الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقال صلى الله عليه وسلم : خيرني ربي بين أمرين ؛ أن أكون عبدا رسولا ، أو ملكا نبيا ، فلم أدر أيهما أختار ، وكان صفيي من الملائكة جبريل فرفعت رأسي إليه فقال : تواضع لربك ، فقلت : عبدا رسولا .

وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي ، ولم يتعاظم على خلقي ، وألزم قلبه خوفي ، وقطع نهاره بذكري ، وكف نفسه عن الشهوات من أجلي .

وقال صلى الله عليه وسلم : الكرم التقوى ، والشرف التواضع واليقين الغنى .

وقال المسيح عليه السلام : طوبى للمتواضعين في الدنيا ، هم أصحاب المنابر يوم القيامة ، طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا ، هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة ، طوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا ، هم الذين ينظرون إلى الله تعالى يوم القيامة .

وقال بعضهم : بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إذا هدى الله عبدا للإسلام ، وحسن صورته وجعله في موضع غير شائن له ورزقه مع ذلك تواضعا ، فذلك من صفوة الله .

وقال صلى الله عليه وسلم : أربع لا يعطيهم الله إلا من أحب الصمت وهو أول العبادة والتوكل على الله ، والتواضع والزهد في الدنيا .

وقال ابن عباس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة » . .

وقال صلى الله عليه وسلم : « التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة ، فتواضعوا يرحمكم الله .

ويروى » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يطعم فجاء رجل أسود به جدري ، قد تقشر فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه فأجلسه النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنبه .

وقال صلى الله عليه وسلم : إنه ليعجبني أن يحمل الرجل الشيء في يده يكون مهنة لأهله ، يدفع به الكبر عن نفسه .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوما ما لي : « لا أرى عليكم حلاوة العبادة ، قالوا : وما حلاوة العبادة ? قال : التواضع . »

وقال صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم المتواضعين من أمتي فتواضعوا لهم ، وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم ؛ فإن ذلك مذلة لهم وصغار .

التالي السابق


(وقال صلى الله عليه وسلم: خيرني ربي بين أمرين؛ أن أكون عبدا رسولا، أو ملكا نبيا، فلم أدر أيهما أختار، وكان صفيي من الملائكة جبريل) عليه السلام، والصفي كغني هو من يصطفيه الإنسان لنفسه بالصحبة والمحبة ويختاره (فرفعت رأسي) كالمستشير إليه (فقال: تواضع لربك، فقلت: عبدا رسولا) .

قال العراقي: رواه أبو يعلى من حديث عائشة، والطبراني من حديث ابن عباس، وكلا الحديثين ضعيف. اهـ .

قلت: ورواه هناد في الزهد من مرسل الشعبي، بلفظ: "خيرني ربي بين أن أكون نبيا ملكا أو نبيا عبدا، ولم أدر ما أقول، وكان صفيي من الملائكة جبريل، فنظرت إليه، فقال بيده أن تواضع، فقلت: نبيا عبدا".

(وأوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام) يا موسى: (إنما أقبل صلاة من تواضع لعظمتي، ولم يتعاظم على خلقي، وألزم قلبه خوفي، وقطع نهاره بذكري، وكف نفسه عن الشهوات من أجلي) رواه الديلمي من حديث حارثة بن وهب، رفعه، قال الله -عز وجل-: "ليس كل مصل يصلي، إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، وكف شهواته عن محارمي، ولم يصر على معصيتي، وأطعم الجائع، وكسا العريان، ورحم المصاب، وآوى الغريب، كل ذلك لي" الحديث .

وروى الدارقطني في الأفراد من حديث علي: "يقول الله تعالى: إنما أتقبل الصلاة ممن تواضع لعظمتي، ولم يتكبر على خلقي، وقطع نهاره بذكري، ولم يبت مصرا على خطيئته، يطعم الجائع، ويؤوي الغريب، ويرحم الصغير، ويوقر الكبير، فذلك الذي يسألني فأعطيه" الحديث، وقد تقدم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: الكرم التقوى، والشرف التواضع) أي: إن الناس متساوون، وإن أحسابهم إنما هي بأفعالهم لا بأنسابهم (واليقين الغنى) فإن العبد إذا تيقن أن له زرقا قدر له لا يتخطاه عرف أن طلبه لما لم يقدر له عناء، لا يفيد سوى الحرص والطمع المذمومين، فقنع برزقه، وشكر عليه .

قال العراقي: رواه ابن أبي الدنيا في كتاب اليقين مرسلا، وأسند الحاكم أوله من رواية الحسن، عن سمرة، وقال: صحيح الإسناد. اهـ .

قلت: رواه ابن أبي الدنيا في الكتاب المذكور من مرسل يحيى بن أبي كثير، ورواه العسكري في الأمثال من قول عمر بلفظ: "الكرم التقوى، والحسب المال، لست بخير من فارسي ولا نبطي إلا بتقوى الله".

ويروى: "الحسب المال، والكرم التقوى" هكذا رواه أحمد، وعبد بن حميد في تفسيره، والترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وابن ماجه، والطبراني، والحاكم، والبيهقي، والضياء من حديث سمرة، وهذا هو الذي أشار إليه العراقي.

ورواه القضاعي من حديث بريدة، ورواه العسكري في الأمثال، والطبراني، وأبو نعيم في الحلية، من حديث أبي هريرة.

ورواه الطبراني، وابن جرير وصححه، والخطيب من حديث علي، ورواه الطبراني من حديث جابر.

(وقال عيسى [ ص: 353 ] عليه السلام: طوبى للمتواضعين في الدنيا، هم أصحاب المنائر يوم القيامة، طوبى للمصلحين بين الناس في الدنيا، هم الذين يرثون الفردوس يوم القيامة، طوبى للمطهرة قلوبهم في الدنيا، هم الذين ينظرون إلى الله يوم القيامة) أخرجه أحمد في الزهد، من طريق خيثمة.

(وقال بعضهم: بلغني أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: إذا هدى الله عبدا للإسلام، وحسن صورته) أي: في ظاهر ما يرى (وجعله في موضع غير شائن له) من الشين وهو العيب، أي: لا يكون في نسبه دخلة (ورزقه مع ذلك تواضعا، فذلك من صفوة الله) أي: ممن اصطفاه الله واختاره .

قال العراقي: رواه الطبراني موقوفا على ابن مسعود نحوه، وفيه المسعودي، مختلف فيه. اهـ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: أربع) خصال (لا يعطيهن الله إلا من يحب) وفي نسخة: من أحب (الصمت) أي: السكوت عما لا ينبغي، أو: ما لا يعني المتكلم (وهو أول العبادة) أي: مبناها وأساسها؛ لأن اللسان هو الذي يكب الناس على مناخرهم (والتوكل على الله، والتواضع) أي: لين الجانب للخلق على طبقاتهم، ورؤية الإنسان نفسه حقيرا صغيرا (والزهد في الدنيا) أي: القلة فيها .

قال العراقي: رواه الطبراني والحاكم من حديث أنس: "أربع لا يصبن إلا بعجب: الصمت وهو أول العبادة، والتواضع، وذكر الله، وقلة الشيء" قال الحاكم: صحيح الإسناد .

قلت: فيه القوام بن جويرية، قال ابن حبان: يروي الموضوعات، ثم روى له هذا الحديث. اهـ .

قلت: وكذلك رواه البيهقي، ورواه ابن عساكر موقوفا، ومعنى كونهن لا يصبن إلا بعجب، أي: لا توجد وتجتمع في إنسان في آن واحد إلا على وجه عجيب، يتعجب منه لعظم موقعه؛ لكونها قل أن تجتمع؛ فإن الغالب على الزاهد في الدنيا قلة ما ينفق منه على نفسه وذويه، فيظهر الشكوى والتضجر، ويمنع صرف الهمة إلى الذكر، فاجتماعها شيء عجيب، لا يحصل إلا بتوفيق إلهي، وإمداد سماوي .

وقد شنع الذهبي والمنذري على الحاكم في الحكم بتصحيحه، فذكر الذهبي في الميزان في ترجمة العوام بن جويرية بعد أن تعجب من إخراجه له، وقال ابن عدي: الأصل في هذا أنه موقوف على أنس، وقد رفعه بعض الضعفاء عن أبي معاوية حميد بن الربيع، وقد قال يحيى: حميد كذاب .

(وقال ابن عباس) رضي الله عنه (قال صلى الله عليه وسلم: "إذا تواضع العبد رفعه الله إلى السماء السابعة") قال العراقي: رواه البيهقي في الشعب نحوه، وفيه زمعة بن صالح، ضعفه الجمهور. اهـ .

قلت: سياق المصنف رواه الخرائطي في مكارم الأخلاق، وفيه الكريمي، قال ابن حبان: كان يضع على الثقات .

وروى الخرائطي في مساوئ الأخلاق في أثناء حديث: "فإذا تواضع رفعه الله بالسلسلة إلى السماء السابعة" وقد تقدم قريبا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "التواضع لا يزيد العبد إلا رفعة، فتواضعوا يرحمكم الله") قال العراقي: رواه الأصفهاني في الترغيب والترهيب من حديث أنس، وفيه بشر بن الحسين، وهو ضعيف جدا. ولمسلم في أثناء حديث أبي هريرة: "ما تواضع أحد لله إلا رفعه الله". اهـ .

قلت: سياق المصنف رواه أبو نعيم في الحلية، ومن طريقه الديلمي من حديث أنس، إلا أنه قال: "فتواضعوا يرفعكم الله" ورواه ابن أبي الدنيا في ذم الغضب من حديث محمد بن عمير العبدي بزيادة جملتين، وهما: "والعفو لا يزيد إلا عزا، فاعفوا يعزكم الله، والصدقة لا تزيد المال إلى كثرة فتصدقوا يرحمكم الله" ومحمد بن عمير العبدي لم أجده في الصحابة .

(وروي أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يطعم فجاء رجل أسود) اللون (به جدري، قد) برئ منه (وتقشر) وتقيح (فجعل لا يجلس إلى أحد إلا قام من جنبه) تقذرا له وتكرها (فأجلسه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلى جنبه) وأكل معه .

قال العراقي: لم أجده هكذا، والمعروف "أكله مع مجذوم" رواه أبو داود، وقال: غريب، وابن ماجه من حديث جابر، وقد تقدم .

(وقال صلى الله عليه وسلم: إنه ليعجبني أن يحمل الرجل شيئا في يده يكون مهناة) وفي نسخة: مهنة (لأهله، يدفع به الكبر عن نفسه) قال العراقي: غريب .

قلت: ورد من حديث أبي سعيد: "كان -صلى الله عليه وسلم- لا يمنعه الحياء أن يحمل بضاعة من السوق" أورده القشيري في الرسالة .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "ما لي لا أرى عليكم حلاوة العبادة، قالوا: وما حلاوة العبادة؟ قال: التواضع") .

[ ص: 354 ] قال العراقي: غريب أيضا .

(وقال صلى الله عليه وسلم: "إذا رأيتم المتواضعين فتواضعوا، وإذا رأيتم المتكبرين فتكبروا عليهم؛ فإن ذلك مذلة لهم وصغار) قال العراقي: غريب أيضا، والمعنى: إن المتكبر إذا تواضعت له تمادى في تيهه، وإذا تكبرت عليه يمكن أن يتنبه، ومن ثم قال الشافعي: ما تكبر علي متكبر مرتين. وقال الزهري: التجبر على أبناء الدنيا أوثق عرى الإسلام. وفي بعض الآثار: "التكبر على المتكبر صدقة" ويؤيده ما تقدم من حديث ركب المصري: "طوبى لمن تواضع في غير منقصة، وذل في غير مسكنة" ومنه يؤخذ أن الرجل إذا تغير صديقه وتكبر عليه لنحو منصب أن يفارقه؛ ولذلك قيل:


سأصبر عن رفيقي إذا جفاني على كل الأذى إلا الهوان

وقال الشيخ الأكبر -قدس سره-: الخضوع واجب في كل حال إلى الله باطنا وظاهرا، فإذا اتفق أن يقام في موطن الأولى فيه ظهور عزة الإيمان وجبروته وعظمته لعز المؤمن وعظمته وجبروته، ويظهر في المؤمن من الأنفة والجبروت ما يناقض الخضوع والذلة فالأولى إظهار ما يقتضيه ذلك الموطن، فإن للمواطن أحكاما، فافعل بمقتضاها تكن حكيما. والله أعلم .




الخدمات العلمية