الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
3- تطور وظائف الدولة في الفكر السياسي الغربي (القديم والحديث):

بحث عدد من المفكرين والفلاسفة في وظيفة الدولة، وفي النموذج الأمثل للدولة، ونعرض لموجز أفكارهم نحو وظيفة الدولة:

- وظائف الدولة عند "أفلاطون":

يعد كتاب "الجمهورية" لأفلاطون (427-347 ق.م) من أوائل كتب الفكر السياسي، التي عرفها التراث الفلسفي الغربي، وقصة الكتاب مرتبطة [ ص: 77 ] بشعور أفلاطون بعيوب النظام الديمقراطي، الذي حكم على فيلسوف كبير كسقراط بالموت، وبدأ بتوظيف الفلسفة للبحث عن شكل الحكم العادل.

لقد طرح "أفلاطون" في كتابه "الجمهورية" أسئلة مهمة ومبدعة، وانتهى ببحث منهجي، قائم على البرهان العقلي، إلى تفضيل النظام الأرستقراطي العلمي، أي حكم الفلاسفة والعقلاء على النظام الديمقراطي، وقصد "أفلاطون" توظيف الفلسفة لإصلاح السياسة، وكان يثير أسئلة مع تلاميذه، مثل: ما هي العدالة؟ وانتقد النظام الديمقراطي، وبين أن المنهج القائم على أغلبية الأصوات لا يضمن عدالة القرار، وانتهى إلى أن العدالة ثمرة للفضائل الثلاث: الحكمة والشجاعة والعفة، وسبيلها أن يحكم المجتمع الفلاسفة العقلاء، الذين يمتازون بالعقل الراشد ويقومون بتوجيه الأفراد إلى العمل بحسب مواهبهم الطبيعية [1] .

وعلى الرغم من أهمية النقد، الذي قدمه "أفلاطون" للنظام الديمقراطي إلا أنه أخفق في تقديم الحلول المناسبة، وكان أفلاطون يتعامل مع الفرد بوصفه كائنا اجتماعيا يعيش في نظام.

ويـرى "أفلاطون" أن الدولة قامت من تفاعل أمرين هما: تعدد الحاجات وعدم قدرة الفرد على تحقيق الكفاية؛ والحاجة لوجود جهة عليا تقود الجماعة وتوزع المهام على الأفراد.

[ ص: 78 ] ولما كان كل إنسان محتاج إلى غيره، لسد حاجاته الكثيرة والمتنوعة، لزم أن يتجمع عدد من الناس في مكان واحد يطلق عليه اسم "المجتمع" أو "المدينة" أو "الدولة" [2] .

ودعا "أفلاطون" إلى أن يحكم المجتمع ذوي قدرات ومؤهلات علمية بارزة، إلا أن هـذه الـدعـوة بقيت أمنية وخيالا ولم تتحقق في العالم الخارجي إلا بحالات نادرة، حيث لم يقم بعد أي نظام يختار الحكام على أساس مكانتهم وتضلعهم بالعلم [3] .

والسلطة عند "أفلاطون" مرتبطة بشخصية الحاكم، يمارسها العالم الفيلسوف، نالها باستحقاق علمي، وهي سلطة مطلقة يستخدمها الحاكم وفقا للحكمة، التي لا تخطئ، دون أن يتقيد بدستور أو قانون، بل يمارسها بقرارات فردية يراعي فيها ظروف كل حالة على حدة، ولذا فالحاكم ليس ملزما بوضع قواعد عامة سلفا ليطبقها على الحالات الفردية، بل ينظر في كل حالة بما يناسبها، والخاص عنده مقدم على العام [4] .

وانطلق في تقسيمه للوظائف من طبائع النفس الإنسانية [5] ، فجعل [ ص: 79 ] الناس ثلاث فئات: حرفيين وهم الذين وهبوا النزعة الشهوانية، وجنود وهم الذين وهبوا النزعة الغضبية، وحكام وهم الذين وهبوا النزعة العقلية. فكما أن وظيفة النفس العاقلة توجيه عمل النفس الشهوانية والنفس الغضبية فإن مهمة الحكام الممثلين للنفس العاقلة توجيه الجنود الممثلين للنفس الغضبية والحرفيين الممثلين للنفس الشهوانية [6] .

ولكل نفس فضيلتها، فالحكمة فضيلة العقل، والشجاعة فضيلة الغضب، والعفة فضيلة الشهوة، وإذا تحققت الفضائل الثلاث حصل من مجموعها فضيلة رابعة هي العدالة، وهي التوازن الصحيح على مستوى الفرد.

أما على مستوى الجماعة، فالتوازن الصحيح يكون بتوزيع المهام بحسب الطبيـعة، ليقوم كل فرد بوظـيفته بحسـب ما وهب من المواهب، فالعـدالة أنما تكون بأن يتم توجيه كل فرد لما يتقنه بالطبع، فوظيفة الدولة أن تكتشف أحسن الكفايات البشرية، وتنميها بأحسن وسائل التعليم، لتقوم كل طبقة بوظيفتها بما يشبع الحاجات

[7] .

[ ص: 80 ] كما رأى ألا أمل في قيام الدولة الفاضلة ما لم توضع السلطة في أيدي من يعلمون، أي من يعلمون الأعمال، التي تتطلبها الدولة الصالحة، وعلى هذا فقد انقسمت نظريته إلى قسمين رئيسين:

- يتمثل الأول في أن الحكومة ينبغي أن تكون فنا يعتمد على المعرفة الصحيحة.

- ويتمثل الثاني في أن أي مجتمع عبارة عن تبادل إشباع الحاجات بين أفراد يكملون بعضهم، كل من ناحية مواهبه.

وتكلم عن أدوات الدولة في إعداد الأفراد عن طريق التربية، حيث يتم تعليم الأطفال بعد الولادة في المحاضن والمدارس.. ونهتم بتربيتهم لنبقي على الأصحاء ونقضي على من بهم علل وعاهات، ويدرس الأصحاء القراءة والكتابة ومزاولة الرياضة والموسيقى ثم يخضعون لامتحان في سن الثانية عشرة، ويذهب من لم ينجح لطبقة العمال، وأما الآخرون فيكملون تعليمهم ويعطون المزيد من المسائل الرياضية، ويضاف لهم الشعر الحماسي، الذي يدعو إلى حب الوطن، ثم يخضعون لامتحان في سن الثانية والعشرين، ومن لا ينجح يذهب للحياة العسكرية، والناجحـون يكملون تعليمـهم ليـتهيـؤوا ليـكونوا قادة وحكاما [8] .

[ ص: 81 ] هذا، وقد استطاع المفكر المسلم أن يعيد صياغة فكر أفلاطون على نحو ينسجم مع الرؤية الإسلامية، فبالنظر إلى كتابات عدد من المفكرين نجد تأثرا بفكرة أن الدولة بمثابة العقل للاجتماع الإنساني، لكن الفكر الإسلامي جعل هذا التعقل يأتي من التزام الحاكم بأمور منها مشاورة الحاكم للفقهاء، والعدل هو ثمرة تغلب الحاكم للعقل على الشهوة، وفي هذا يقول الغزالي:

ولا يتم له ذلك إلا بحفظ العدل أولا من باطنه؛ وذلك أن لا يسلط شهوته وغضبه على عقله ودينه، ولا يجعل عقله ودينه أسرى شهوته وغضبه بل يجعل شهوته وغضبه أسرى عقله ودينه [9] .

كما أن علماء الفكر السياسي الإسلامي أقروا بالمواهب، التي فطر عليها الإنسان، لكنهم لم يعطوا للدولة وظيفة التدخل بالإلزام في حريات الأفراد باختيار المهن المناسـبة لهم، بل رأوا أن هذا متروك لكل إنسـان بما يناسبه، وإنما دور الدولة تهيئة الأجواء للمتعلم ليختار ما يناسب طبعه بحرية، مع تعليمه المبادئ العامة لما فطر عليه، فإن أبدى رغبة بالاستزادة ترقى في طلب العلم [10] .. وفي هذا يقول الشاطبي:

"فإذا فرض -مثلا- واحد من الصبيان ظهر عليه حسن إدراك، وجودة فهم، ووفور حفظ لما يسمع -وإن كان مشاركا في غير ذلك من الأوصاف- [ ص: 82 ] ميل به نحو ذلك القصد، وهذا واجب على الناظر فيه من حيث الجملة مراعاة لما يرجى فيه من القيام بمصلحة التعليم فطلب بالتعلم وأدب بالآداب المشتركة بجميع العلوم، ولا بد أن يمال منها إلى بعض فيؤخذ به، ويعان عليه، ولكن على الترتيب الذي نص عليه ربـانيو العـلماء، فإذا دخل في ذلك البعض فمال به طبـعه إليه على الخصـوص، وأحبـه أكثر من غيره؛ ترك وما أحب، وخص بأهله؛ فوجب عليه إنهاضه فيه حتى يأخذ منه ما قدر له، من غير إهمال له ولا تـرك لمراعاته، ثم إن وقف هنالك فحسن، وإن طلب الأخـذ في غيره أو طلب به؛ فعل معه فيه ما فعل فيما قبـله، وهكذا إلى أن ينتهي".

وصوب الفكر الإسلامي النظرة المختلة، التي تصيب بعض الأقوياء والتي عبر عنها أفلاطون باعتبار الضعفاء عبئا على المجتمع ينبغي التخلص منهم، فقرر الفكر الإسلامي أن نصر الله يستجلب ببركة رعاية الضعفاء، وقد جاء في صحيح البخاري عن مصعب بن سعد قال رأى سعد رضي الله عنه أن له فضلا على من دونه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "هل تنصرون وترزقون إلا بضعفائكم" [11] .

- وظيفة الدولة عند "أرسطو":

"أرسطو" تلميذ "أفلاطون"، وتأثر بأفكاره، ولكنه خالفه في نظرته لتفسير مسوغ وجود الدولة وفي المنهج المعرفي للفهم ظاهرة الدولة، حيث [ ص: 83 ] اعتمد منهجا يقوم على الاستقراء للواقع في مقابل منهج أفلاطون القائم على الاستنباط والبرهان العقلي.. وبناء على منهجه اعتبر أن تجمع الناس قائم على أساس أسري، حيث يولد الفرد في أسرة، وسعي الأسر للتجمع ليس من أجل تلبية حاجاتهم فقط، بل لأجل سعادتهم؛ لأن بعض الحيوانات تتجمع على نحو غريزي، ولكن لا يوصف التجمع الحيواني بالدولة، وإنما يكون التجمع دولة إذا سعى لتحقيق السعادة للجميع [12] .

وبين "أرسطو" أن سلطة الحاكم لا تطابق سلطة الأب تماما على أولاده، فسلطة الأب دائمة لمدى الحياة ومطلقة لا تعرف قيودا عليها، كما أنها تقوم على عدم المساواة بين رب الأسرة وأفرادها، بينما تقوم الدولة على أساس المساواة الطبيعية بين الأفراد الذين يدخلون فيها، وسلطة الحاكم مقيدة بصالح المجموع وليس الصالح الشخصي، وهي سلطة غير دائمة بل تنتقل من شخص إلى شخص. وعندما كتب أرسطو بعلم السياسة أطلق عليه "علم السعادة"، واعتبر أن الجماعة السياسية موضوعها ليس المعيشة المادية لأفرادها وحسب، بل سعادتهم وفضيلتهم [13] .

والـدولـة كائن، حـي يـنـمـو بـنـمـو الأسـرة، ثـم تـتـطـور بشـكل تلـقـائي [ ص: 84 ] إلى تجمـعـات أكبر كالعشـيرة والقـبـيـلـة، ومن اجـتـماع عـدة قرى تـتـكون المـدينـة أو الدولة، وهي أكمل الوحدات الاجتماعية وأتمها وأوضحها، تكفي نفسها بنفسها، كما تكفي أفرادها، وتضمن للأفراد وسائل العيش، كما تضمن لهم الحياة الفاضلة والسعيدة لتكتسب بذلك صفة الدوام والاستقرار.

وهي لا تقوم على عقد بين مواطنين، وإنما تطور تلقائي "من فعل الطبع"، والطبع يحدد وظيفة الناس، فهناك أقوام وجدوا بالطبع ليطيعوا، وأقوام وجدوا بالطبع ليأمروا.

فقد وجد الناس ليعيشوا في دولة، كما وجدت الدولة لتحقق الخير لهم، وهذا مستند إلى طبيعة الإنسان السياسية، فالدولة أحد مظاهر الترقي السياسي الإنساني

[14] ، وإن وظيفة الدولة ليست تحقيق الحاجات فقط بل تحقيق السعادة وغرس الفضيلة في نفوس الأفراد، وتلزم طاعة الدولة إذا كفلت لمواطنيها حياة فاضلة.

ومعيار صلاح الدولة ليس التزامها بقانون فقط، ولا أن يكون الحكم فرديا أو جماعيا، بل تحري المصلحة العامة، وأن الدولة لا توجد لمجرد حاجات اقتصادية؛ ولكن توجد لتحقيق الكمال المعنوي للفرد، ولكي يحيا الإنسان [ ص: 85 ] حياة أفضل في ظل الدولة، ويحقق السعادة المنشودة.

وقرر للدولة ثلاث وظائف رئيسة: وظيفة سن القوانين المنظمة للجماعة، ووظيفة تنفيذ القوانين، ووظيفة إيقاع العقوبات.

ولكنه بالغ في ولاية الدولة التنظيمية فأعطى للدولة صلاحية واسعة في تنظيم الأسرة وفي نزع الملكية وتنظيم استغلالها، وكان يحدد سن الزواج للفتاة بثماني عشرة سنة وللرجل بسبعة وثلاثين سنة ويعطي للدولة سلطة تحديد عدد الأولاد منعا لتزايد عدد السكان وخشية عدم توفر المواد الغذائية [15] .

وحين اطلع فلاسفة الإسلام على فكر أرسطو أعادوا صياغته بما ينسجم مع الرؤية الإسلامية فلم يقروا للدولة صلاحية تحديد عدد الأولاد، ووضعوا الضوابط الشرعية لتنظيم صلاحية الدولة في نزع الملكية، والتوظيف على الأغنياء، ومراعاة عصمة المال المقررة شرعا.

كما جعلوا وظيفة الدولة تحقيق السعادة في الدنيا والآخرة، حيث رأى "الفارابي" أن المجتمع السـياسي قام أساسا بحثا عن السـعادة القصوى في الآخرة، وأن دور الحاكم الفاضل هو أن يرشد الأفراد ويوجههم إلى معرفة السعادة الحقيقية وسبل الوصول إليها. وأكد على احتياج الفرد إلى الجماعة لتدبير قوامه؛ يقوم كل واحد منهم بشيء مما يحتاج إليه "فلا يمكن للإنسـان أن ينال كماله وسعادته إلا بالاجتماع بجماعة يسودها التعاون والتآزر"، ولكي [ ص: 86 ] تكون هذه الجماعة فاضلة -في رأي الفارابي-لا بد أن يقودها حاكم فاضل يجمع بين فضيلتي الحكمة والشريعة [16] .

- وظيفة الدولة عند أصحاب نظرية "العقد الاجتماعي" ("هوبز"، و"لوك"، و"جان جاك روسو" و"اسبينوزا"):

فكرة "العقد الاجتماعي" تقوم على عقد مفترض، تصوره فلاسفة عصر النهضة في أوروبا لتفسير نشأة الدولة على أساس تعاقدي، يتجاوز النظريات الثيوقراطية الموهومة.

ورغم اتفاق فلاسفة العقد الاجتماعي على فكرة العقد المفترض إلا أن أطراف العقد ومقتضاه وأثره في تقرير حقوق على الحاكم محل اختلاف بين فلاسفة الحرية والملكيات الدستورية، كـ "لوك" و"روسو" وفلاسفة التنظير للملكيات المطلقة كـ "هوبز".

فبحسب فلاسفة الحرية كلوك الفرنسي المنظر للملكية المقيدة، فإن أطراف العقد هم الجماعة من جهة والحاكم من جهة أخرى، تنازلت الجماعة عن شيء من حريتها، وأعطوا للحاكم حق الطاعة لقاء تمتعهم بحقوق اجتماعية أرقى، وإذا لم يف الحاكم بما عليه جاز للجماعة عزله.

فأطراف العقد: الجماعة والحاكم، ومقتضاه: طاعة الجماعة للحاكم إذا أعطاهم حقوقا أرقى، وإذا لم يف يزول مسوغ الطاعة.

[ ص: 87 ] أما "روسو" فرأيه واضح في كتاب "العقد الاجتماعي" الذي صدر في سنة 1762م، ولم يعترف فيه بسلطان للحاكم؛ إذ يذهب إلى أن العقد الاجتماعي أبرم بين أفراد الشعب كأفراد وبين الشعب كجماعة، ونزل الأفراد للجماعة عن بعض حرياتهم لهذه الهيئة الاجتماعية مقابل صيانة باقي الحريات والتمتع بممارستها [17] ، ثم أقامت الجماعة وكيلا عنها هو السلطان، وناطت به تنظيم أمور الشعب، بحيث لو أخل بواجبه وبما كلف به كان للشعب أن يعزله كما يعزل الموكل وكيله.

فأطراف العقد هم الجماعة من جهة والأفراد من جهة أخرى وليس الحاكم، ومقتضى العقد تنازل الأفراد للجماعة عن بعض حرياتهم لقاء صيانة باقي الحريات، والحاكم هو وكيل الجماعة، ويترجم ذلك عمليا بالانتخابات، التي يقوم بها الأفراد باختيار هيئة عامة تمثلها، وتفوض الهيئة السلطة للتنفيذية وتراقبها، وتسحب منها الثقة.

وكان لآراء "روسو" ثم " مونتيسكيو"، في كتابه "روح القوانين"، و"فولتير" أثرا في رجال الثورة الفرنسية وفي الساحة الثقافية الفرنسية بالتنظير للجمهورية المقيدة بحقوق الإنسان، وبأن لكل فرد حقوقا طبيعية مصدرها القانون الطبيعي، وليس للسلطان أن يحد منها، وما وجد السلطان إلا ليوفرها ويحميها، ونصت المادة الأولى من حقوق الإنسان التي أعلنتها الثورة على "أن [ ص: 88 ] الناس يولدون أحرارا ويستمرون متساوين في الحقوق"، ونصت المادة الثانية على: "أن الغاية من كل مجتمع سياسي هو حفظ حقوق الإنسان الطبيعية التي لا يمكن انتزاعها وهي الحرية والملكية والأمن ومقاومة الظلم" [18] .

واستند هؤلاء إلى افتراض أن الناس يولدون أحرارا، وهم لا يتنازلون عن حريتهم إلا لمصلحة اجتماعية أرقى، هي وظيفة الدولة، وتستمد الدولة مشروعيتها من تلبيتها لحاجات الأفراد بتنظيمهم في مجتمع أرقى، كما أن الأفراد يلتزمون بطاعة القوانين المعبرة عن إرادة المجموع بتجردها وعمومها، ومن هنا فإن على الدولة أن تعطي للأفراد حريات سياسية لقاء طاعتهم لها.

أما "هوبز" (1588-1679م) ، فيلسوف التنظير للملكيات المطلقة، فتأثر بالحروب الداخلية، حيث ألف كتابه سنة 1651م في ظل حروب أهلية ودينية مدمرة نتيجة ضعف سلطة الدولة، شعر بعدها بأهمية قيام الدولة القوية القادرة على تحقيق الأمن، وسعى لحل المشـكلة بالتنـظير لمفهوم دولة قادرة على حفظ الأمن، وضمان بقاء الإنسان فقط دون التطرق لحقوق أخرى للرعية ولا لواجبات على الحاكم.

فيرى أن العقد الاجتماعي تنازل فيه الرعية عن حقوقهم للحاكم، بمحض إرادتهم، تنازلا غير قابل للتفاوض ولا رجعة عنه حتى وإن أساء الحاكم استخدام السلطة.

والعقد الاجتماعي لا يحمل الحاكم حقوقا سوى تحقيق الأمن [ ص: 89 ] للمحكومين، وحفظ بقائهم، ومنع اعتداء بعضهم على بعض، إذ يرى أن الإنسان ليس كائنا اجتماعيا بطبيعته بل هو فرد أناني محب لذاته، يحمله طبعه على العدوان لضمان بقائه، وهذا ما يفسر الحروب بين البشر.

فالإنسان ذئب أخيه الإنسان، ومن هنا لم يكن ظهور الدولة مسايرا للطبيعة البشرية المائلة بطبعها للعنف وإنما هو نتيجة وعي الإنسان للشرور الناتجة عن طبيعته فكانت الدولة الثمرة اصطنعها الإنسان بإرادته الحرة جاءت بعد وعيه لخطر العنف الناشئ عن طبيعته فتنازل عن حريته لمصلحة الإنسان ذاته [19] ؛ لأن حالة الطبيعة هي حالة عنف وجور وتدمير وميل نحو الشر، وهو ميل طبيعي في الإنسان.

فالإنسان بطبعه تحركه دوافع الرغبة والطموح والتفوق على الآخرين. وهذا ما يجعل الضعفاء ضحية لهذا المنطق. فحالة الطبيعة تطبعها الفوضى والعنف، "حرب الكل ضد الكل"، ما يحول دون قيام حياة اجتماعية آمنة ومستقرة. فيجد الإنسان نفسه أمام فقدان أهم ما لديه، وهو "البقاء على قيد الحياة". لذلك فكر الناس في بناء مجتمع سياسي يضع حدا للحروب والعدوان والجور والظلم والتسلط، يستبدل بالعنف التكامل والتعاون. ومن هنا سعى المكونون للعقد بالتنازل عن كل سلطتهم وحقوقهم لصالح حاكم، يتمتع بالسلطة المطلقة، ولم يكن هذا العقد بتفويض الصلاحيات للحاكم بل بالتنازل عن الحقوق للحاكم؛ لأنه لم يكن طرفا في العقد وليس خاضعا لأحد [20] .

[ ص: 90 ] وهكذا كانت الدولة هي التنظيم الجديد الذي قام بسبب الخوف المتبادل من أجل ضمان أمن المتعاقدين وتأمين سلامتهم، وليس عن طريق التفويض للحاكم بل عن طريق التنازل. ومن هنا إذا أمر الحاكم بقتل إنسان فلا يعد معتديا على حقه؛ لأن الفرد تنازل عن حقه للحاكم، وضرب أمثلة من التراث اليهودي، من قصة الملك داود، الذي أمر بقتل القائد العسكري "أوريان" ظلما، وقال: إن داود كان مخطئا أمام ربه، ولكن ليس معتديا على حق لأوريان؛ لأن "أوريان" تنازل عن حقه للدولة! وهذا من الافتراء على الأنبياء، الذي أنكره الإسلام وبرأ داود، عليه السلام، منه استنادا لعصمة الأنبياء عن الحرام، كما أن القول بمسؤولية الحاكم أمام الله عن القتل ظلما يعني أنه ظلم واعتدى على حق الإنسان، فكيف يكون مسؤولا عن فعل هو مباح؟!

لقد أدرك "هوبز" أهمية الدين في تلطيف قسوة الحكم ولكنه تناقض مع نفسه ولم يعط للأفراد حق مساءلة الحاكم خوفا من العنف المدمر، الذي عاصره نتيجة صراع طائفي وأهلي.

وكان "هوبز" يسعى لتبرير حكم "آل ستيورات" في إنجلترا، ودحض ادعاءات البرلمان برئاسة "كرومويل" [21] .

ورغم تنظير "هوبز" لدولة لا يكون فيها الحاكم مطالبا باحترام حقوق [ ص: 91 ] الإنسان إلا أن "هوبز" قرر حق الفرد بعدم الطاعة إذا أمره الحاكم أن يقتل نفسه، أو أن لا يقاوم المعتدين؛ لأن هذا الأمر مخالف لمقتضى العقد الاجتماعي، وللغاية من وجود الدولة إذ تستمد الدولة مشروعيتها عند "هوبز" من ضمانها لأمن الناس وسلامتهم، وهذه الوظيفة الوحيدة التي إذا قام بها الحاكم يكون محل ثناء وتقدير بحسب "هوبز".

كما قرر "هوبز" أنه إذا ما تم استجواب فرد بشأن جريمة ارتكبها فليس الفرد ملزما بالإقرار على نفسه ما لم يضمن الصفح؛ لأنه لا أحد ملزم باتهام ذاته بموجب اتفاقية [22] .

- وظهر الفيلسوف الإنجليزي "جان لوك" وافترض وجود عقد اجتماعي يؤسس فيه لملكيات مقيدة ودستورية حيث يفترض أن تنازل الناس عن جزء من حريتهم المطلقة للحاكم كان مقابل تمتعهم بحريات أرقى، وهو تنازل يمكن الرجوع عنه إذا لم يف الحاكم بحقوقه وأساء استعمال السلطة الممنوحة له.

ثم ظهر في الساحة الفرنسية منظرون لديمقراطية جديدة تتقيد بحقوق الإنسان استنادا لفكرة "العقد الاجتماعي" مثل "فولتير" و"مونتيسكيو" و"جان جاك روسو".

وتقوم فكرة "روسو" على أن وظيفة الدولة ليست المحافظة على أمن الناس وسلامتهم فقط، بل غايتها بناء حياة اجتماعية، وتكوين مجتمع سياسي تقوم فيه الدولة بالمحافظة على حقوق الأفراد. فالدولة لا تقوم على احتكار [ ص: 92 ] الحاكم للسلطة، بل على التعاون والتشارك.. والسيادة المطلقة للأمة عن طريق الإرادة العامة للمجموع، التي يعبر عنها في القوانين [23] .

وبالتالي تـكون وظيـفـتـها هي الحـفـاظ عـلـى حـقـوق المـواطـنـين الـذين لا يخضعون للحاكم داخل الدولة، بل يخضعون لسلطة القوانين التي سـاهموا في وضعها. فالسيادة دائمة للأمة، وهذا ما يقصده روسو بقوله: "إن من يهب نفسه للجميع لا يهب نفسه لأحد"، فالدولة ليست كما تصور أصحاب النظرية "الثيوقراطية" أو "هوبز" متعالية على الإنسان بل هي وسيلة ضرورية لتحقيق أماني الإنسان ومطامحه.

- وظيفة الدولة عند "باروخ اسبينوزا 1677م":

نظر "اسبينوزا" في كتابه: "رسالة في اللاهوت والسياسة"، لوظيفة الدولة بحماية التعدد والتنوع والاختلاف الفكري، معتبرا ومتعظا من الصراع الديني الطاحن بين الكاثوليك والبروتستانت، فدافع عن دولة لا تنحصر وظيفتها في السيادة والتنظيم والتحكم، كما ذهب إلى ذلك "هوبز"، بل جعل مسوغ وجود الدولة هو قدرتها على تحرير الناس من الخوف، والعنف، والإرهاب الذي قد يمارسه المختلفون في التصورات والآراء والمعتقدات على بعضهم البعض بالقوة والعنف والإكراه.

[ ص: 93 ] فمشروعية الدولة عند "اسبينوزا" تنبع من قدرتها على حماية الاختلاف الفكري وتوجيهه على نحو يخدم مصلحة الجميع.

ووظيفة الدولة ومسوغ وجودها ينبع من تحرير أجساد الأفراد وعقولهم لكي يفكروا بشكل حر، وضمان حرية التفكير للأفراد؛ ذلك أنه لو ترك الأفراد المختلفين في أفكارهم وتوجهاتهم لذواتهم لما تمكنوا من تدبير اختلافاتهم بالعقل والنقاش بعيدا عن الإكراه والقوة.

لذلك، فإن مسوغ قيام الدولة نابع من عدم قدرة المختلفين في الرأي والمعتقد على تدبير اختلافاتهم، ودورها يتجسد في حماية الاختلاف والعمل على ترشيده. ومن هنا طالب "اسبينوزا" بفصل الدين عن الدولة لضمان حرية الاختلاف، وعدم إكراه الناس على معتقد معين، فالدولة لا تقف مع أنصار مذهب ضد مذهب آخر ولكنها تقف على الحياد تجاه الجميع. يقول "اسبينوزا":

"إن الغاية من تأسيس الدولة هي تحرير الفرد من الخوف بحيث يعيش كل فرد في أمان بقدر الإمكان.

... فالغاية الحقيقية من الاجتماع الإنساني في ظل دولة تملك القدرة على إلزام الأفراد بقرار ليس المحافظة على البقاء فقط، ولا تحويل الموجودات العاقلة إلى حيوانات أو آلات صماء، بل المقصود منها هو إتاحة الفرصة لأبدانهم وأذهانهم كي تقوم بوظائفها كاملة في أمان تام، بحيث يتسنى لهم أن يستخدموا عقولهم استخداما حرا، من دون إشهار لأسلحة الحقد والغضب أو الخداع، وبحيث يتعاملون معا دون ظلم أو إجحاف، فالحرية إذن هي الغاية الحقيقية [ ص: 94 ] من قيام الدولة" [24] .

وعليه، فإن أفضل النظم السياسية بمعيار "اسبينوزا" هي التي تكفل لكل فرد حرية الاختلاف، بحيث يعيش الأفراد بسلام رغم تنوعهم الفكري واختلافهم وتعارضهم بالآراء.

ثم وصل "اسبينوزا" إلى تسويغ لفكرة حكم الأغلبية مع احترام حقوق الأقلية فقال: "ولما كان الأفراد لا يفكرون بطريقة واحدة، فإن أفضل السبل أن يحكموا برأي الأغلبية، وإعطاء رأي الأغلبية قوة القانون مع تمسكهم بحقهم في تعديله إذا ظهر لهم ما هو أفضل منه".

ومن هنا نشأ العقد الاجتماعي ليحول الإنسان من العيش وفق الشهوة إلى العيش وفق العقل، وبموجب العقد تنشأ الجماعة، ويفوض كل فرد حقه للجماعة، لا يلزم من هذا التفويض أن يكون الإنسان عبدا للدولة؛ لأن العبد عبد الشهوة أو عبد (الغير) ، أما الخضوع للعقل فليس عبودية [25] .

تطور أجيال حقوق الإنسان وأثره في وظائف الدولة:

كانت نظرية "العقد الاجتماعي" وفكرة الحقوق الطبيعية، التي نادي بها فلاسفة الحرية في أوروبا كـ "لوك" البريطاني و"روسو" الفرنسي، تدعو إلى جعل الحرية الشخصية وحرمة المسكن وحرمة الملكية قيودا على سلطة الدولة، [ ص: 95 ] بحيث لا يجوز اعتقال فرد بلا سبب، ولا يجوز فرض ضرائب إلا بموافقة البرلمان، ولا يجوز انتهاك حرمة المسكن، ولا تقييد حرية العمل، ولا حرية التنقل، وكل هذه الحريات لا تطالب الدولة بفعل إيجابي وإنما هي تقييد لصلاحية الدولة؛ ليتمكن الفرد الرأسمالي من الاستثمار بلا قيود.

كما أن هذه الحريات ليست ديونا على الدولة، فالدولة ليست مطالبة بتوفير فرص عمل ولا إيجاد مؤسسات تعليم وإنما يترك ذلك كله للمجتمع، وقدى أدى التطبيق العملي لهذه الحقوق إلى ظلم وقع على الفقراء، إذ لم ينتفع الفقراء من هذه الحقوق لعدم تمكنهم من تدريس أولادهم لعدم وجود مدارس حكومية مجانية والدولة ليست مطالبة بتوفير التعليم، بحسب مفهوم حقوق الإنسان آنذاك.

ولكن الدولة تتدخل لتوفير الحريات، وإنما يكون تدخلها إذا اعتدى فرد على حرية فرد في المسكن أو الملك، ولم ينتفع عمليا من هذه الحقوق سوى الأغنياء، أما الفقراء فتعرضوا للظلم من قبل المالكين الذين لم ينصفوهم في مـراعـاة كفـاية الأجر ومنحـهم إجـازات عمل مناسبـة، وضمـان اجتـماعي، ولم يكن بإمكان الدولة أن تتدخل؛ لأن العلاقة بين المالك والعامل نظمها عقد بإرادة حرة، والعقد شريعة المتعاقدين، كما أن حق الإنسان في ملكه يرد قيدا عليها سلطة.

ثم أدى التطور الصناعي وما نشأ عنه من مظالم بحق العمال إلى تبني الفكر الاشتراكي، الذي سمح بتعديل على مفهوم حقوق الإنسان لتصبح الدولة مكلفة بالقيام بواجبات كحق التعليم وحق العمل وحق العلاج وحق [ ص: 96 ] الضمان الاجتماعي فيما عرف بالجيل الثاني من حقوق الإنسان، وتبعه الجيل الثالث وهو تكوين النقابات، التي تدافع عن مصالح العمال، وقد نصت على هذه الحقوق المواثيق الدولية كالعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

وحين صيغت دساتير الدول الحديثة نصت على احترام حقوق الإنسان، وأدخلت مفردات الحقوق في نصوص الدستور والقوانين المحلية، وغدت الدولة مكلفة بوظائف أكبر كتوفير التعليم المجاني للأطفال وجعل التعليم إلزاميا حتى سن معينة، وتوفير المؤسسات الصحية والمراقبة عليها والإشراف على التزام المؤسسات الخاصة بمعايير الجودة والسلامة، وكل هذه الوظائف لا بد أن تقوم بها الدولة [26] .

ومما يجدر الالتفات إليه تنوع سبل تدخل الدولة.. فهناك السبيل الثوري، الذي تبناه الفكر الاشتراكي بتغيير السلطة القديمة، كما حدث في الاتحاد السوفياتي والدول التي اتبعت نهجه، ويلحظ على هذا النهج أنه يعمد لتغيير المفـاهـيـم الديـمقراطية وإحـلال المفاهيم الاشتراكية بالقهر والمصادرة، ولا يبالي بالظلم الذي يقع على الأفراد ما دام الهدف التحول من نظام فردي إلى نظام اجتماعي.

وهناك الخط الدستوري الذي تبنته دول أوربا الغربية بإدخال التعديلات [ ص: 97 ] التشريعية، التي تسمح للدولة بالتدخل.

والمذاهب الاشتراكية متنوعة، فمنهم من يتبنى الثورة طريقا للتغيير كالفكر الماركسي، ومنهم من يتبنى أفكارا اشتراكية ولكنه ينفذها من خلال الانتخابات والأدوات الليبرالية نفسها كحزب العمال البريطاني، فهو يتبنى حقوقا للعمال وتقييدا لصلاحيات الرأسماليين ولكنه يعمل بالأدوات الليبرالية وليس الأدوات الثورية.

ومنهم من مزج بين الفلسفة الفردية وبين القيم الاشتراكية فأخذ من القيم الفردية قيمة الأسرة والدين والملكية الفردية واحترام العقود، وأخذ من الفكر الاشتراكي قيمة العدالة الاجتماعية ومنح حقوق أفضل للعمال، ويسمح للدولة بالتدخل في أوقات محدودة التفاتا للعدالة [27] .

وتلحظ مما سبق أنه على الرغم من الاختلاف الفلسفي لوظيفة الدولة ومدى تدخلها، فهناك اتفاق بين كتاب الفكر السياسي، على اختلاف مشاربهم، حول دور الدولة في تنظيم المجتمع وتقديم عدد من الخدمات والوظائف كحفظ النظام العام وحفظ الأمن.

ولكن هناك اختلاف كبير حول مدى تدخل الدولة، وإلى أي حد يسمح لها التدخل بحرية الأفراد، وهذا ما يدعو لدراسة وظيفة الدولة في الفكر السياسي الإسلامي.

وقد اخترنا دراسة الإمام الجويني في كتابه "غياث الأمم" لما يمثله من جمع [ ص: 98 ] بين التنظير الفكري والعلاج الواقعي. ولما نص عليه من وظائف تتسع لمواجهة مستجدات الحياة، فقد نص الجويني مثلا على أن من وظائف الدولة حماية المعرضين للضياع، وهذه الوظيفة تتسع لمنح الدولة صلاحيات للتدخل في معالجة تشوهات النظام الرأسمالي حين يتعرض الضعفاء للضياع، كما أن الجويني وضع المنهج الذي يجعل تدخل الدولة منضبطا بقواعد الشرع ويفي بحاجات المجتمع والأفراد، وهو ما نعرضه تاليا، بإذن الله تعالى.

التالي السابق


الخدمات العلمية