الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها فتحتاج إلى دواب تحملها ، وصاحب المال قد لا تكون له دابة ، فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة ويصير الكراء نوعا من الاكتساب أيضا ، ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى النقدين فإن من يريد أن يشتري طعاما بثوب ، فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو ، والمعاملة تجري في أجناس مختلفة ، كما يباع ثوب بطعام ، وحيوان بثوب ، وهذه أمور لا تتناسب ، فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر ، فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال ، ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه ; لأن الحاجة إليه تدوم .

وأبقى الأموال المعادن فاتخذت النقود من الذهب ، والفضة ، والنحاس ثم مست الحاجة إلى الضرب ، والنقش ، والتقدير فمست الحاجة إلى دار الضرب والصيارفة وهكذا تتداعى الأشغال ، والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه فهذه أشغال الخلق ، وهي معاشهم وشيء من هذه الحرف لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم ، وتعب في الابتداء وفي الناس من يغفل عن ذلك في الصبا ، فلا يشتغل به ، أو يمنعه عنه مانع فيبقى عاجزا عن الاكتساب ; لعجزه عن الحرف ، فيحتاج إلى أن يأكل مما يسعى فيه غيره فيحدث ، منه حرفتان خسيستان : اللصوصية والكدية إذ يجمعهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما ، ثم الناس يحترزون من اللصوص ، والمكدين ، ويحفظون عنهم أموالهم فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدابير أما اللصوص ، فمنهم من يطلب أعوانا ويكون في يديه شوكة وقوة ، فيجتمعون ، ويتكاثرون ، ويقطعون الطريق ، كالأعراب والأكراد وأما الضعفاء منهم فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب أو التسلق عند انتهاز فرصة الغفلة وإما بأن يكون طرارا أو سلالا إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة بحسب ما تنتجه الأفكار المصروفة إلى استنباطها .

التالي السابق


(ثم هذه الأموال التي تنقل لا يقدر الإنسان على حملها) على ظهره (فيحتاج إلى دواب تحملها، وصاحب المال قد لا يملك الدابة، فتحدث معاملة بينه وبين مالك الدابة تسمى الإجارة) ، وقد تقدم الكلام عليها في كتاب الكسب (ويصير الكراء نوعا من الاكتساب أيضا، ثم يحدث بسبب البياعات الحاجة إلى التقدير) ، والتخمين (فإن من يريد أن يشتري طعاما بثوب، فمن أين يدري المقدار الذي يساويه من الطعام كم هو، والمعاملة تجري في أجناس مختلفة، كما يباع ثوب بطعام، وحيوان بثوب، وهذه أمور لا تتناسب، فلا بد من حاكم عدل يتوسط بين المتبايعين يعدل أحدهما بالآخر، فيطلب ذلك العدل من أعيان الأموال، ثم يحتاج إلى مال يطول بقاؤه; لأن الحاجة إليه تدوم، وأبقى الأموال المعادن) المركوزة في الأرض (فاتخذت النقود من الذهب، والفضة، والنحاس) لأجل التعامل بها، (ثم مست الحاجة إلى الضرب، والنقش، والتقدير فحدثت الحاجة إلى) اتخاذ (دار الضرب) واتخاذ السكة فيها احتاج العمال فيها إلى صنائع كثيرة تبلغ إلى السبعين; كل ذلك مما يحتاج لتهيئة آلاتها، فالدينار لا يصلح التعامل حتى يقع في يد اثني عشر صانعا، والنقرة المضروبة تزيد على ذلك .

(و) بعد تمام الدينار، والدرهم تحدث الحاجة (إلى الصيارفة) ليحرروهما، وينقدوهما بالعيار الصحيح (وهكذا تتداعى الأشغال، والأعمال بعضها إلى بعض حتى انتهت إلى ما تراه) .

والأصل في هذا كله تيسير القوت، والملبس، والمسكن (فهذه أشغال الخلق، وهي معايشهم) ، ولكن ينبغي أن يعلم أن حصول الفقر، وخوفه الناتجين للحرص هما الباعثان على الجد، واحتمال الكد في منفعة الناس، إما باختيار، وإما باضطرار; ولهذا قيل: رب ساع لقاعد، وهو أن يكون الناس لو كفى كل منهم أمره لأدى ذلك إلى فساد العالم من حيث إنه لم يكن أحد يعول لغيره مهنة، وكان الواحد منهم يعجز عن القيام بمصالح نفسه كلها، فيؤدي إلى فقر جميعهم، وقد قيل: قيام العالم بالفقر أكثر من قيامه بالغنى; لأن الصناعات القائمة بالغنى ثلاث: الملك، والتجارة، والبناء، وسائرها قائمة بالفقر; فلو لم يكن الفقر وخوفه من كان يتولى الحياكة، والحجامة، والدباغة، والكناسة، ومن كان ينقل البز والملابس من الشرق إلى الغرب، ومن الجنوب إلى الشمال .

هذا مع أن من الناس من لو كفى أمر دنياه لكان يوجد منه من البغي والفساد ما يؤدي إلى خراب البلاد، وفساد العباد، بل كان يوجد منه ما يؤدي إلى هلاك نفسه في أسرع مدة، ومن تدبر صنع الله - عز وجل - لم تعرض له الشبهة التي تعرض لمن يقول: إذا كان الله غنيا جوادا، واسعا، فلم خص بعضهم بالغنى، وجعل أكثرهم فقراء، ومن حق الغني الذي يغني عباده، والجواد الذي لا يعرف لجوده منتهى أن لا يخص بالعطية بعضا دون بعض، وذلك الجواد الحق هو الذي يعطي كل أحد بقدر استحقاقه على وجه يعود لمصلحته، ومصلحة غيره، وقد فعل تعالى ذلك بالعباد .

ثم قال المصنف: (وشيء من هذه الحرف) ، والصناعات (لا يمكن مباشرته إلا بنوع تعلم، وتعب في الابتداء) ، أي: في أول عمره، ففي الخبر: التعلم في الصغر كالنقش على الحجر، والتعلم في الكبر كالنقش على الماء الجاري (ومن الناس من يغفل عن ذلك [ ص: 135 ] في الصبا، فلا يشتغل به، أو يمنعه عنه مانع فيبقى) باقي عمره (عاجزا عن الاكتساب; لعجزه عن الحرف، فيحتاج أن يأكل مما يسعى فيه غيره، فتحدث منه حرفتان خسيستان: اللصوصية) ، وهي سلب أموال الناس بالقوة (والكدية) بالكسر، وهي الشحاذة ، أي: التكفف من الناس (إذ يجمعهما أنهما يأكلان من سعي غيرهما، ثم الناس يحترزون من اللصوص، والمكدين، ويحفظون عنهم أموالهم) ، ولما رأوا أنهم قد حصنوا أموالهم (فافتقروا إلى صرف عقولهم في استنباط الحيل والتدبير) في أخذ أموالهم (أما اللصوص، فمنهم من يطلب أعوانا) يساعدونهم على صنعتهم، ويقاسمونهم ما يأخذون (ويكون) مع ذلك (في يديه شوكة وقوة، فيجتمعون، ويتكاثرون، ويقطعون الطرق في البر والبحر، كالأعراب والأكراد) ، وبعض الأتراك، وأما الضعفاء منهم، فيفزعون إلى الحيل إما بالنقب، وهو أن ينقب الحائط (أو التسلق) بأن يطلع على الحائط (عند انتهاز فرصة الغفلة) من أرباب الأموال، ولكل منهما آلات معدة، فمن آلات النقب المعاول، ومن آلات التسلق المسامير، والمطارق، فيدق المسمار، ويمكنه من الحائط، فيصعد عليه، ثم مسمارا آخر، وهكذا إلى أن يصعد، فيربط به حبلا جعله كالسلم فيتدلى به، وينزل إلى الموضع فيأخذ ما فيه، ثم يصعد بذلك الحبل إلى أن ينزل عودا على بدء، وقد يفتقر إلى فتح الباب من داخل ليدخل أعوانه، ويتخذون لفتح الأبواب والأغاليق آلات تفتحها .

(وإما بأن يكون طرارا) وأصل الطر الشق، والطرار هو الذي يقطع النفقات يأخذها على غفلة من أهلها (أو سلالا) ، وهو بمعناه، وكذا المختلس (إلى غير ذلك من أنواع التلصص الحادثة في الأزمنة المتأخرة بحسب ما أنتجته الأفكار المصروفة إلى استنباطها) ، وهي صناعة مستقلة، ولها أناس معروفون، ويعلمون صبيانهم من الصغر حتى ينشؤوا على ذلك، ولهم في ذلك حكايات مستغربة .




الخدمات العلمية