الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان ، فكالسيف ، والسنان ، وسائر المهلكات التي يقصد بها ، فافتقر إلى قوة ، وحمية تثور من باطنه ، فتدفع المهلكات عنه ، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها ، بطينته فمهما صد عن ، غرض من أغراضه ، ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب ، وثارت ثورانا يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار ، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر فلذلك ، ينصب إلى الوجه ، فيحمر الوجه ، والعين ، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم ، كما تحكي الزجاجة لون ما فيها وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه ، واستشعر القدرة عليه ، فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ، وصار حزنا ; ولذلك يصفر اللون وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط ، فيحمر ، ويصفر ، ويضطرب .

وبالجملة ، فقوة الغضب محلها القلب ، ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام ، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات ، قبل وقوعها ، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها ، والانتقام قوت هذه القوة ، وشهوتها ، وفيه لذتها ، ولا تسكن إلا به ، ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة من التفريط ، والإفراط ، والاعتدال .

; أما التفريط فبفقد هذه القوة أو ضعفها ، وذلك مذموم ، وهو الذي يقال فيه : إنه لا حمية له ولذلك قال الشافعي رحمه الله من استغضب ، فلم يغضب ، فهو حمار فمن فقد قوة الغضب ، والحمية أصلا ، فهو ناقص جدا وقد وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة ، والحمية فقال : أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم الآية وإنما الغلظة ، والشدة من آثار قوة الحمية ، وهو الغضب .

وأما الإفراط ، فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل ، والدين ، وطاعته ، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ، ونظر ، وفكرة ولا اختيار ، بل يصير في صورة المضطر .

وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان ، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب لأن الغضب من النار .

كما قال صلى الله عليه وسلم وإنما برودة المزاج تطفئه ، وتكسر سورته .

وأما الأسباب الاعتيادية ، فهو أن يخالط قوما يتبجحون بتشفي الغيظ ، وطاعة الغضب ، ويسمون ذلك شجاعة ، ورجولية ، فيقول الواحد منهم : أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ولا أحتمل من أحد أمرا ومعناه لا عقل في ، ولا حلم ثم يذكره في معرض الفخر بجهله فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب ، وحب التشبه بالقوم ، فيقوى به الغضب .

التالي السابق


(وأما الأسباب الخارجية التي يتعرض لها الإنسان، فكالسيف، والسنان، وسائر المهلكات التي يقصد بها، فافتقر إلى قوة، وحمية تثور من باطنه، فتدفع المهلكات عنه، فخلق الله الغضب من النار) كما وردت به الأخبار، وسيأتي ذكر بعضها (وغرزه في الإنسان، وعجنه بطينته، فهما قصد في غرض من أغراضه، ومقصود من مقاصده اشتعلت) ، أي: ارتفعت (نار الغضب، وثارت ثورانا يغلي به دم القلب) كما يغلي الماء في القدر على النار، (وينتشر) ذلك الدم (في العروق) الأوردة منها والشرايين، (ويرتفع إلى أعالي البدن) من العروق (كما ترتفع النار، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر، فذلك ينصب في الوجه، فيحمر الوجه، والعين، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم، كما تحكي الزجاجة لون ما فيها) ، ففي حديث أبي سعيد رفعه: ألا إن الغضب جمرة في قلب ابن آدم; أما رأيتم إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ وفي مرسل الحسن: الغضب جمرة في قلب الإنسان توقد; ألا ترى إلى حمرة عينيه، وانتفاخ أوداجه؟ (وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه، واستشعر القدرة عليه، فإن صدر الغضب ممن فوقه) في الرتبة (وكان معه يأس من الانتقام) منه (تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب، وصار خوفا; ولذلك يصفر اللون) وينخطف، (وإن كان على نظير يشك فيه تولد منه تردد الدم بين انقباض وانبساط، فيحمر، ويصفر، ويضطرب) فاحمراره، واصفراره من ترجيح أحد الطرفين على الآخر تارة وتارة، واضطرابه للتردد .

(وبالجملة، فقوة الغضب محلها القلب، ومعناها غليان دم القلب لطلب الانتقام، وإنما تتردد هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات، والمهلكات قبل وقوعها، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها، والانتقام فوق هذه القوة، وشهوتها، وفيه لذتها، ولا تسكن إلا به، ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة) التي فطروا عليها (من التفريط، والإفراط، والاعتدال; أما التفريط ففقد هذه القوة) من أصلها (أو ضعفها، وذلك مذموم، وهو الذي يقال فيه: إنه لا حمية له) ، والحمية الإشارة بقوله:


ولا خير في حلم إذا لم يكن له بوادر تحمي صفوه أن يكدرا

(ولذلك قال الشافعي) - رضي الله عنه -: (من استغضب، فلم يغضب، فهو حمار) ، أي: بليد الطبع جافل .

أخرجه البيهقي، وغيره بأسانيدهم، وسيأتي قريبا .

(فمن فقد قوة الغضب، والحمية أصلا، فهو ناقص جدا) مناقض لرتبة الكمال، (وقد وصف الله - سبحانه وتعالى - أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة، والحمية) في الدين، والصلابة [ ص: 11 ] (فقال: والذين معه أشداء على الكفار ) ، أي: أقوياء عليهم يحمون حمى الدين بأنفتهم، (وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم) : يا أيها النبي (جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم ، والغلظة والشدة) في الآيتين (من آثار قوة الحمية، وهو الغضب) ، وكذلك في قوله تعالى في وصف الصحابة: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين (وأما الإفراط، فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل، والدين، وطاعته، ولا يبقى للمرء معه بصيرة، ونظر في الأمور، وفكرة) فيها (ولا اختيار فيها، بل يصير في صورة المضطر) ، والملجأ، والمكره (وسبب غلبته أمور غريزية) من أصل الخلقة (وأمور اعتيادية) قد اعتاد عليها، (فرب إنسان هو بالفطرة) الأصلية (مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب) بأن يكون الحار فيه أكثر، وهذا هو اعتداله، والمزاج كيفية متشابهة من تفاعل عناصر متفقة الأجزاء المماسة؛ بحيث تكسر سورة كل واحد منهما سورة الآخر؛ (لأن الغضب من النار، كما قال صلى الله عليه وسلم) .

قال العراقي: رواه الترمذي من حديث أبي سعيد بسند ضعيف: الغضب جمرة في قلب ابن آدم، ولأبي داود من حديث عطية السعدي: إن الغضب من الشيطان، وإن الشيطان خلق من النار.

فيه أبو وائل القاص، واسمه عبد الله بن يحيى، قال ابن حبان: يروي العجائب، ووثقه ابن معين. انتهى .

قلت: حديث أبي سعيد رواه أيضا الإمام أحمد، وحديث عطية السعدي أخرجه أبو داود من طريق عروة بن محمد بن عطية بن عروة بن سعد الساعدي، عن أبيه، عن جده، وكذلك رواه الإمام أحمد، ورواه أبو نعيم في الحلية، وابن عساكر من طريق أبي إدريس الخولاني من حديث معاوية ابن أبي سفيان: إن الغضب من الشيطان، والشيطان من النار، (فبرودة المزاج تطفئه، وتكسر سورته، وأما الأسباب الاعتيادية، فهو أن يخالط قوما) ، أي: يعاشرهم فيراهم (يتبجحون) ، أي: يفتخرون (بتشفي الغيظ، وطاعة الغضب، ويسمون ذلك شجاعة، ورجولية، فيقول الواحد منهم: أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال) ، أي: المماحلة (ولا أحمل من أحد) ، وفي نسخة من أحد أمرا، (ومعناه) عند التأمل (لا عقل لي، ولا حلم) ، فهو لا يدرك هذا المعنى، (ثم) لا يستحي حتى (يذكره في معرض الفخر) ، والتبجح (بجهله) ، وسخافة عقله، (فمن سمعه) منهم (رسخ في نفسه حسن الغضب، وحب التشبه بالقوم، فيقوى به الغضب) ، ويعتاد عليه مستحلا له .




الخدمات العلمية