الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
أولا: النظريات الافتراضية الموهومة:

1- النظريات الدينية الموهومة:

تفسر هذه النظريات منشأ السلطة وشرعيتها على أساس ثيوقراطي، بمعنى ديني مزعوم [1] ، فكان الناس يخضعون لحكامهم باعتبارهم آلهة، كملوك الصين [ ص: 22 ] والهند والفراعنة، الذين سوغوا طاعتهم بادعائهم الألوهية.

ولكن هذا الفكر الوثني لم يعد مقبولا لتسويغ الطاعة وذلك بسب دعوة الأنبياء لعقيدة التوحيد، بما جعل ادعاء الألوهية من قبل البشر سبب اعتراض على الحاكم، يؤكد هذا حوار إبراهيم، عليه السلام، مع الذي آتاه الله الملك، وحوار موسى، عليه السلام، مع فرعون، الذي يدل صراحة على رفض دعاوى الألوهية، التي ادعاها الحكام لتسوغ حق الطاعة على الرعية.

وبعد وصول أتباع الأنبياء للحكم سيما رجال الدين المسيحي، تسرب إليهم فكر العقيدة الجبرية لتسويغ السلطة على أساس ديني، فيما يعرف بالحق الإلهي المقدس [2] ، وخلاصته أن الملوك، وإن كانوا بشرا، إنما يحكمون باختيار واصطفاء إلهي؛ ولهذا فلا يجوز أن يحاسبوا إلا من قبل الله، الذي اختارهم، حتى لو قصروا في وظائفهم تجاه الرعية، فليس للرعية إلا الصبر حتى لا تعترض على إرادة الله الذي اختار الملوك!

ومن عجب أن منظري هذا الفكر لم يتنبهوا إلى أن التعلل بإرادة الله تعالى القدرية لتسويغ طاعة الحاكم يمكن أن تتحجج به المعارضة أيضا؛ لأن المعارضة تعارض باختيار الله تعالى لها(!) ذلك أن كل ما في الكون يتم بأقدار الله تعالى، بما فيها اختيار الحاكم والمعارضين!

فليـس الاصطـفـاء الإلهي مـقـصـورا عـلى أفـعـال الحـكام، فالله تعـالى خلق البشر وخلق ما يعملون، ولكن الخلق لا يعني الرضا عن الفعل السيئ: [ ص: 23 ] ولا يرضى لعباده الكفر (الزمر:7) ، ومن الكفر كفران النعم.

وهذا الفكر الثيوقراطي، الذي تبنته الكنيسة، يكشف عن حدوث تحول في الأفكار للحركات الإصلاحية بعد ملامستها للواقع.. هذا التحول يتطلب نظرية لفقه الواقع وسبل التعامل معه على نحو مقاصدي تعصمه وتحمي النظرية من الانحراف.

فالفكر الديني الكنسي في أصله فكر إصلاحي.. لما وصل للحكم وصار له معه مصالح عدل في نظريته لتتلاءم مع مصالح الاستقرار، ولكن لم يتحقق الاستقرار؛ لأن هذه النظرية جعلت الحاكم بعيدا عن الرقابة، وانتهى الأمر للمظالم، التي أخلت بالنظام.

وقـد أدى الصـراع بين ملـوك أوروبا والـكـنـيسـة، فيمـا بـعد، إلى نشوء نظرية تمزج بين مصالح الكنيسة ومصالح الشعب، قوامها أن الحاكم يكون حاكما باختيار شعبي، كما هو ظاهر، عبر صناديق الانتخاب، إلا أن الإرادة الإلهيـة هـي الـتي دفعت الشعب إلى اختيار الحـاكم، وعـرفـت بنظرية "التفويض الإلهي" [3] .

وهذه المفاهيم الدينية الغيبية لا يقرها الإسلام؛ ذلك أن ادعاء الألوهية من البشر وثنية محضة، وأما الاستناد إلى اختيار الإرادة الإلهية لتسويغ حق الطاعة، فغير مسوغ، حسب المفهوم القرآني، لرفع المساءلة يدلك على هذا [ ص: 24 ] قول الله تعالى: يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب (ص:26).

فاصطفاء الله داود، عليه السلام، لم يجعله آمنا من المساءلة، بل خاطبه الله تعالى صراحة فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى ، وهذا ما فهمه المفسرون من عدم إفراد أولي الأمر بطاعة مستقلة في قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم (النساء:59) ، وفي هذا يقول ابن حجر: "ولم يعد القول وأطيعوا في أولي الأمر إشارة إلى أن فيهم من لا تجب طاعته" [4] .

2- النظرية التعاقدية المتوهمة :

[5]

نشأت هذه النظرية بعد أن تخلصت أوروبا، على يد الثوار والملوك، من سلطة الكنيسة على المستوى السياسي، وبدأ فلاسفة الحرية يؤسسون لشرعية تقوم على أساس الحقوق التبادلية [6] ، وخلاصتها: أن ما يملكه الحاكم من سلطة تستند في شرعيتها إلى عقد مفترض بين الأمة والحاكم تنازلت فيه الأمة [ ص: 25 ] عن جزء من حريتها لقاء تمتعها بحقوق سياسية واجتماعية أرقى [7] .

ويعد هذا العقد الموهوم مسوغ السلطة، التي يمتلكها الحاكم، مثلما تستند شرعية الحكم حسب هذه النظرية إلى التزام الحاكم بمقتضى العقد بتمتع المحكومين بالحقوق الاجتماعية والسياسية.

ويلاحظ أن هذه النظرية التي قال بها "روسو" وإن كانت افتراضية لتفسير نشوء الدول، إلا أنها كان لها أثر في إنشاء دول تستند في شرعيتها إلى العقلانية القانونية، والحقوق التبادلية.

التالي السابق


الخدمات العلمية