الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
الباب الثاني

وظائف الدولة

1- الرؤية القرآنية لوظيفة الدولة:

تعد الدولة أداة لحماية المقاصد، التي دعا إليها الأنبياء، ومن هنا أيد الله عددا من الأنبياء بالقوة المادية كداود وسليمان، عليهما السلام، كما أمر بطاعة الحكام، وجعل طاعة الرعية للحكام مستمدة من طاعة الحاكم للشريعة والتي تستلزم عدالة الحكم.

ومما يؤيد التلازم بين الدولة والمقاصـد الشـرعية الآيات القرآنية التالية، التي تكشف الرؤية القرآنية لوظيفة الدولة:

- يقول تعالى: أم يحسدون الناس على ما آتاهم الله من فضله فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة وآتيناهم ملكا عظيما (النساء:54) ، وذلك ردا على اعتراض اليهود على جمع النبي محمد صلى الله عليه وسلم بين قيادة الدولة والنبوة؛ فنبه القرآن الكريم أن الأصل اجتماع القوة السياسية مع النبوة لقيادة المجتمع وفق هدي النبوة، ثم يقوم الحكام باستكمال رسالة الأنبياء في تنظيم المجتمع، وفي هذا يقول الجويني: "وما ابتعث الله نبيا في الأمم [ ص: 57 ] السالفة حتى أيده وعضده بسلطان ذي عدة ونجدة [1] ، ومن الرسل، عليهم السلام، من اجتمعت له النبوة والأيد والقوة كداود وموسى وسليمان، صلوات الله عليهم أجمعين، ولما اختتم الله الرسالة في العالم بسيد ولد آدم أيده بالحجة البيضاء، والمحجة الغراء، وشد بالسيف أزره، وضمن إظهاره ونصره... ثم أكمل الله الدين واختتم الوحي، فاستأثر برسوله سيد النبيين، فخلفه أبو بكر الصديق ليدعو إلى الله دعاه، ويقرر من مصالح الدنيا ومراشدها، وينتحي في استصلاح العباد ما انتحاه" [2] .

وترى في كلام الجويني تجلية لأصالة فكرة الدولة في الإسلام، ثم بيان وظيفة الدولة بعد أن أكمل الله الدين واختتم النبوة، وذلك بتولي الدولة خلافة النبوة بالدعوة إلى الله وتقرير مصالح الدنيا ومراشدها بحسب توجيه الدين.

ومما ينبغي التنبه إليه أن ما يكلف به الحاكم من وظائف دينية لا ينفي الصفة المدنية عن الحاكم، فهو صار حاكما بعقد البيعة مع أهل الحل والعقد لا بحق إلهي مزعوم، وهو حاكم يخضع للمراقبة والمحاسبة من قبل الأمة وعبر مؤسساتها.

[ ص: 58 ] - ومما يـدل عـلى أصـالـة فـكرة الدولـة وعلاقـتـها التـكامـلـية مع الرسالة النبوية ما ورد في تفسير قوله تعالى: وقل رب أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا (الإسراء:80) ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتـلـو هـذه الآية عـنـد هـجرته من مكة إلى المدينة، قـال ابن كثـير نقـلا عن قـتـادة: "وقال قتـادة فيها: أن نـبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسـلطان، فسأل سلطانا نصيرا لكتاب الله، ولحدود الله، ولفرائض الله، ولإقامة دين الله، فإن السـلطان رحمة من الله جعله بين أظهر عباده، ولولا ذلك لأغار بعضـهم على بعض فأكل شـديدهم ضـعيفهم" [3] .

-كما نبه القرآن لأهمية قيام الدولة، التي تعضد رسالة الأنبياء وتؤيدهم بالقوة المادية في قوله تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس وليعلم الله من ينصره ورسله بالغيب إن الله قوي عزيز (الحديد:25).

وفي الآية بين الارتباط بين "الكتاب" وما فيه من التشريع وبين "الميزان" الممثل لأداة التوازن في التعامل وبين "الحديد" الممثل للقوة المادية، التي تلزم على تطبيق الحق ممثـلة بالسـلطة العامة، وفي هذا المعني يقول ابن تيميـة: [ ص: 59 ] "ولن يقوم الدين إلا بالكتاب والميزان والحديد: كتاب يهدى به، وحديد ينصره، فالكتاب به يقوم العلم والدين. والميزان به تقوم الحقوق. والحديد به تقوم الحدود على الكافرين والمنافقين" [4] .

- كما أمر الشارع بطاعة أولي الأمر: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا (النساء:59).. وكانت العرب لا تعرف مفهوم الدولة، وتأنف من طاعة الملوك، ولا تعرف سلطانا سوى للقبيلة والعرف، فأمر القرآن بطاعة أولي الأمر ليتحقق مقصود الشارع من نصب الحكام وبناء الدولة، فإذا لم يكن للحكام طاعة فلا قيمة للقرارات الإدارية، التي يصدرونها.

قال الشافعي "كل من كان حول مكة من العرب لم يكن يعرف إمارة، كانت تأنف أن يعطي بعضها بعضا طاعة الإمارة. فلما دانت لرسول الله بالطاعة، لم تكن ترى ذلك يصلح لغير رسول الله فأمروا أن يطيعوا أولي الأمر الذين أمرهم رسـول الله، لا طاعة مطلقة، بل طاعة مسـتثناة، فيما لهم وعليهم، فقال: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله (النساء:59) ، يعني: إن اختلفتم في شيء فردوه لله والرسول" [5] .



[ ص: 60 ] - القرآن الكريم يؤصل لمبدأ: الرقابة على شرعية القرار الإداري:

إن ما نبه إليه الشافعي من أن طاعة الحكام ليست مطلقة وإنما هي مسـتمدة من طـاعة الحاكم لله دليل جـلي على أن شـرعيـة القرارات الإداريـة تستمد من أداء الحقوق والحكم بالعدل، إذ الحكم أمانة، ومعنى ذلك أن الحكام مأمورون بأداء حقوق الناس، وذلك بأن تكون التشريعات عادلة، وأن تحفظ حقوق الأمة الشرعية في أموالها وأوطانها: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعا بصيرا (النساء:58) ، قال ابن تيمية: "نزلت في ولاة الأمر، وأوجبت أداء الأمانات إلى أهلها، والحكم بالعدل: فهذان جماع السياسة العادلة، والولاية الصالحة" [6] .

-كما بينت الآيات أن الظالـم لا يستـحـق أن يكون إمـاما وحـاكما كما في قوله تعالى: وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال ومن ذريتي قال لا ينال عهدي الظالمين (البقرة:124).

ويتولى الرقابة على القرار الإداري في الدولة الحديثة محكمة مختصة كمحكمة النقض.

[ ص: 61 ] - القرآن الكريم يؤصل لفكرة المحكمة الدستورية ضمانا لمبدأ المشروعية:

في قوله تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله (النساء:59) ، يعني: إن اختلفتم في شيء مع الحكام وأولي الأمر، وفي هذا توجيه للأمة حين تختلف مع الولاة والحكام أن تحل الخلاف بعمل مؤسسي لا بعمل فردي، وذلك برد الأمر إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ومعنى عمل مؤسسي: وجود هيئة من العلماء المعروفين بالنزاهة والكفاءة، الذين ينظرون في الدليل بحياد ونزاهة ومنهجية علمية صحيحة، ويرجحون ما فيه مصلحة الأمة والأقوى دليلا، وهذا ما يمكن أن يتحقق بإيجاد محكمة دستورية عليا تنظر في الخلاف بين السلطات التشريعية والتنفيذية في الدولة.

- القرآن الكريم ينبه لخطر تخلي الدولة عن وظيفتها في حفظ حقوق الإنسان باستحقاق عقاب الله تعالى:

نبه القرآن الكريم للعلاقة الوثيقة بين الطغيان المتمثل بانتهاك حقوق الإنسان واستحقاق العذاب، كما في قصة فرعون.

والطغيان الذي مارسه فرعون هو انتهاك لحقوق العباد وإخلال بوظيفة الدولة في حفظ الأمانات وتضييع الحقوق والاعتداء على حقوق المستضعفين، ففرعون انتهك حقوق الرعية يذبح أبناءهم ، وجعل أهلها شيعا فأفسد الرابطة الجامعة بين أفراد المجتمع بما استوجب العقوبة الإلهية، التي أهلكت فرعون وقومه فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين فلما آسفونا انتقمنا منهم فأغرقناهم أجمعين فجعلناهم سلفا ومثلا للآخرين (الزخرف:54- 56).

[ ص: 62 ] وفي القرآن الكريم إنذار بأن عاقبة كفر النعم أن تزول وتحل محلها النقم بمن لا يشكرون له سبحانه ما امتن به من النعم وأسداه، ومن الذين يتنكبون سنن الله [7] ، كما في قوله تعالى: قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ... (الأنعام:65).

ومعنى يلبسكم شيعا : مختلفين على أهواء شتى، كل فرقة منكم تشايع إماما في الدين، أو تتعصب لملك (!) وفي هذا تنبيه لوظيفة الدولة ببناء ثقافة جامعة بين أبناء الوطن، وخطورة القرارات الفوقية، التي تعتمد أسلوب "فرق تسد" للتحكم والسيادة، بما يؤول إلى صراع أفراد المجتمع نتيجة تحزبهم، فالعـذاب المشـار إليه في الآيـة لا يقتـصر على الـزلازل والأعاصير، بل يمتد ليشمل القرارات الفوقية، التي تصدر ممن يمارس السلطة ولكنها قرارات لا تتحرى مصلحة الأمة، بل تقصد إلى مصلحة طائفة أو فئة فتكون النتيجة أن يتمرد أفراد المجتمع على السلطة جملة، وينقسم المجتمع إلى شيع متناحرة، وتمتد بآثارها إلى مستوى دول، وعند التأمل في الآية تجدها تحذر من مخاطر السنن الاجتماعية، التي تلحق بالأمة نتيجة قرارات سياسية خاطئة تذهب بروح الأخوة داخل المجتمع وتدمره شيعا يكوى بعضها ببأس بعض [8] .

[ ص: 63 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية