الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
5- وظيفة الدولة في النظام الإسلامي كما يحللها الجويني:

- بين الحصر والإطلاق:

تناول الجويني في كتابه "الغياثي" وظائف الدولة، وجعلها على قسمين: وظائف تتعلق بالدين، ووظائف تتعلق بالدينا، ومما يلفت النظر أن الجويني يحصر الوظائف التي تناط بالأئمة والتي هي اختصاصهم، بمعنى أنه يترك الباقي للمجتمع والأفراد ولا يعدها من المجالات التي تشرف عليها الدولة؛ ليترك [ ص: 101 ] للمجتمع والأفراد مجالا لتنظيم أنفسهم بإرادتهم الحرة وبالتعاقد الحر.

وفي هذا يقول: "فأما ما يتعلق بالأئمة من أحكام الدنيا فنقدم فيه أولا ترتيبا ضابطا يطلع على غرض كلي [1] ، ويفيد الناظر العلم بانحصار القضايا المتعلقة بالأئمة".

أ: وظائف الدولة الدينية:

تناول الجويني وظائف الدولة الدينية وجعلها على قسمين:

واجب الدولة نحو أصل الدين، وواجب الدولة نحو فرع الدين.

أ:1 - واجب الدولة نحو أصل الدين:

يقول الجويني: "فأما القول في أصل الدين فينقسم إلى: حفظ الدين بأقصى الوسع على المؤمنين، ودفع شبهات الزائغين، كما سنقرره إن شاء الله رب العالمين" [2] .

يعرض الجويني لوظيفة الدولة تجاه العقائد، وهل الدولة مطالبة بحفظ الدين ومحاربة الردة والإلحاد ومنع نشر الأفكار، التي تشوش على الناس دينهم وعقائدهم؟

وهذه المسألة مهمة لعلاقاتها بموضوع حرية الضمير والمعتقد، التي كفلتها المواثيق الدولية الحديثة.

فالدولة في النظرية الإسلامية لا تعد نشر أفكار تشوش العقيدة الإسلامية [ ص: 102 ] من حرية المعتقد، بل هو أمر مجرم، ولكنها تسمح لأهل الأديان بحرية ممارسة شعائرهم وتعليم أولادهم وبناء معابدهم.

ومن هنا، فإن الدول المسلمة التي وقعت على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان إذا ظهرت فيها حركات دينية بين المسلمين، تشوش عقيدتهم فإنها تمنعها استنادا إلى حفظ النظام العام، وهذا أمر متبع في الدول الحديثة.

فالدستور الأردني، مثلا، في المادة (14) ينص على: "تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقا للعادات المرعية في المملكة مالم تكن مخلة بالنظام العام أو منافية للآداب".

وتجد في هذه الفكرة مقارنة وتميزا عن نظرة الفكر الليبرالي لموقف الدولة من الدين؛ فبحسب الفكر الليبرالي الأديان عندهم سواء، ما كان منها سماويا أو وضعيا، ولذا لا يوجد في الفكر الليبرالي جريمة ردة، أما في الفكر الديني عموما فالردة محرمة، والدولة في الفكر الإسلامي مطالبة بالمحافظة على الدين ومحاربة الردة، مع حفظ حق الأديان السماوية بحرية الشعائر، وفي الفكر المسيحي حصل تطور في موقف الكنيسة الكاثوليكية حديثا، حيث تبنت حرية الضمير.

المهام المطلوبة من الدولة لحفظ الدين:

فصل الجويني في هذه الوظيفة، وجعلها بحسب حالة المجتمع، فإذا كان المجتمع في حالة بعيدة عن الأفكار الإلحادية أو البدع فيكون دور الدولة المتابعة [ ص: 103 ] والصيانة، وهذا يعني وجود نظام تقييم للوضع الديني في المجتمع وأدوات قياس لمعرفة كفاية تحقق الأهداف، وفي هذا يقول:

الحالة الأولى: إن صفا الدين عن الكدر:

الإجراء المطلوب: المتابعة والمراقبة:

"إن صفا الدين عن الكدر [3] والأقذاء، وانتفض عن شوائب البدع والأهواء [4] ، كان حقا على الإمام [5] أن يرعاهم بنفسه ورقبائه [6] ، بالأعين الكالئة، فيرقبهم بذاته وأمنائه بالآذان الواعية، ويشارفهم مشارفة الضنين ذخائره [7] ، ويصونهم عن نواجم الأهواء، وهواجم الآراء، فإن منع المبادي أهون من قطع التمادي" [8] .

وكلام الجويني هنا يشير إلى وظيفة الدولة في تنظيم المؤسسات التربوية، [ ص: 104 ] التي تعنى ببناء قيم الفضيلة والتمييز بين الفضيلة والرذيلة، وتحدد ما ينبغي أن يكون عليه السلوك والتفكير، حتى يأتيا مطابقين للأسس والقيم التي قبلها المجتمع وآمن بها.

كما يدل كلام الجويني على وظيفة الدولة في تنسيق نظم التكتل الاجتماعي التي يسميها "دور كايم": "النظم المورفولجية" التي تنظم الطريقة التي يتجمع بها الأفراد بعضهم مع بعض، أي تشرف على تنسيق شؤون التكتل نفسه [9] .. ومن هنا يتحدث لاحقا عن خطورة تجمع أهل البدع، وأن السلطان يعمل على إعادة توزيع سكاني لهم بلطف الرأي: "ويقطع بلطف [10] الرأي عددهم، ويبدد في الأقطار المتباينة عددهم [11] ، ويحسم عنهم على حسب الإمكان مددهم، ويعمل بمغمضات الفكر فيهم سبل الإيالة [12] ، والمرء يعجز لا محالة" [13] .

أ: 2: واجب الإمام والدولة نحو فروع الدين:

نبه الجويني أن فروع العبادات من صلاة وصوم لا يعد إذن الإمام شرطا في صحتها، ولكنه قد يشترط حضور الإمام من الناحية التنظيمية في ذات [ ص: 105 ] الحضـور الجماعي، كالجمـع والأعياد لمنع خـلافات يمكن أن تحدث بين الناس في التجمعات، وهذا يدخل ضمن ولاية التنظيم والإدارة التي هي من وظائف الدولة.

كما أن الإمام مطالب بمتابعة العبادات التي تعد شعارا ظاهرا كالأذان، وإن لم يكن يؤدى على نحو جماعي، وفي هذا يقول:

"العبادات البدنية التي تعبد الله بها المكلفين، لا تتعلق صحتها بنظر الإمام،... ما كان منها شعارا ظاهرا في الإسلام، تعلق به نظر الإمام، وهي على نوعين، وذلك ينقسم إلى: ما يرتبط باجتماع عدد كبير، وجم غفير، كالجمع والأعياد ومجامع الحجيج.. ما لا يتعلق باجتماع، كالأذان وعقد الجماعات فيما عدا الجمعة من الصلوات.

فأما ما يتعلق بشهود جمع كبير، فلا ينبغي للإمام أن يغفل عنه، فإن الناس إذا كثروا عظم الزحام، وجمع المجمع أخيافا؛ وألف أصنافا، خيف في مزدحم القوم أمور محذورة.

فإذا كان منهم ذو نجدة وبأس، يكف عادية إن هم بها معتدون كان الجمع محروسا، ودرأت هيبة الوالي ظنونا وحدوسا، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة أبا بكر رضي الله عنه على الحجيج، ثم استمرت تلك السنة في كل سنة" [14] .

ب: وظائف الدولة الدنيوية وما يتعلق بالأئمة من أحكام الدنيا:

بين الجويني أن "ما يتعلق بالأئمة من أحكام الدنيا" محصور في أمرين: [ ص: 106 ] حفظ ما حصل، أي المحافظة على الدولة وعلى أهلها، وطلب ما لم يحصل وهو توسيع الرقعة الجغرافية للدولة أو زيادة نفوذها الخارجي وحضورها في المحافل الدولية ويعبر عنه بـ "ابتغاء الازدياد في خطة الإسلام" [15] .

وفي هذا يقول: "على الإمام بذل كنه الاجتهاد في ابتغاء الازدياد في خطة الإسلام [16] ، والسبيل إليه الجهاد ومنابذة أهل الكفر والعناد، وعليه القيـام بحفظ الخـطة، فالتقسـيم الأولي الكلي طلب ما لم يحصل، وحفظ ما حصل".

ب: 1: حفظ ما حصل بتحصين الجبهة الداخلية وتحصين الجبهة الخارجية من الكفار:

ويكون بمنع التمرد على القانون المعبر عنه بالتنمر، كما تعمل الدولة لمنع الدعوات العنصرية والإقليمية، التي تمزق المجتمع، ويعبر الجويني عن هذه الوظيفة بحفظ من في الخطة، فيكون بحفظ أهلها عن التواثب والتغالب والتقاطع والتدابر والتواصل [17] ، وهو هنا يدعو إلى مفهوم دولة القانون، بحيث [ ص: 107 ] يطبق الشرع على الجميع، كما يدعو إلى محاربة الدعوات العنصرية والجاهلية والقلبية الضيقة، التي تمزق المجتمع، وهي المعبر عنها بـ "التواصل".

كما يكون تحصين الجبهة الخارجية بحفظ الخطة عن الكفار، فهو بسد الثغور، وإقامة الرجال على المراصد، وبناء الحصون والقلاع، وتوفير التموين اللازم والذخائر، وفي هذا يقول:

"وأما اعتناء الإمام بسد الثغور، فهو من أهم الأمور، وذلك بأن يحصن أساس الحصون والقلاع [18] ، ويستذخر لها بذخائر الأطعمة، ومستنقعات المياه، واحتفار الخنادق، وضروب الوثائق، وإعداد الأسلحة والعتاد وآلات الصد والدفع، ويرتب في كل ثغر من الرجال ما يليق به. ولا ينبغي أن يكثروا فيجوعوا، أو يقلوا فيضيعوا [19] .. والمعتبر في كل ثغر أن يكون بحيث لو أتاه جيش، لاستقل أهله بالدفاع إلى أن يبلغ خبرهم الإمام، أو من يليه من أمراء الإسلام" [20] .

ثم فصل في حفظ من تحويه الخطة، فجعله على قسمين: الكليات والجزئيات، ويعني بالكليات ما يكون باجتماع أقوام والجزئيات ما يكون من أفراد.

- واجبات الدولة بحفظ ما حصل.. على مستوى الكليات:

يقول الجويني عن هذا الواجب: "فهو نفض بلاد الإسلام عن أهل [ ص: 108 ] العرامة [21] ، والمتلصصين والمترصدين للرفاق، فيجب على الإمام صرف الاهتمام إلى ذلك حتى تنتفض البلاد عن كل غائلة، وتتمهد السبل للسابلة"

[22] .

ثم فصل في هذا الواجب، وبين الارتباط الوثيق بين الأمن والرخاء الاقتصادي، فقال:

"وأما نفض أهل العرامة [23] من خطة الإسلام، ففيه انتظام الأحـكام، ولا تصفو نعمة عن الأقذاء، ما لم يأمن أهل الإقامة والأسفار من الأخطار والأغرار [24] ، فإذا اضطربت الطرق [25] ، وانقطعت الرفاق، وانحصر الناس في البلاد، وظهرت دواعي الفساد، ترتب عليه غلاء الأسعار [26] ، وخراب الديار [27] ، وهواجس الخـطوب الكبار [28] ، فالأمن والعافية قاعدتا النعم كلها، [ ص: 109 ] ولا يهنأ بشيء منها دونها" [29] .

كما نبه الجويني إلى أهمية قيام رئيس الدولة بنفسه بمتابعة القضاء على العصابات المنظمة، وبين مواصفات من يختارون لهذه المهمة، فقال:

"فلينتهض الإمام لهذا المهم [30] ، وليوكل بذلك الذين [31] يخفون وإذا حزب خطب لا يتواكلون، ولا يتجادلون، ولا يركنون إلى الدعة والسكون، ويتسارعون إلى لقاء الأشرار بدار الفراش إلى النار [32] ، فليس للناجمين من المتلصصين مثل أن يبادروا قبل أن يتجمعوا أو يتألبوا، وتتحد كلمتهم [33] ، أشار الحديث النبوي إلى انجذاب الفراش للنار فيما رواه مسلم (رقم 2285): "مثلي ومثلكم، كمثل رجل أوقد نارا، فجعل الجنادب والفراش يقعن فيها وهو يذبهن عنها، وأنا آخذ بحجزكم عن النار وأنتم تفلتون من يدي".

[ ص: 110 ] ويلحظ أن الفراش يندفع نحو النار، كأن الفراشة ترى محبوبها، وعبر "إقبال" عن الفراشة التي تحترق لتصبح مضيئة كالشمعة بقوله: "أحب احتراقي بنار اشتياقي" في ديوانه "جاويد نامه" [34] .

وتلحظ هنا أن الجويني نبه إلى خطورة تجمع أفراد العصابات "فليس للناجمين من المتلصصين مثل أن يبادروا قبل أن يتجمعوا أو يتألبوا، وتتحد كلمتهم"، فإن تجمعهم يغريهم بالتمرد على القانون، ولذا ينبغي أن يكون للدولة جهاز أمني وقائي يمنع تجمعهم وتكون عصابات منظمة منهم.

- واجبات الدولة بحفظ ما حصل.. على مستوى الجزئيات:

مفهوم الجزئيات في هذا الباب يقصد به: التهديدات التي تتكون من أفراد، في مقابل الكليات، التي تتكون من اجتماع، كالعصابات المنظمة.

وبين الجويني أن واجب الدولة حفظ الجبهة الداخلية بحفظ أهل الدولة عن تهديد الكفار، وحفظ الجبهة الخارجية بحفظ أهل الدولة عن التواثب والتغالب والتدابر والتواصل، والمقصود بالتواصل هنا الدعوات العنصرية والعصبية التي تفتت وحدة الجماعة.

وفي هذا يقول: "والقول في حفظ ما حصل ينقسم إلى حفظه عن الكفار، وإلى حفظ أهله عن التواثب [35] والتغالب، والتقاطع [36] والتدابر [ ص: 111 ] والتواصل" [37] ، والمقصود الدعوات الإقليمية والعنصرية التي تمزق وحدة الجماعة فعلى الدولة أن تعنى بمحاربة هذه الدعوات، كما تعنى بمنع الصراع الداخلي والفتن وأخذ الحق بالمغالبة.

وفي سبيل تحقيق هذا الواجب لابد من إيجاد مرفق القضاء للفصل بين الخصومات وحتى لا يكون أخذ الحق بالقوة والمغالبة، وإشراك المؤسسة التعليمية في بناء قيم احترام القانون والمواطنة، ونبذ ما يهدد السلم الاجتماعي، كما ينبغي على الدولة سن التشريعات التي تحمل الناس على مراشدهم، وتوفير شبكة أمان للضعفاء والمعرضين للضياع

وهذه الوظائف مرتبطة بالإقدار على العمران والسكنى وبتحقيق التنمية.. فتوفر الأمن ضروري للاستقرار والاستثمار، ثم وضع التشريعات بسن السياسات التي تردع المتمردين على القانون هو أمر متعلق بوظيفة القانون في الارتقاء بأفراد الجماعة أخلاقيا، ثم توفير شبكة أمان تحمي المعرضين للضياع وتوفر لهم حاجاتهم، وهو مما يشعر المواطن بالأمان على مستقبله من تقلبات الحياة، داخل دولته.

وفي تسمية هذه الوظـائف بالجزئيات التفات من الجويني لمنشأ القضية؛ إذا أنها لا تنشا من اجتماع أقوام، كما في المسائل المسماة بالكليات، فالقضايا [ ص: 112 ] التي ينظرها القـاضي مثـلا تنـشأ من اختـلاف بين طرفـين، وإليـك تفصيلا لهذه الخدمات:

- إقامة مرفق القضاء، لفصل الخصومات بين الأفراد، وفي هذا يقول: "وأما ما يرتبط بالجزئيات، فتحصره ثلاثة أقسام: أحدها: فصل الخصومات الثائرة [38] ، وقطع المنازعات الشاجرة، وهذا يناط بالقضاة والحكام".

- سن التشريعات الرادعة، التي تحمل الناس على التزام ما فيه رشدهم، ووضع الضمانات الملزمة، وفي هذا يقول: "والقسم الثاني في نظرة الجزئي حفظ المراشد على أهل الخطة [39] يكون بإقامة السياسات والعقوبات الزاجرة [40] من ارتكاب الفواحش والموبقات".

وتحت هذا الباب يدخل تفصيلات عديدة منها:

- "... وأما زجره الغواة، وردع الطغاة، بضروب العقوبات"، فيناقش الجويني ما هو الحد الذي تسمح به قواعد السياسة الشرعية من تغليظ العقوبات، ويضع قيدا على الدولة بحيث لا تتجاوز بالعقوبة التعزيزية حدا منصوصا عليه. فالحدود هي النهايات القصوى للتعازير، فإذا نص الشارع على عقوبة الجلد للقذف مثـلا بثـمانين جـلـدة فـلا يجوز أن تصل أي عقوبة تعزيزية إلى الثمانين، والحـد الأعـلى المسمـوح به في التعزير ما دون الثمانين، [ ص: 113 ] أما العقوبات البديلة عن الجلد، كالسجن أو تكليف المجرمين بالقيام بأعمال إنسانية، كمرافقة مرضى، أو تنظيف أماكن عامة، مما يبحث حديثا تحت العقوبات البديلة عن السجن، فلا مانع منه.

ونلحظ بهذا التوجه عند الجويني أنه ضيق من مجال العقوبات البدنية، فليس للدولة التوسع فيها تعزيزا، وهذا ينسجم مع الاتجاه الجنائي الحديث الذي يميل إلى إلغاء العقوبات البدنية.

وبخصوص التعامل مع البغاة، وهم الذين يقصدون التمرد على الدولة، وهي ما يسمى بالجرائم السياسية، وهي تختلف عن جرائم أهل العرامة، الذين يخرقون القانون بالسرقة المنظمة، وتكوين العصابات، ولكن لا يوجد لأهل العرامة قصد سياسي.

فالبغي من الجرائم السياسية، فيها قصد سياسي برفض النظام أو شخص الحاكم، أما أهل العرامة فهم يخرقون أمن المجتمع والنظام، ولكل جريمة عقوبتها وأسلوبها في التعامل.

ولذا يبدأ الجويني في التعامل مع البغاة بالحوار، وفي هذا يقول:

"فأما القتال، فالقول فيه يتعلق بقتال أهل البغي [41] ، وتفصيل صفاتهم، وحالاتهم، ودفعهم عن البلاد التي احتووا عليها بتقديم العذر أولا [42] ، وبالمباحثة عما نقموه، وإسعافهم بمناهم، إن دعوا إلى حق، وادعوا على صدق، وإبانة حيدهم عن سنن الصواب، إن عرتهم شائبة الارتياب، فإن أبوا [ ص: 114 ] آذنهم بحرب. كل ذلك مذكور مشهور.. وكل من امتنع عن الاستسلام للإمام والإذعان [43] لجريان الأحكام، فإن لم يكن مع الامتناع منعة وشوكة، اقتهر على الطاعة، وموافقة الجماعة"

[44] .

- سد حاجات المحاويج والمعرضين للضياع، وتوفير شبكة أمان للضعفاء كحماية الأيتام والعجزة، وفي هذا يقول: "والقسم الثالث: -أي من وظائف الدولة على مستوى الجزئيات- القيام على المشرفين على الضياع" [45] .

ويندرج تحت هذه النقطة أمران:

أ- الولاية عن من لا ولي له من الأطفال والمجانين في أنفسهم وأموالهم.

ب- سد حاجات المحاويج:

وهذه الوظيفة تعني تدخل الدولة لحماية الضعفاء والمعرضين للضياع، الذين لا تمكنهم قدراتهم حماية حقوقهم، وهذه الوظيفة مما يعزز ولاء الأفراد للدولة.. وسبيل تدخل الدولة لحماية المعرضين للضياع بطريقين:

- بإعطاء القاضي ولاية بحكم القانون؛ لينوب مناب الولي الشرعي، "فالسلطان ولي من لا ولي له من الأطفال والمجانين، وهي تنقسم إلى ولاية [ ص: 115 ] الإنكاح وحفظ الأموال".

- برعاية الفقراء وسد الحاجات؛ ويقرر الجويني أن هذه الوظيفة من أهم الأولويات، كما يقرر أن للإمام فرض ضرائب مالية على الأغنياء، رعاية للفقراء، استنادا لعدد من الأدلة، منها التخريج على وجوب تكفين الميت الفقير وتجهيزه على أغنياء حيه، ورعـاية الحي أولى من رعاية الميت. ويقرر أن ما يفرضه الإمام ليس قرضا بل هو واجب على أغنياء الأمة، وفي هذا يقول: "فحق على الإمام أن يجعل الاعتناء بهم -أي الفقراء-من أهم أمر في باله، فالدنيا بحذافيرها لا تعدل تضرر فقير من فقراء المسلمين في ضر، فإن انتهى نظر الإمام إليهم رم ما استرم من أحوالهم، من الجهات التي سيأتي عليها شرحنا، إن شاء الله عز وجل".

- "فإن لم يبلغهم نظر الإمام، وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين حرجوا من عند آخرهم، وباءوا بأعظم المآثم، وكان الله طليبهم وحسيبهم. فإن لم يبلغهم نظر الإمام، وجب على ذوي اليسار والاقتدار البدار إلى رفع الضرار عنهم، وإن ضاع فقير بين ظهراني موسرين حرجوا من عند آخرهم، وباءوا بأعظم المآثم، وكان الله طليبهم وحسيبهم" [46] .

ومعنى كلام الجويني أنه إذا لم تستطع الدولة أن تصل إلى هذا الفقير [ ص: 116 ] تصبـح المسـؤولية عـلى أغنـيـاء الـدولـة الـقـادرين منهم، فأي حالة فقر وعوز لا يصلها نظر الإمام تنتقل المسؤولية إلى القادرين من الأمة؛ لأن التكليف ابتداء كان على الأمة، ورئيس الدولة وكيل عنهم ومفوض باسمهم.

والوكالة السياسية للإمام تعطيه اختصاصا في بعض الأمور ولكنها لا ترفع مسؤولية الأمة، ويبقى للأمة حق الرقابة والنصح، وإذا عجز الوكيل أو لم يبلغ نظر الإمام لبعض مناطق الفقر يعود الأمر للأصيل وهو الأمة.

وتأسيسا على ما سبق، إذا كلف الإمام أغنياء الأمة بالقيام بسد حاجة الفقراء، يكون ما دفعه الأغنياء على سبيل التبرع، وهو كنفقة الأب على ابنه، وهذا ما عبر عنه الجويني في نقضه للقول بأن تكون الأموال قرضا بقاعدة: "هذا يشعر أنهم ما كانوا متأصلين فيما كلفهم بـهم ربـهم"، أي أن التكليف لم يوجه لهم أصالة وهذا خطأ؛ لأن الإمام وكيل عنهم وإذا عجز الوكيل عاد الأمر إلى الأصيل، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يبيتن ليلة شبعان وجاره طاو" [47] ، وإذا كان تجهيز الموتى من فروض الكفايات، فحفظ مهج الأحياء، وتدارك حشاشة الفقراء أتم وأهم" [48] .

[ ص: 117 ] ويتسع مفهوم "رعاية المعرضين للضياع" لصور مستجدة متنوعة، مثل:

- إنشاء مؤسسات للولاية على أموال القاصرين، وتدريب القاصرين على استثمار أموالهم، بما يضمن لهم حياة كريمة، وقد عملت دولة قطر على إنشاء هيئة تعنى بشؤون القاصرين، بموجب قانون الولاية على أموال القاصرين وقرار أميري منظم لشؤون الهيئة [49] .

- إنشاء مؤسسات لرعاية النساء اللواتي يتعرضن للعنف من قبل أزواجهن، فمن رعايتهن إنشاء مؤسسات لتوفير مأوى للمعنفات من النساء، ووجود صندوق لتسليف النفقة، بحيث يعطي لطالب النفقة المعرض للضياع سلفة من الصندوق، وتكون دينا على المحكوم عليه، تستوفى منه بقوة القانون الملزم بعد صدور القرار القضائي، ويمكن أن يتعاون هذا الصندوق مع المصارف لإصدار بطاقة تسمى بطاقة العون تمكن طالب النفقة من أخذ المساعدة من غير حاجة إلى مراجعة البنوك أو المحاكم، وكل ذلك يدخل تحت المبدأ "الكلي" الذي قرره الجويني بحماية الضعفاء، وأطلق عليه مصطلح: "سد حاجات المحاويج".. ومثله أقيمت مؤسسة لحماية الأسرة وحماية الأطفال من إهمال ذويهم وأوليائهم.

ثم انتهى الجويني إلى تقرير أن هذه الوظائف هي المطلوبة من الدولة [ ص: 118 ] "لحفظ ما حصل" على نحو جامع، فقال: "فهذه جوامع الإمام من في الخطة، ثم لا يتأتى الاستقلال بهذا المنصب إلا بنجدة عظيمة يطبق الخطة ويفضل عنها".

وإضافة إلى هذه الوظائف، يمكن إضافة وظيفة التنظيم والإدارة بترتيب سبل أخذ الناس للمباح، حتى لا يؤدي للتخاصم، ولم يفصلها الجويني، فيمكن أن تدخلها تحت هذا الباب أو تحت باب آخر وهو حمل الناس على مراشدهم بوضع السياسات، وإن كان كلام الجويني وسياقه في هذه النقطة ينصرف لوظيفة الدولة العقابية لمن خالف القانون.

وقد تحدث الفقهاء عن الدور التنظيمي للدولة على نحو موسع ووضع تشريعات تنظم سبل أخذ الحقوق، التي يتزاحم عليها الناس أو تحتاج إلى نظر وتأمل، كالتأكد من الأهلية لممارسة مهنة أو وظيفة، وقد جمعها الفقهاء بعبارة ضابطة مثل: "كل ما يحتاج إلى نظر وتحرير فلا بد فيه من إذن الحكام" [50] .

ب: 2: وظيفة الدولة: في طلب ما لم يحصل:

وهي الوظيفة التي تأتي في مقابل "حفظ ما حصل"، ويقصد بها وظيفة الدولة بالدعوة والجهاد لزيادة المؤمنين والقيام بواجب الشهادة على الناس.

وتناول الجويني هنا مناقشة ما قرره الفقهاء من حكم جهاد الكفاية، وأنهم قرروا أنه في كل عام مرة، وناقش هذه العبارة وله رأي تفرد فيه، وهو أن الجهاد مبني على الإمكان لا الزمان، وعبارته: "ثم قالوا: يجب أن ينتهض إلى [ ص: 119 ] كل صوب من أصواب بلاد الكفر في الأقطار، عند الاقتدار، عسكر جرار في السنة مرة واحدة [51] ، وزعموا أن الفرض يسقط بذلك،

وهذا عندي ذهول عن التحصيل [52] ; فيجب إدامة الدعوة القهرية فيهم على حسب الإمكان، ولا يتخصص ذلك بأمد معلوم في الزمان".

وفسر الجويني كلام الفقهاء المكتوب في مصنفاتهم بأنه محمول على الوسط والغالب، فقال:

"ولكن كلام الفقهاء محمول على الأمر الوسط القصد في غالب العرف [53] ، فإن جنود الإسلام إذا لم يلحقها وهن، ولم يتجاوز عددهم وعددهم المعروف في مستمر العرف، فإذا غزت فرقا أحزابا في أقطار الديار، فكابدوا من الشقاء والعناء ووعثاء الأسفار، ومصادمة أبطال الكفار ما كابدوا، وعضهم السلاح، وفشى فيهم الجراح، وهزلت دوابهم، وتبترت أسبابهم، فالغالب أنهم لا يقوون على افتتاح غزوة أخرى [54] ، ما لم يتودعوا سنة، فجرى ما ذكروه على حكم الغالب".

حصر العمل الجهادي بالدولة:

نبه الجويني أنه وإن كان الجهاد في الأصل فرض كفاية، لا ينبغي أن يقوم [ ص: 120 ] أفراد بهذا العمل حتى ولو توفرت فيهم القدرة، وفي هذا يقول: "ثم لا يؤثر لذوي البأس والنجدة من المسلمين الاستئثار والانفراد والاستبداد بالأنفس في الجهاد، بل ينبغي

[55] أن يصدروا عن رأي صاحب الأمر، حتى يكون كالئهم [56] ، وردأهم، ومراعيهم من ورائهم، فلا يضيعون في غالب الظنون".

ونبه أن معظم فروض الكفايات لا تحتاج إلى إذن من الدولة، بل تجب على القادر، ولكن الجهاد موكول إلى الإمام، وفي هذا يقول: "ومما يجب الإحاطة به أن معظم فروض الكفاية مما لا تتخصص بإقامتها الأئمة [57] ، بل يجب على كافة أهل الإمكان أن لا يغفلوه، ولا يغفلوا عنه، كتجهيز الموتى، ودفنهم، والصلاة عليهم [58] ، وأما الجهاد فموكول إلى الإمام" [59] .. وهذه نظرة فقهية دقيقة، حتى لا يؤدي الجهاد إلى عكس مقصوده.

ونبه الجويني إلى مسألة، وهي أن ما كان على الأمة على سبيل الكفاية فيكون على الحاكم على سبيل العين؛ لأنه تطوق أمور المسلمين: "وأما الجهاد فموكول إلى الإمام، ثم يتعين عليه إدامة النظر فيه على ما قدمنا ذكره، فيصير [ ص: 121 ] أمر الجهاد في حقه بمثابة فرائض الأعيان، والسبب فيه أنه تطوق أمور المسلمين، وصار مع اتحاد شخصه كأنه المسلمون بأجمعهم، فمن حيث انتاط جر الجنود وعقد الألوية والبنود بالإمام، وهو نائب عن كافة أهل الإسلام، صار قيامه بها على أقصى الإمكان به كصلاته المفروضة التي يقيمها" [60] .

ثم بسط الجويني القول في مسألتين من وظائف الدولة: التعامل مع أهل البدع، وسن التشريعات الرادعة.

ب: 3 تفصيل القول في التعامل مع أهل البدع:

وهذه مسألة، وهي تدخل ضمن وظيفة الدولة بحفظ الدين وحفظ الأمن، ذلك أن الخطر من أهل البدع في مشروعهم السياسي، وليس في معتقدهم وممارسة شعائرهم.

وكلام الجويني لابد أن نفهمه في ظرفه وسياقه التاريخي، فكان في زمن الجويني "البويهيون" قد سيطروا على الدولة، ثم أتت الدولة السلجوقية وتخلصت منهم. وفي هذا يقول ابن تيمية، يثني على نظام الملك والجويني وغيرهم من أعيان الأشاعرة في نصرتهم للحق، وموافقتهم للسنة بردهم على الروافض والقرامطة، قال، رحمه الله: "كانت الرافضة والقرامطة -علماؤها وأمراؤها-قد استظهرت في أوائل الدولة السلجوقية، حتى غلبت على الشام والعراق، وأخرجت الخليفة القائم ببغداد إلى تكريت وحبسوه بها في فتنة [ ص: 122 ] البساسيري المشهورة، فجاءت بعد ذلك السلجوقية حتى هزموهم وفتحوا الشام والعراق، وقهـروهـم بـخراسـان وحـجروهم بـمصر، وكان في وقتهم من الوزراء مثل "نظام الملك"، ومن العلماء مثل أبي المعالي الجويني، فصاروا بما يقيمونه من السنة، ويردونه من بدعـة هـؤلاء، ونحوهم، لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك" [61] .

وقسم الجويني أحوال أهل البدع، من حيث القوة والقدرة على مواجهة الحاكم، إلى أحوال:

الحالة الأولى: قبل أن يكون لهم تجمع فقال: لا بد أن تمنع الدولة تجمعهم؛ لأن تجمعهم يولد لديهم الشعور بقدرتهم على مصادمة الدولة.. وتكلم عن البعد الأمني واستعمال العيون وعن العقـوبات الرادعة.. وأكد أن لا يجوز للإمام أن يوقع عقوبة يتجاوز فيها مبادئ العدالة، ولو بقصد حماية أمن الدولة.

فبحسب ما انتهى إليه الجويني فإن الحد الأقصى للعقوبة التعزيرية بالجلد لا يجوز أن يصل للحدود، ولكنه يمكن أن يعزر بالحبس، وعليه فليس للحاكم أن يجلد داعية أهل البدع فوق العقوبة المقدرة شرعا، وإنما يجدد العقوبة إذا تكررت أسبابها.. وفي هذا يقول:

"القول في أهل البدع [62] إذا كثروا، فيدعوهم الإمام إلى الحق [63] ، فإن أبوا [ ص: 123 ] زجرهم، ونهاهم عن إظهار البدع، فإن أصروا، سطا بهم عند امتناعهم عن قبول الطاعة، وقاتلهم مقاتلة البغاة [64] ، وهذا يطرد في كل جمع يعتزون [65] إلى أهل الإسلام، إذا سلوا أيديهم عن ربقة الطاعة [66] ... وإن [67] ضمنوا للإمام أن لا يظهروا البدع [68] ، وعلم الإمام أنهم سيبثون الدعوة سرا [69] ، ويجرون إلى عامة [ ص: 124 ] الخلق شرا، وإن لم يتظاهروا بها جهرا، فيحرص الإمام أن يظهر منهم على خافية [70] ، بعد تقديم الإنذار إليهم، ثم يتناهى في تعزير من كان كذلك" [71] .

الحـالة الثـانية: أن يكون وضـع ذوي البدع من القوة بحيث لا مصلحة في مصـادمـتـهم، فمن الحكمة تجنب الدخول معهم في صدام مع ضرورة الوعي والحذر والـتـربص وانتـظـار الـفرصة المـنـاسبة للـتـخلص منهم، وفي هذا يقول:

"فإن جانبوا الائتلاف، وأبدوا صفحة الخلاف، وتميزوا عن الجماعة، وتجمعوا للخروج عن ربط الطاعة، نصب عليهم القتال إذا امتنعوا [72] ، وإن علم أنهم لكثرتهم [73] ، وعظم شوكتهم لا يطاقون [74] .

"فالقول فيهم كالقول في الباغي إذا استحفل شأنه، وتمادى زمانه، وغلب على ظن الإمام أنه لو صادفه، ودافعه بمن معه، لاصطلم الباغي أتباعه وأشياعه [75] ، ولم يستفد بلقائه إلا فرط عنائه [76] ، واستئصال أوليائه.

[ ص: 125 ] "فالوجه أن يداري ويستعد جهده، فإن سقطت منة الإمام بالكلية، فهذا إمام سقطت طاعته.

"وإن تفاقم الأمر، وفات استدراكه الإطاقة، وعسرت مقاومة ومصادمة ذوي البدع والأهواء، وغلب على الظن أن مسالمتهم ومتاركتهم وتقريرهم على مذاهبهم وجه الرأي [77] ، ولو جاهرهم لتألبوا وتأشبوا، ونابذوا الإمام، مكاوحين مكافحين، وسلوا أيديهم عن الطاعة، لخرج تدارك الأمور عن الطوق والاستطاعة [78] ، وقد يتداعى الأمر إلى تعطيل الثغور في الديار، واستجراء الكفار، فإن كان كذلك [79] ، لم يظهر ما يخرق حجاب الهيبة [80] ، ويجر منتهاه عسرا وخيبة، لكن إن أغمد عنهم صوارمه، لم يكف عنهم صرائمه، وعزائمه، وتربص بهم الدوائر، واضطرهم بالرأي الثاقب إلى أضيق [ ص: 126 ] المصائر [81] ، وأتاهم من حيث لا يحتسبون [82] ، وحرص أن يستأصل رؤساءهم [83] ، ويجتث كبراءهم، ويقطع بلطف [84] الرأي عددهم، ويبدد في الأقطـار المتـبـاينة عـددهم [85] ، ويـحـسم عنهم على حسب الإمكان مـددهم، ويعمل بـمغمـضات الفـكر فيـهم سـبل الإيـالة [86] ، والمـرء يعجز لا محالة" [87] .

"وهذا هين إذا لم يبدوا شراسا [88] ، ولم ينصبوا للخروج على الإمام راسا، فإذا وهت قوتهم ووهنت، صال عليهم صولة تكفي شرهم، وسطا بهم سطوة تمحق ضرهم [89] ، كما سيأتي تفصيل القول في أنحاء حالة السياسات" [90] .

[ ص: 127 ] - كيف نبني فكرة المواطنة في مواجهة الطائفية؟

كلام الجويني عن أهل البدع كان في بداية الدولة السلجوقية التي أشهر ملوكها "طغرل بك" الذي توفي سنة (448هـ) واستلم السلطنة بعده ابن أخيه ألب أرسلان وابنه الأخير ملك شاه، وخاضت هذه الدولة صراعا مع الدولة "البويهية" بعد أن استعان بهم الخليفة.

وكانت كتابات الجويني السياسية تخاطب الوزير نظام الملك، الذي كان وزيرا في عهد السلطان في عهد ألب أرسلان وملك شاه.

وفي هذه الفترة تمكنت السلطنة السلجوقية من إعادة هيبة الخلافة السنية بعد أن سيطر عليها القرامطة والرافضة، وكان موقف الجويني وغيره من علماء الأمة الذين واجهوا خطر تفكيك الدولة على يد الحركات الطائفية محل تقدير عام "فصاروا بما يقيمونه من السنة، ويردونه من بدعة هؤلاء، ونحوهم، لهم من المكانة عند الأمة بحسب ذلك" [91] .

ويرى بعض الباحثين المعاصرين أن المرحلة "البويهية" هي بداية تكون توجه سياسي مخالف ومصادم لفكر الدولة.

وأمام هذا التوجه السياسي الجديد، كان على المفكرين أن يبتكروا من [ ص: 128 ] أدوات إدارة الاختلاف على نحو سلمي ما يجنب الأوطان الصراع، وبما يكفل العيش الكريم للجميع على وطنه.

والبحث في مدى تدخل الدولة في الحرية الدينية للأفراد محل بحث فكري في كتابات منظري الفكر السياسية وفي الاتفاقيات الدولية لحقوق الإنسان.

فنجد في "العقد الاجتماعي" لـ "روسو" فصلا في الدين المدني، يقرر فيه أن الدولة ينبغي أن تكفل لمواطنيها حرية الاعتقاد ما دامت عقائدهم غير متـصـادمـة مع مصـلحـة الـوطن، ولكن يمكن للدولة أن تعاقب من يقول: "لا سلامة خارج الكنيسة" ما لم تكن الدولة هي الكنيسة، حتى لو كانت العقوبة طرده من الوطن [92] ، ولعل هذه النقطة هي التي كان الجويني يسعى لمعالجتها في تعامله مع أهل البدع؛ إذ عد من واجبات الحاكم حفظ الدين ومحاربة أهل البدع؛ لأن لهم موقفا دينيا يهدد سلامة المجتمع.

وقد انتهى الفكر الإنساني إلى أهمية أن تكفل الدولة للأفراد حرية ممارسة شعائرهم الدينية وحرية التعبير عن معتقداتهم وحرية بناء المعابد، على أن تكون الحرية الفكرية للأفراد مقيدة بتجنب ما يثير خطاب الكراهية داخل الجماعة وهذا قيد مهم مرتبط بالتمكين للعيش المشترك، ومن تطبيقاته المهمة ما قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان بتاريخ (25/10/2018م) أن الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم لا تدخل ضمن حرية التعبير المسموحة قانونا، وذلك جمعا [ ص: 129 ] بين نصوص الحرية الدينية ومنع ما يؤدي للكراهية داخل المجتمع.

لقد قامت المحكمة بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، وكانت امرأة من النمسا حكم عليها بغرامة بسبب إساءتها للرسول محمد صلى الله عليه وسلم تظلمت لدى المحكمة الأوربية، مستندة إلى اتفاقيات حقوق الإنسان، التي تكفل حرية التعبير، وقضت المحكمة بأن الإساءة للرسول صلى الله عليه وسلم ليست من حرية التعبير، وسببت المحكمة قرارها بأن الإدانة الجنائية ضد سيدة نمساوية أطلقت تصريحات مسيئة للرسول وتغريمها 480 يورو "لا يعد انتهاكا لحقها في حرية التعبير"، ذلك أن المحاكم المحلية (في النمسا) قامت "بتوازن دقيق بين حق المرأة في حرية التعبير وحق الآخرين في حماية مشاعرهم الدينية، والحفاظ على السلام الديني في النمسا".

واعتبرت المحكمة، أن تصريحات السيدة "تجاوزت الحد المسموح به في النقاش، وتصنف كهجوم مسيء على رسول الإسلام، كما تعرض السلام الديني للخطر".

ولعلنا بحاجة إلى الإفادة من أساليب إدارة الاختلاف المصلحي في مجالات متنوعة، كما في التجربة الأوروبية، التي ابتكرت مؤسسات لضمان حقوق الإنسان، كالمحكمة الأوربية لحقوق الإنسان، وعقدت اتفاقيات وبناء مؤسسات لتنظيم سبل التعاطي مع المصالح المشتركة، كاتفاقية الحديد والفحم سنة 1948م، وتطـورت هـذه المـؤسـسـات لتـصبـح السـوق الأوروبي ثم الاتحاد الأوربي.

[ ص: 130 ] أقول: يمكن الإفادة من هذه التجارب الإنسانية بحيث تتفق جميع الدول المتجاورة على وجود مؤسسة جامعة لهم، ويتم التفاهم بما يحقق مصالح الجميع.. ومما ينبغي التفاهم عليه:

أ- عدم جواز المس بالرموز الدينية للأمة المسلمة، كالصحابة الكرام وأمهات المؤمنين، رضي الله عنهم.

ب- اجتناب دعوات الكراهية، وبناء الفكر الأمة الجامع.

ج- التعريف العلمي بالمذاهب الإسلامية جميعها في المؤسسات الأكاديمية، بحيث تؤدي لتقبل التعدد والتنوع الفكري.

وننبه هنا إلى أمر آخر مهم، يمكن الإفادة من التجربة الأوربية في إدارة الصراع على نحو سلمي، من خلال إقرار مبدأ تداول السلطة على نحو سلمي وإقرار مبدأ سلطة الأمة، وحل الخلاف بالحوار المؤسسي، على ما فعلت أوربا بعد الحرب العالمية، وتمكنت من وقف الحروب في القارة الأوربية منذ نهاية الحـرب العـالمـيـة سـنـة 1945م حـتى يـومـنـا هـذا، وهـو أمـر يـسـتـحـق الإشادة والإفادة.

وهنـاك من المفـكرين من يدعو إلى الفصل بين الديني والسياسي؛ أخذا بما انتهت إليه التجربة الأوربية بعد أن عرفت الصراع الديني والمذهبي، وانتهى المـتـصارعون إلى إبعـاد سـلطـة الـكنـيـسة عن التدخـل في سـياسـات الـدول، كما حدث بعد "معاهدة وستفاليا" سنة 1648م، التي أعقبت حرب الثلاثين عاما بين الدول المؤيدة للكنيسة الكاثوليكية والمنشقة عنها.

ولكن هذا المقترح لا يتناسب مع طبيعة الدين الإسلامي، الذي يوجه [ ص: 131 ] السياسة مثلما يوجه الحياة الخاصة، ولهذا فالحل الأمثل تطوير أدوات داخل الفكر الإسلامي تقوم على الفكر الرشيد، الذي ينظر في نتائج الأفعال، ويقرر الحكم الشرعي بناء على المصلحة المتوقعة على أرض الواقع.

إن النظر الرشيد يدعو إلى العودة لمرجعية القرآن والسنة والتي توجهنا لوحدة الأمة: إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون (الأنبياء:92) ، وإلى الوعي أن الصراع مدخل للتدخل الخارجي وانعدام التأثير وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين (الأنفال:46).

ولعلنا نستحضر هنا شواهد من التاريخ الإسلامي غلبت مصالح الأمة كموقف سيدنا الحسن رضي الله عنه حين تنازل عن الخلافة لسيدنا معاوية رضي الله عنه ؛ لجمع كلمة الأمة ولإصلاح ذات البين وحقن دماء المسلمين، وهو الدور العظيم، الذي أومأ إليه النبي محمد صلى الله عليه وسلم : "إن ابني هذا سيد، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين من المسلمين" [93] ، والسيد في اصطلاح الشرع من يقوم بإصلاح حال الناس في دنياهم وأخراهم معا" [94] .

وكل هذا يدعو إلى بناء قيمي لدى أبناء الأمة، يستوعب المخالف، [ ص: 132 ] ويتمكن من التخلص من أعباء الماضي، ويؤسس لمبدأ "سلطة الأمة"، والاحتكام للدستور قاعدة مرجعية، وإدارة الاختلاف بالتداول السلمي، وعدم فتح الباب للخلافات، التي تفتح الباب للتدخلات الخارجية.

- التحديات التي تواجه مكونات المجتمع الحديث، وسبل بناء الجماعة الواحدة : [95]

تتنوع الهويات الدينية والطائفية والمذهبية والقومية والجهوية في الكثير من البلاد العربية، ويتمثل الخطر في تحول هذه الهويات الفرعية إلى هويات طائفية متناحرة، بما يهدد سلامة الدول والمجتمعات، وينذر بتمزق الكيانات، ويسبب حروبا دموية قد يتطلب التئام جراحها سنين طويلة.

والملاحظ أن هذه الحروب تغفل التاريخ الطويل من العيش المشترك، وتـستـحـضر لحـظات محـدودة من التـاريخ لتـبرير حـروب اليـوم. وهي حروب لا تخدم مصالح الأمة وإنما تحرك مصانع السلاح في الدول الصانعة.

والسؤال الذي ينبغي أن نفكر فيه: لماذا ظهرت هذه الانقسامات اليوم بالرغم من التعايش السلمي، الذي ساد هذه المنطقة سنوات وعقودا وقرونا عدة، ولماذا يغفل تاريخ العيش المشترك ويبرز فترات الصراع؟

لعل الإجـابة عن السـؤال بوجـود أربعة أسباب أفضت إلى نشوب [ ص: 133 ] الصراع اليوم:

1- سبب سياسي؛ يقف خلفه سياسيون وقوى سياسية محلية وإقليمية ودولية، لهم مطالب ومصالح ومطامح ومطامع، ووجدوا في التقسيم والتفرقة واستغلال الدين والمذهب والعرق والطائفة والقومية والجهوية وسيلة فاعلة وأسطورة جاذبة للجماهير، يمـكن بها تنفيذ ما يرمون إليه.. والخروج من هذا المأزق يـتـطـلب التوافـق على حـلـول وطنـيـة سـيـاسـيـة، لا يـكون فـيـها غـالـب أو مغلوب. فالصراع الديني والجهوي هنا ما هو إلا عرض لمصالح سياسية، فإذا اتفق على المصالح السياسية للأطراف المختلفة توقفوا عن تغذية الصراع بالهويات الفرعية.

2- سبب تاريخي تقليدي؛ إذ جرى العرف على طبع البلاد بطابع واحد فيه شيء واضح من الحدة: العروبة فقط، أو الإسـلام فقط، أو الكرد فقط، أو الشمال فقط، أو غيره؛ ما أدى إلى التهميش المعنوي أو العملي لـمكونات المجتمع الأخرى. وهذا يتطلب قبول مبدأ التعددية والتنوع بوصفه الوضع الطبيـعي لأي مجتمع، والنظر إلى الإسلام بوصفه دينا ومكون أمة تستوعب غير المسلمين.. وهذا الوعاء الجامع هو الأمة القطب، التي تستقطب في داخـلها الهـويات الـفرعـية دون أن تلغيـها، وتـوجـد مـصـالح مشـتركة يتفق عليها الجميع.

3- سبب سلطة الأنظمة والحكم؛ فقد دأبت أنظمة الحكم في كثير من [ ص: 134 ] الأقطار العربية على إقصاء الـمكونات الأخرى وتهميشها، وحصر السلطة والقوة والمناصب في مكون أو أكثر من دون مراعاة للمكونات الأخرى. ويكمن الحل هنا في التحول إلى الحكم الديمقراطي القائم على مبدأ المواطنة، والمشاركة، والمساواة، وسيادة القانون.

إن إدارة الحكم بأسلوب "فرق تسد"، يصلح لتخذيل الأعداء ومنع تجمعهم، ولكن لا يصلح لإدارة وطن وبناء أمة، بل المنهج الذي ينبغي أن تسير عليه الدولة لبناء الأوطان هو إيجاد ثقافة جامعة تجتذب الهويات الفرعية في إطار مفهوم الأمة، وتلبية مصالح الجميع في إطار القانون، بحيث يحتمي الجميع بالشرع والقانون، فلا يضطرون للاستعانة بطوائفهم لتحقيق مصالحهم على حساب مصالح الأمة ككل، كما قال سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله عنه : "والضعيف فيكم قوي عندي-أي بالشرع والقانون-حتى أزيح علته، إن شـاء الله، والقوي فيكم ضعيـف حتى آخذ منه الحق، إن شاء الله" [96] .

4- سبب تربوي ثقافي ديني؛ إذ لا تتناول مناهج التربية والتعليم ومنتجات الثقافة الجماهيرية وأنشطة الوعظ والإرشاد الديني مكونات المجتمع بصورة إيجابية، ولا سيما ما يتعلق بالأديان والمذاهب والطوائف.

ومن المعـلوم أن التجاهل أو التغافل لا يفضي إلى نتائج إيجابية أبدا؛ لأنه يفسـح المجـال للفـئات المتطرفة والقوى المعادية والفئات المتصارعة أن [ ص: 135 ] تملأ الـفراغـات بالصـور الـمشوهـة، التي تـخـدم أغـراضـهـا. والتـجـاهـل أيضا لا يولد -بالضرورة- المحبـة الـدائـمة والتعـاضد الصلب المنشود في جسم المجتمع كله.

ولـما كان ديدن معظم الأقطار العربية إغفال مكونات المجتمع، فإن الفتى والفتاة يكتشفان - بعـد ما يشبان عن الطوق- وجـود فئة لا يعرفان عنها إلا أقل القليل، فيسهل انقيادهما وجرهما إلى حركة عدائية مناهضة للآخرين، بحجة ذرائع ومسوغات عدة، أو تأثرهما بفتاوى قديمة وردت في كتابات قبل مئات السنين في عصر ما قبل الدولة الحديثة، وعصر ما قبل المواطنة، أو سماعهما من الخطباء والوعاظ بوجوب تكفير هذه الفئة، أو ذلك المذهب أو الكتاب، وغير ذلك الكثير.

وهنا تتحفز الحركات المتطرفة لاستغلال هذا الوضع، والإفادة من الجهل بالآخر في الانقضاض على بعض مكونات المجتمع، موظفة شعور الشباب بالعداء تجاه الفئات التي لا يعرفون عنها إلا ما هو قديم أو مشوه. وهنا يتضح كم العبء الملقى على كاهل مؤسسات الوعظ والإرشاد والتربية والتعليم ووسائل الإعلام لتغيير هذه الصورة.

والجدير بالذكر أن الجماعات المتطرفة، التي تستهدف تمزيق أوصال الأمة وإشعال فتيل الصراعات فيها قد تسيء تفسير بعض المفاهيم التراثية، التي ذكرها فقهاؤنا الأجلاء، وهي قد تكون صحيحة في سياقها التاريخي؛ لذا، يجب التأسيس لفقه جديد يراعي القيم القرآنية العليا في موضوعات مهمة، [ ص: 136 ] مثل: العدل، والتعارف، والرحمة، والإحسان، والإنصاف، وتفعيل هذه القيم في ميدان حقـوق المواطنين؛ إذ يـوجد في المشرق العـربي أكثر من عشـرين فئة، أو طائفة، أو مكونا من مكونات المجتمع، أمثال: المسلم، والمسيحي، والدرزي، والصابئي، والعلوي، والأزيدي، والبهائي، والعربي، والكردي، والشيشاني، والتركماني، وغير ذلك الكثير.

فهذه المـكونات جميعا استوعبتها الثقافة العربية الإسلامية منذ الفتح العمري، وتعاملت معها بوصفها جزءا أصيلا من الأوطان والمجتمعات، وهي بحكم القانون والمواطنة جزء لا يتجزأ من الوطن، وبحكم القانون الدولي وحقوق الإنسان تقف على قدم المساواة في الحقوق والواجبات.

لكن ما الصورة التي يحملها الشباب في أذهانهم عن هذا الموضوع؟ ماذا يقرأون من الكتب؟ ماذا يشاهدون في المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي؟

الحقيقة أن الواقع مناقض لذلك تماما في معظم الأقطار العربية. فالصور مشوهة، والأفكار منغلقة لا تدرك التغيرات في الواقع الذي يسود بين أوساط الشـباب.. وهذا كله في إطار من الإحباط، والبطالة، والتدخلات الخارجية؛ ما ينتج بيئة خصبة حاضنة للتطرف.

والسؤال الأهم: هل يمتلك أستاذ التربية والتعليم والأستاذ الجامعي المهارة والقدرة اللازمة لمناقشة الطلبة في هذه الأفكار، وإقناعهم بالفكر الهادي إلى [ ص: 137 ] سواء السبيل؟

مما تقدم يتبين أن حل هذه المشكلات يتمثل في إعادة النظر في فلسفة التربية والتعليم وأطرها في المدارس، وتزويد الجامعات بكفاءات علمية تنتمي إلى الأمة، وتتحلى بالفكر المستنير والفهم لروح العصر، والقدرة على الحوار والإقناع، فلا سبيل إلى فك الارتباط بين التطرف والتكفير والخروج على القانون من جهة، والانقسامات الفئوية والدينية والجهوية والقومية من جهة أخرى، إلا بتصحيح الصور الذهنية المـشوهة المستقاة من الماضي، ولا سيما تلك التي تستحوذ على عقول الشباب، في وقت مبكر.

ومن هنا، فإن الأقطار العربية جميعها بحاجة إلى تدريس سلسلة من المواد الدراسية في المدارس والمعاهد والجامعات، تحمل عنوان: "مكونات المجتمع الوطني"، وتواكبها منتجات الثقافة والإعلام والوعظ والخطابة، إلى جانب سبر نصوص التاريخ لكيلا تكون عبئا علينا في مواجهة تحديات المستقبل، منطلقين من الرؤية القرآنية في التـعامل مع التـاريخ وأحداثه، نعتبر به، ولا نسأل عنه ولا نتحمل مسؤوليته، فلا نحمل الأجيال اللاحقة مسؤولية ما سبق تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون (البقرة:141).

وهذا العلاج لم يتطرق له الجويني في كتابه على النحو الذي ذكرت هنا، وإنما تكلم عن مشكلة واقعية وقدم حلا أمنيا وعسكريا، نقرؤه في سياقه التاريخي، ونأخذ منه العبرة لمواجهة مشكلة أمنية.. ويبقى أن نفكر: كيف [ ص: 138 ] يمكن للدولة بناء هوية جامعة تجمع المختلفين عقديا على قاسم مشترك من احترام القانون والحفاظ على الوطن؟

ولنا أن نستفيد من تراثنا الإسلامي، ونستفيد من نماذج من التاريخ الإسلامي تحقق فيها الوحدة في إطار التنوع والقبول بالآخر، حيث كانت دولة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة مستوعبة للتعدد الديني، وشهد التاريخ نماذج مشرقة من العيش المشترك مع غير المسلمين.

كما نستفيد من تجارب شعوب العالم، الذين مروا بتجارب كتجاربنا، كما حدث في أوروبا، فعندهم مذهبان رئيسان (الكاثوليك والبروتستانت) فالكاثوليك هم الذين تمثلهم الكنيسة والبابا، أما البروتستانت هم الذين تمردوا على البابا وعارضوه، وحصلت معارك بين المذهبين استمرت ثلاثين سنة، في القرن السابع عشر الميلادي، ثم انتهوا إلى "معاهدة وستفاليا"، التي أبعدت سلطة الكنيسة عن المجال السياسي، وتأسست دول لا تتدخل الكنيسة فيها، بل غدا القرار السياسي مبنيا على المصلحة، التي يقررها الناخبون ومصالح أصحاب المصالح من شركات وليس الدين، هذا قريب من مفهوم العلمانية. وهذا الحل ليس مقبولا بحسب المعايير الإسلامية، فنحن لا ندعو إلى إلغاء الدين، بل إن الجويني بين أن من وظائف الدولة إدارة الدين، بل نريد ألا يكون الدين سببا للصراع.

فهل يمكن أن نصل إلى حلول بحيث نستوعب الاختلاف الديني واحترام الاختلاف، كما نستوعب غير المسلم أصلا؟ لكن الجانب السياسي يجب أن يكون الولاء للدولة لا إلى دولة أخرى.

هذه القضية تحتاج إلى تفكير.. والعقل يعمل مع التفاعل مع النص.

[ ص: 139 ] ب: 4 تفصيل القول في وظيفة الدولة في سن التشريعات، وقيودها عند الجويني:

سن التشريعات مرتبط بوظائف الدولة، كخدمة التنظيم والإدارة، وبخدمة الأمن.. وعليه، فإذا وجدت أسباب موجبة فللدولة بما لها من ولاية أن تقوم بسن التشريعات المنظمة لسبل نيل الحقوق والانتفاع بالمباحات، وإذا احتاج أمن الدولة وحفظ حقوق الأفراد إلى سن تشريعات رادعة وعقوبات مغلظة فللدولة أن تقوم بسن التشريع المناسب.

وتقيد الدولة في النظم الحديثة بمراعاة قواعد معينة تعد معيارا للشرعية والتدبير، الذي اتخذته الدولة.. من هذه المعايير عدم تصادم القوانين مع الدساتير واحترام حقوق الإنسان.

ويحق للدولة المسلمة أن تسن تشريعات منظمة للحقوق ورادعة للمجرمين.. ويدخل هذا ضمن باب السياسة الشرعية، وهي مقيدة بمراعاة المصلحة وعدم التصادم مع نص شرعي مصادمة حقيقية.

ويعد سن التشريعات الرادعة من أبرز وظائف السياسة الشرعية.. وحصر بعض الفقهاء، كالطرابلسي، مفهوم السياسة الشرعية بتشديد العقوبات والإجراءات لوجه مصلحي وقال: السياسة: شرع مغلظ "تخرج الحق من الظالم، وتدفع كثيرا من المظالم، وتردع أهل الفساد، ويتوصل بها إلى المقاصد الشرعية للعباد، وهي باب واسع تضل فيه الأفهام، وتزل فيه الأقدام، وإهماله يضيع الحقوق ويعطل الحدود ويجزئ أهل الفساد ويعين أهل العناد، والتوسع [ ص: 140 ] فيه يفتح أبواب المظالم الشنيعة ويوجب سفك الدماء وأخذ الأموال غير الشرعية" [97] ، ومن ذلك تغليظ العقوبات على معتادي الجرائم أو تضمين الصناع لوجه مصلحي.

وتعود هذه الفتيا بتضمين الصناع والأجير المشترك إلى زمن سيدنا الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه إذ لحظ الفقيه السياسي الناظر في مصالح الأفراد واقعا، أن من يعملون بأموال الناس كالأجير العام يعطيه الناس أموالهم كالقماش مثلا، ليصنع ثيابهم فلا يبذل عنايته في صناعة ثيابهم، وبما يتلف لهم أموالهم بسبب قلة العناية، ولا يملك الأفراد أن يطالبوه بالضمان إلا إذا أثبتوا تقصيره وهذا هو الأصل؛ لأن يده يد أمان، وبه قال أبو حنيفة وزفر.

ولما لحظ الفقيه كثرة التقصير عدل من الحكم الفقهي الأصلي وجعل يد الأجير العام يد ضمان لا يد أمانة بحيث لا يطالب الأفراد بإثبات التقصير لمطالبته بالضمان والتعويض بل يطالب العامل بإثبات عدم التقصير ليرفع عن نفسه المسؤولية والمطالبة بالتعويض، وبهذا قال أبو يوسف ومحمد من الحنفية وهو نوع من الاستحسان.

ويعد هذا الحكم شاهدا لولاية الدولة بتعديل التشريعات الأصلية وسن التشريعات الرادعة إما بالتضمين أو بوضع عقوبة إذا وجدت أسباب موجبة.. وقد حاول الفقهاء ضبط موجبات تدخل الدولة السياسي، فضيق بعضهم، وتوسع بعض الفقهاء في هذا الباب.

[ ص: 141 ] وخلاصة مجالات السياسة الشرعية عند الفقهاء تدور في المجالات التالية:

أ- سن التشريعات المصلحية فيما لا نص فيه؛ وينبغي أن يكون هذا النوع منسجما مع المصلحة؛ لأن التصرف على الرعية منوط بالمصلحة، وفي هذا يقول الجويني: "ولكني لا أبتدع، ولا أخترع شيئا، بل ألاحظ وضع الشرع وأستثير معنى يناسب ما أراه وأتحراه" [98] .

"وهكذا سبيل التصرف في الوقائع المستجدة، التي لا توجد فيها أجوبة العلماء معدة".

ومعنى قوله: "ألاحظ وضع الشرع": الالتفات لسنن المشرع في تشريعه للأحكام على نحو يحقق المقاصد الكلية ومراعاة نتائج التطبيق.

وعليه، فإن الدولة إذا وجدت أسبابا موجبة لسن تشريعات حديثة، كالضمان الاجتماعي، والتأمينات واجتذاب الاستثمارات، مما لا نص عليه عند الفقهاء تستند إلى الكليات المصلحية لسن التشريعات المناسبة شرط مراعاة أن لا تتعارض المصالح مع نص خاص؛ لأنها عندها تكون مصالح مـوهـومـة، كالاستـثـمار في القـمـار، وهـي الـتي قررها الـفقهاء باستقراء أحكام المشرع.

ب- تغليظ العقوبة التعزيرية؛ فالأصل أن لا تزيد العقوبة التعزيزية عن [ ص: 142 ] الحدود الشرعية، ولكن جوز بعض الفقهاء رفع العقوبة التعزيرية سياسة؛ لتحقيق وظيفة الأمن، فيمكن أن تكون العقوبة التعزيرية مشددة بحيث تفوق العقوبة الحدية عند بعض الفقهاء.

ج- الحكم بالقرائن والأدلة الجنائية العلمية الحديثة، التي تكشف عن الجريمة، بفحص البصمات أو الأنسجة أو بقايا الدم، التي تظهرها الفحوصات الكيماوية، ولو تعرضت للمسح في القضايا الجنائية إذا لم تتوفر الشهادة والإقرار.

د- استعمال المحقق أساليب من الدهاء لكشف الحقيقة.

هـ: العقوبة بالتهمة سياسة، وذلك على معتادي الجرائم.

وقد اهتم ابن القيم في كتابه "الطرق الحكمية" بإبراز مشروعية الأخذ بالقرائن في إثبات الجرائم، سيما القرائن العلمية، التي قد تفوق في دلالتها البينات المنصوص عليها شرعا، فأقام الأدلة على حجية الاحتجاج بالقرائن، وعدها من أسباب تحقيق العدالة وقال:

"فإذا ظهرت أمارات العدل، وأسفر وجهه بأي طريق كان، فثم شرع الله ودينه، والله سبحانه أعلم وأحكم وأعدل أن يخص طرق العدل وأماراته وأعلامه بشيء، ثم ينفي ما هو أظهر منها وأقوى دلالة وأبين أمارة، فلا يجعله منها، ولا يحكم عند وجودها وقيامها بموجبها، بل قد بين سبحانه بما شرعه من الطرق، أن مقصوده إقامة العدل بين عباده، وقيام الناس بالقسط، فأي طريق استخرج بها العدل والقسط فهي من الدين، وليست مخالفة له.

فلا يقال: إن السياسة العادلة مخالفة لما نطق به الشـرع، بل هي موافقة [ ص: 143 ] لما جاء به، بل هي جزء من أجزائه، ونحن نسميها سياسة تبعا لمصطلحهم" [99] .

وفيما يتعلق بإيقاع العقوبة على المتهم سياسة، أي الأخذ بالتهمة قبل ثبوت الأدلة الكافية، فهذا أمر أجازه بعض الفقهاء كالماوردي، وقيدوا ذلك بقيود، منها أن العمل بالسياسة هنا من صلاحية الوالي وليس من صلاحية القاضي.

فالقاضي مقيد بأصول المحاكمات، وليس له تجاوزها.

أما الوالي فله أن يعاقب بالتهمة، كإجراء إداري وليس كإجراء قضائي، وإن لم تتـوفر الشهـادة، ولكن هـذا مقيـد بأن يكون المتهم معتادا للجرائم، أي صـاحب أسبقيات وله سجل جرمي، أما من لا سابقة له وأفاضل الناس فلا يؤخذون بالتهمة، ويستند الوالي إلى قرائن الأحوال، وإلى شهادة أعوان القضاة بأنه معروف بما اتهم به أم لا [100] .

وما ذكره الماوردي يؤصل لأمر من اختصاص النيابة العامة؛ حيث قد يعرض على القاضي قضية غير مستكملة للأدلة ولكن فيها من قرائن الأحوال ما يوجـب التهمـة فيحيلـها للنيابة العامة لتقوم بالتحقيق واستكمال البينات ثم عرضها على القاضي.

ذلك أن معتادي الجرائـم لهـم من الخـبرة والقـدرة على التخطيط الجرمي ما يجعل الجريمة غير مستكملة للبينات اللازمة أمام القضاء، ولكن قرائن [ ص: 144 ] الأحوال تثير تهمة قوية، فلا يسوغ أن تمكنهم الدولة من تهديد الأمن والنجاة من العقوبة. ولهذا ابتكر الماوردي هذا التدبير السياسي لمعتادي الجرائم وفي هذا يقول: "الجرائم محظورات شرعية زجر الله تعالى عنها بحد أو تعزيز، ولها عند التهمة حال استبراء تقتضيه السياسة الدينية، ولها عند ثبوتها وصحتها حال استيفاء توجبه الأحكام الشرعية.

فأما حالها بعد التهمة وقبل ثبوتها وصحتها فمعتبر بحال النظر فيها، فإن كان حاكما - أي قاضيا- رفع إليه رجل قد اتهم بسرقة أو زنا، لم يكن لتهمة بها تأثير عنده؛ ولم يجز أن يحبسه لكشف ولا استبراء، ولا أن يأخذه بأسباب الإقرار إجبارا، ولم يسمع الدعوى عليه في السرقة.

وإن اتهم بالزنا لم يسمع الدعوى عليه إلا بعد أن يذكر المرأة التي زنا بها، ويصف ما فعله بها مما يكون زنا موجبا للحد، فإن أقر حده بموجب إقراره، وإن أنكر وكانت بينة سمعها عليه، وإن لم تكن أحلفه في حقوق الآدميين دون حقوق الله تعالى إذا طلب الخصم اليمين.

وإن كان الناظر، الذي رفع إليه هذا المتهوم أميرا، كان له مع هذا المتهوم من أسباب الكشف والاستبراء ما ليس للقضاة والحكام، وذلك من تسعة أوجه يختلف بها حكم الناظرين" [101] .

وذكر منـها أنـه إذا وجهت تـهمـة بالزنا مثـلا لرجـل من أهـل الفضـل ولا يوجد بينات، فعل الأمير أو النائب العام، في أيامنا، إنهاء القضية على [ ص: 145 ] عجل والحكم بالبراءة، أما إذا كان المتهم مطيعا للنساء ذا فكاهة وخلابة قويت التهمة، وإن كان بضده ضعفت، وإن كانت التهمة بسرقة، وكان المتهوم بها ذا عيارة [102] -أي معروف بالنهب والسلب والدعارة- أو في بدنه آثار ضرب، أو كان معه حين أخذ منقب قويت التهمة، وإن كان بضده ضعفت وليس هذا للقضاة أيضا.

فالنائب العام، في أيامنا، يحقق في التهمة، ويقوي التهمة أو يضعفها التاريخ الجرمي للمتهم والعلامات البدنية على جسده، وشهادة الشهود على سلوكه المعتاد: هل هو من أصحاب السوابق؟ وله أن يقوم بحبس تحفظي للكشف والاستبراء، واختلف في مدة حبسه، لذلك فقد قيده بعضهم بشهر لا يتجاوزه، وقال آخرون: هو غير مقيد.

وقد منع الجويني العقوبة بالتهمة دون بينات، وحصر العقوبة بثبوت الأدلة، واعتاض عن الأخذ بالتهمة بأن ينص التشريع على تجريم ما يستدعي التجريم، فيعاقب المجرم لمخالفته نصا تشريعيا واضحا وليس أخذا بالتهمة، وهذا نظر سياسي يجمع بين مصلحة الدولة وحماية حقوق الإنسان.

فوظيفة الدولة في تقديم خدمة الأمن بحماية المجتمع والأفراد من الجريمة تستدعي تجريم بعض الأفعال كانت في الأصل مباحة، مثل امتلاك سلاح ناري أتوماتيكي في البيت مثلا، فإذا نص القانون على التجريم ووجد السلاح عند شخص معتاد الجرائم فيعاقب استنادا للنص القانوني وليس أخذا بالتهمة.

[ ص: 146 ] والجويني هنا يوازن بين حقوق الإنسان وبين مصلحة الأمن، فمن حق الإنسان ألا يحبس ويعاقب بلا جرم منصوص عليه في القانون، ومن واجب الدولة أن تحفظ الأمن، وليس سبيل ذلك أن تخرق الدولة أصول المحاكمات العادلة بأن لا جريمة ولا عقوبة إلا بنص، بل تسن من التشريعات ما يحقق المصلحة، وفي هذا يقول الجويني:

"وما يتعلق بما نحن فيه أن المتعلقين بضبط الأحوال على حكم الاستصواب في كل باب، يرون ردع أصحاب التهم قبل إلمامهم بالهنات، والسيئات، والشرع لا يرخص في ذلك.

"والذي انتزعت من الشرع ما يقرب سبل تحصيل الغرض في هذا: فمن آداب الدين أن لا يقف الإنسان في مواقف التهم، فالوجه أن ينهى الإمام من يتصدى لها عن ذلك على جزم وبت، فإن عاد عاقبه على مخالفته أمر سلطانه، واستجرائه على والي زمانه، فيكون هذا تطرقا إلى الردع على موجب الشرع" [103] .

كما رفض الجويني الزيادة في التعزير سياسة فقال:

"ثم التعزيرات لا تبلغ الحدود على ما فصله الفقهاء



[104] . وما يتعين [ ص: 147 ] الاعتناء به الآن، وهو مقصود الفصل أن أبناء الزمان ذهبوا إلى أن مناصب السلطنة والولاية لا تستد إلا على رأي مالك [105] رضي الله عنه وكان يرى الازدياد على مبالغ الحدود في التعزيرات، ويسوغ للوالي أن يقتل في التعزير [106] . ونقل النقلة عنه أنه قال: للإمام أن يقتل ثلث الأمة في استصلاح ثلثيها [107] .

"وذهب بعض الجهلة عن غرة وغباوة أن ما جرى في صدر الإسـلام من التخفيفات، كان سببها أنهم كانوا على قرب عهد بصفوة الإسـلام، [ ص: 148 ] وكان يكفي في ردعهم التنبيه اليسير والمقدار القريب من التعزير، وأما الآن، فقد قسـت القلوب، وبعدت العهود، ووهنت العقـود، وصـار متشبث عـامة الخلق الرغبات والرهبات، فلو وقع الاقتصار على ما كان من العقوبات، لما استمرت السياسات [108] .

"وهذا الفن قد يستهين به الأغبياء، وهو على الحقيقة تسبب إلى مضادة ما ابتعث به سيد الأنبياء.

"وعلى الجملة، من ظن أن الشريعة تتلقى من استصلاح العقلاء، ومقتضى رأي الحكماء، فقد رد الشريعة، واتخذ كلامه هذا إلى رد الشرائع ذريعة.

"ولو جاز ذلك، لساغ رجم من ليس محصنا إذا زنا في زمننا هذا، لما خيله هذا القائل [109] .

"وهذه الفنون في رجم الظنون، لو تسلطت على قواعد الدين، لاتخذ كل من يرجع إلى مسكة من عقل فكره شرعا، ولانتحاه ردعا ومنعا، فتنتهض [ ص: 149 ] هواجس النفوس حالة محل الوحي إلى الرسل. ثم يختلف ذلك باختلاف الأزمنة والأمكنة; فلا يبقى للشرع مستقر وثبات.

"هيهات هيهات. ثقل الاتباع على بعض بني الدهر، فرام أن يجعل عقله المعقول عن مدارك الرشاد، في دين الله أساسا، ولاستصوابه راسا، حتى ينفض مذرويه، ويلتفت في عطفيه اختيالا وشماسا.

"فإذا لا مزيد على ما ذكرناه في مبالغ التعزير".

ثم يقرر بعد مناقشة مطولة: "لست أرى للسلطان اتساعا في التعزير إلا في إطالة الحبس [110] ، وهو صعب الموقع جدا، وليس الحبس ثابتا في حد، حتى يحط التعزير عنه، ويسوغ للقاضي أن يحبس في درهم أمدا بعيدا إلى اتفاق القضاء أو الإبراء".

ب: 5 وظيفة الدولة في ضبط المكاييل والموازين:

نبه الجويني إلى اختصاص السلطة العامة في الدولة بضبط المكاييل والموازين، حيث يقول:

"يتعلق بالوالي أن يكلف المتهم بالتطفيف عرض ميزانه ومكياله، ولا يثبت ذلك لمن ليس مأمورا من جهة السلطان" [111] .. ولم يتوسع الجويني في هذه الوظيفة لخروجها عن موضوعه، الذي خصص له الباب وهو السياسات، [ ص: 150 ] التي تختص بالسلطان وضوابطها.

ويتخرج على هذه الوظيفة حصر إصدار النقود بالسلطان وعدم السماح لغـير مؤسـسات الـدولـة بإصـدار النـقود، بـحيث لا يؤدي ذلك إلى تضخم أو انكماش أو تلاعب بالأسعار، وهذا من ضبط الأسواق وأدوات تقييم السلع، فكما يضبط السلطان الميزان الذي يضبط أوزان السلع فإنه يضبط النقود التي تقييم بها أثمان السلع ونص الفقهاء على أنه ينبغي إلا يغفل النظر إن ظهر في سوقهم دراهم مبهرجة ومخالطة بالنحاس بأن يشتد فيها ويبحث عمن أحدثها فإذا ظفر به أناله من شدة العقوبة... وبأمر أوثق من يجد بتعاهد ذلك من السوق حتى تطيب دراهمهم ودنانيرهم ويحرزوا نقودهم فإن هذا أفضل ما يحوط رعيته فيه ويعمهم نفعه في دينهم ودنياهم" [112] .

[ ص: 151 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية