البخل بباله (فمن لم يسلك هذا السبيل أنس بالدنيا وأحبها) ، وشتت همه، وباله (فإن كان له ألف متاع كان له ألف محبوب; ولذلك إذا سرق كل واحد من ذلك ألمت به مصيبة بقدر حبه له، فإذا نزل به ألف مصيبة دفعة واحدة; لأنه [ ص: 211 ] كان يحب الكل، وقد سلب عنه، بل هو في حياته على خطر المصيبة بالفقر، والهلاك) ، أي: مشرف عليها بأحدهما .

يحكى أنه (حمل إلى بعض الملوك قدح من فيروزج) حجر معروف سمائي اللون، فارسي معرب (مرصع بالجواهر لم ير له نظير، ففرح الملك به فرحا شديدا، فقال لبعض الحكماء) الذي كان (عنده: كيف ترى هذا؟ فقال: أراه مصيبة، أو فقرا، قال: كيف؟ قال: إن انكسر كانت مصيبة لا جبر لها، وإن سرق صرت فقيرا إليه) ، أي: محتاجا له (ولم تجد مثله، وقد كنت قبل أن حمل إليك في أمن من المصيبة، والفقر، ثم اتفق) بعد مدة (أن انكسر) القدح المذكور (يوما، وعظمت مصيبة الملك عليه) لألفة قلبه إليه (فقال: صدق الحكيم ليته لم يحمل إلينا .

وهذا شأن جميع أسباب الدنيا) ، فإنها عند فقدها تورث حسرة في القلب (فإن الدنيا عدوة لأعداء الله; إذ تسوقهم إلى النار) ، فتظهر لهم إذ ذاك عداوتها (وعدوة لأولياء الله; إذ تغمهم بالصبر عنها) ، والحبس عن لذاتها (وعدوة لله; إذ تقطع طريقه على عباده) السالكين إليه (وعدوة نفسها، فإنها تأكل نفسها، فإن المال لا يحفظ إلا بالخزائن والحرس) لها، ( والخزائن والحرس لا يمكن تحصيلها إلا بالمال، وهو بذل الدراهم والدنانير، فالمال يأكل نفسه) بالنظر إلى الوجه المذكور (ويضاد ذاته حتى يفنى، ومن عرف آفة المال لم يأنس به) أصلا (ولم يأخذ منه إلا قدر حاجته) الضرورية (ومن قنع بقدر الحاجة، فلا يبخل; لأن ما أمسكه لحاجته، فليس ببخل، وما لا يحتاج إليه، فلا يتعب نفسه بحفظه فيبذله، بل هو كالماء على شاطئ دجلة; إذ لا يبخل به أحد لقناعة الناس منه بقدر الحاجة) .




الخدمات العلمية