الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
2- وظيفة الدولة عند فقهاء المسلمين:

وظيفة الدولة عند فقهاء الإسلام تحقيق سيادة التشريع الإسلامي، فالسلطة العامة ممثلة بالدولة هي أداة الأمة لتنفيذ أحكام الشريعة، ومن هنا عد الفقهاء إقامة الدولة واتخاذ الإمارة قربة يتقرب إلى الله تعالى به [1] .

وقد قرر فقهاء الإسلام حاجة المجتمع الإنساني لسلطة منظمة استنادا لمنهج علمي على فهم العالم وفهم النص، فقرروا أن مسوغ وجود الدولة يستند لعدة أمور، منها: تلبية الحاجات، ومنها الارتقاء بالإنسان، وتمكينه من النجاة عند الله؛ فصلاح نظام الدنيا مرتبط بالفوز بالآخرة.

ولذا ينبغي أن يكون النشـاط السـياسي هو النشاط الذي يقيم الشريعة ويحرسها، فمن واجبات الإمام إقامة الحدود لتصان محارم الله تعالى عن الانتهاك، وتحفظ حقوق عباده عن الإتلاف أو الاستهلاك، والذب عن الحريم لينصرف الناس في المعايش، وينتشـروا في الأسفار آمنين، وتحصين الثغور حتى لا يظفر الأعداء بغرة ينتهكون محرما أو يسفكون لمسلم أو معاهد دما

[2] .

[ ص: 64 ] وإذا خالف الحاكم أحكام الشريعة فقد أتى بنقيض مقصوده، وفي هذا يقول ابن تيمية:

"وولي الأمر إنما نصب ليأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر، وهذا هو مقصود الولاية. فإذا كان الوالي يمكن من المنكر بمال يأخذه، كان قد أتى بضد المقصود، مثل من نصبته ليعينك على عدوك، فأعان عدوك عليك، وبمنزلة من أخذ مالا ليجاهد به في سبيل الله، فقاتل به المسلمين" [3] .

وتلحظ أن حفظ سيادة الشريعة هو الوظيفة الأولى للدولة، وهي تعني خضوع الحاكم والمحكوم لما تقضي به قـواعد الشـريعة مما يجعل الدولة مطابقة لما يعرف بدولة القانون، فضلا عما يوجبه البعد الديني من التزام ذاتي.

وانطلاقا من وظيفـة حفظ سيادة الشريعة أنيط بالإمام محاربة البدع وحفظ العقيدة.

وأبرز فقهاء الإسلام أن السلطة السياسية تقوم على أساس الإرادة الحرة للحـاكم والمحـكوم؛ حيث إن البيعـة عقـد مراضـاة واختيار لا يدخله إكراه ولا إجبار [4] .

والأمة تلتزم تجاه الحاكم بالطاعة والنصرة مقابل التزام رئيس الدولة بأداء الواجبات المنوطة من حماية الأرض وحفظ البيضة: ديار الإسلام، وتوفير [ ص: 65 ] الأمن، وحفظ الحقوق، واستكفاء الأمناء؛ ليكون الدين محروسا من خلل والأمة ممنوعة من زلل [5] ..

وفيما يلي عرض لوظائف الدولة عند عدد من فقهاء المسلمين.

- وظائف الدولة عند "أبو حامد الغزالي":

بين أبو حامد الغزالي، وهو تلميذ الجويني، أن أهم وظائف الدولة هي:

-أولا: تنظيم سبل تناول الحقوق على نحو يجنب الخصومات ويحول دون اعتداء الأقوياء على الضعفاء، بما يمكن الفرد من نيل حقه بطريق قانوني لا عن طريق المغالبة، فيكون التشـريع سبيلا لتهذيب شهوات النفس الإنسـانية بالقانون الملزم.

ثانيا: تحقيق خدمة الأمن بما يحقق الاستقرار في الدولة، حيث يتحقق للأفراد حياة هادئة ومطمئنة.

ثالثا: تحقيق العدل، بخضوع السلطة لقانون سياسة عادل يقره الفقهاء، بما يؤدي إلى الحياة الفاضلة في الدنيا ويحقق النجاة والفوز في الآخرة.

وفي هذا يقول: "وخلق الدنيا زادا للمعاد، ليتناول منها ما يصلح للتزود، فلو تناولوها بالعدل لانقطعت الخصومات، وتعطل الفقهاء - أي لم يحتج إليهم- ولكنهم تناولوها بالشهوات، فتولدت منها الخصومات فمست الحاجة إلى سلطان يسوسهم، واحتاج السلطان إلى قانون يسوسهم به، فالفقيه هو العالم بقانون السياسة وطريق التوسط بين الخلق إذا تنازعوا بحكم الشهوات؛ [ ص: 66 ] فكان الفقيه معلم السلطان ومرشده إلى طرق سياسة الخلق وضبطهم لينتظم باستقامتهم أمورهم في الدنيا، ولعمري إنه متعلق أيضا بالدين لكن لا بنفسه بل بواسطـة الدنيا فإن الدنيا مزرعة الآخرة..." .. ثم يقول: "ولا يتم الدين إلا بالدنيا، والملك والدين توأمان، فالدين أصل والسلطان حارس" [6] .

وبين الغزالي دعائم العدل، في كتابه "التبر المسبوك"، وجعلها عشرة، منها:

- مجالسة الحاكم للعلماء؛ لأنهم العارفون بطرق سياسة الخلق وضبطهم.

- الرقابة على العمال، ينبغي أن لا تقنع برفع يدك عن الظلم لكن تهذب غلمانك وأصحابك وعمالك ونوابك.

-أن يكون تطبيق التشريع بعيدا عن التمييز والمحاباة فيخاطب الحاكم "كل واقعة تصل إليك تخيل أنك المحكوم عليه، وأنك واحد من جملة الرعية، وأن الوالي سواك، فكل ما لا ترضاه لنفسك لا ترضى به لأحد من المسلمين" [7] .

ويقول في موضع آخر منبها لوظيفة الحاكم بحفظ الأمن بالسياسات وتحقيق العدل بالتشريعات "أجل النعم بعد نعمة الإسلام الصحة والأمن، والأمن إنما يكون مع سياسة السلطان، فيجب على السلطان أن يعمل بالسياسة، وأن يكون مع السياسة عادلا".. ثم ينبه لخطورة ضعف هيبة الدولة، بما يؤدي لظهور جماعات تخرق القانون.

[ ص: 67 ] كما ينبه الغزالي أن ظلم الرعيـة لبعضها أشـد خطرا من ظلم الحاكم وفي هذا يقول: "وإذا كان السـلطان منهم ضعيفا أو كان غير ذي سياسة وهيبة فلا شك أن ذلك يكون سبب خراب البلاد، وأن الخلل يعود إلى الدين والدنيا، وفي الأمثال جور السلطان مائة عام ولا جور الرعية بعضهم على بعض سنة واحدة" [8] .

- وظائف الدولة عند "ابن تيمية":

يبين ابن تيمية أن مقصود الولايات جميعها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، كما بين التلازم بين الاجتماع الإنساني ووجود سلطة منظمة لهذا الاجتماع بما يحقق مصالح الدنيا والآخرة، فيقول:

"كل بني آدم لا تتم مصلحتهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، إلا بالاجتماع والتعاون والتناصر،

فإذا اجتمعوا فلا بد لهم من أمور يفعلونها يجتلبون بها المصلحة، وأمور يجتنبونها لما فيها من المفسدة؛ ويكونون مطيعين للآمر بتلك المقاصد والناهي عن تلك المفاسد.

فجميع بني آدم لا بد لهم من طاعة آمر وناه، فمن لم يكن من أهل الكتب الإلهية ولا من أهل دين فإنهم يطيعون ملوكهم فيما يرون أنه يعود بمصالح دنياهم؛ مصيبين تارة ومخطئين أخرى" [9] .

[ ص: 68 ] ثم يقرر أن بقاء الدول وزوالها مرتبط بالعدل: فيقول: "وأمور الناس تستقيم في الدنيا مع العدل، الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظلم في الحقوق... ولهذا قيل: إن الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة" [10] .

وقرر أنه لا يوجد حد في الشرع لتحديد اختصاصات كل وال، وإنما هي متروكة للمصـلحة والـعرف، فـقد يوكل للقاضي بعض الصلاحيات التنفيذية في زمان وقد يوكل لأمير الحرب بعض الصلاحيات في تنفيذ الحدود.. كما بين أن كل ولاية هي في الأصل ولاية دينية، وأن كل من قـام بولاية "فساسها بعلم وعدل وأطاع الله ورسـوله بحـسـب الإمكان فهو من الأبرار الصالحين، وأي من ظـلم وعـمـل فيها بجهل فهو من الفـجار الظـالمين، إنمـا الضابط قوله تعالى: إن الأبرار لفي نعيم وإن الفجار لفي جحيم (الانفطار:13-14)" [11] .

وترى في كلام ابن تيمية إدراكه لأهمية بناء الدولة وقيامها بوظائفها، حتى إنه عد الوظائف من الأعمال الدينية، لما يترتب عليها من مصالح مقصودة للمشرع، وبين أن هذه الولايات ينبغي أن تقوم على ثلاثة أسس: الأول العلم بما يشمل الانتفاع من تطور المعارف الإنسانية في علم الإدارة، والثاني العدل بما يعني البعد عن المحاباة في إدارة الدولة، والثالث طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم .

[ ص: 69 ] - وظائف الدولة عند "ابن خلدون":

يؤكد ابن خلدون ما قرره ما سبقه من علماء المسلمين وحكماء الفلاسفة من حاجة الاجتماع البشري للدولة، وبين أن قيام الدولة يقوم على قواعد ينبغي مراعاتها، وهي قواعد ثابتة بالاستقراء لأسباب العمران البشري وأسباب هلاكه.

وعلق ابن خلدون على عبارة وردت في عدد من كتب السياسة مثل: الدولة تحتاج إلى رجال، والرجال بالمال، والمال بالعمارة، والعمارة بالعدل، والعدل بالملك... وهكذا، وهي عبارات تكررت بصيغ متعددة كما في الكتاب المنسوب لأرسطو في السياسة: "العالم بستان سياجه الدولة، الدولة سلطان تحيا به السنة، السنة سياسة يسوسها الملك، الملك نظام يعضده الجند، الجند أعوان يكفلهم المال، المال رزق تجمعه الرعية، الرعية عبيد يكنفهم العدل، العدل مألوف وبه العالم، العالم بستان... ثم ترجع إلى أول الكلام".

ويعلق ابن خلدون على هذه العبارات فيقول: "فهذه ثمان كلمات حكمية سياسية ارتبط بعضها ببعض،... وأنت إذا تأملت كلامنا في فصل الدول والملك، وأعطيته حقه من التصفح والتفهم، عثرت في أثنائه على تفسير الكلمات، وتفصيل إجمالها مستوفى بينا بأوعب بيان وأوضح دليل وبرهان، أطلعنا الله عليه من غير تعليم أرسطو ولا إفادة موبذان" [12] .

[ ص: 70 ] ويمتاز ابن خلدون بتجلية العلاقة بين الدولة والعمران البشري، وأن العمران البشري لا بد له من سياسة لينتظم أمره [13] ، وبين كيف تنشأ السلطة بالعصبية، وحلل أنواع العصبيات وتطورها، من عصبية الدم إلى عصبية الموالي، إلى عصبية الدين الخاتم.. وفسر ابن خلدون ما يعرض للدول من عوارض تـؤدي لخرابـها من جهـتـيـن: من جهـة فسـاد الـعـصـبـيـة، أو طروء الخلل من جهة المال [14] .

كما بين كيف يؤدي الظلم بخراب العمران ويؤدي لزوال الدولة، وأن أشد أنواع الظلم تسخير الرعايا بغير حق، وأعظم منه التسلط على أموال الناس بشراء ما في أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان، وهو يناقش هنا مسألة الاحتكار وخطره [15] من جهة حتى تفسد العصبية وتتغير الأحوال.

ويؤكد ابن خلدون وجود علاقة بين عزة الدولة وقيامها بوظائفها، كتحقيق خدمة الأمن، والعدل، وأن الخلل في المقدمات يؤدي إلى الخلل في النتائج، وهو ما يعرف بالعلاقة النظمية بين المدخلات والمخرجات [16] .

[ ص: 71 ] - وظائف الدولة عند "الإمام القرافي":

يقول الإمـام القرافي، رحمه الله، في وصـف الإمـامة الكبرى: "الإمام هو الذي فوضت إليه السـياسة العامة في الخلائق، وضـبط معاقد المصالح، ودرء المفاسد، وقمع الجناة، وقتل الطغاة، وتوطين العباد في البلاد، إلى غير ذلك مما هو من هذا الجنس" [17] .

ويفهم من النص السابق بيان وظائف الدولة، وحصر بعض الأمور بالدولة كترتيب الجيوش، وإقامة العقوبات الجنائية والحدود، وإقطاع الأراضي المملوكة للدولة، وتفويض استخراج الثروات من باطن الأرض، إضافة إلى تفويض الإمام بما يتعلق بمصلحة الأمة ككل؛ لذا فوض إلى الإمام، أي رئيس الدولة، أمر السياسات العامة، وكان من أهم شروط رئيس الدولة أن يكون عارفا بتدبير المصالح.

فإذا كان القضاء يعرف بالأدلة والحجج والقرائن والبينات، والفتيا تعتمد الأدلة، فإن التصرف بالإمامة يعتمـد السياسـة الراجحـة والمصلحة الراجحة، ولا ريب أن هذا لا يتحقق في أيامنا بقرار فردي وإنما بمؤسسة الإمامة، التي تجمع أولي الأمر من العلماء والخبراء.

وبهذا يتضح أن ما كان من الأحكام ذا أثر عام فلا يكون بقرار فردي، بل لا بد له من رأي الإمام المكلف بالأخذ بالشورى؛ ليكون قرارا صادرا عن مؤسسات الأمة العارفة بتدبير المصالح.

[ ص: 72 ] فتدبير إعلان الحروب وعقد المعاهدات وتنظيم استعمال المباحات والمرافق العامة وجذب الاستثمار وتوطينه، كل ذلك مما يندرج تحت المصالح العامة، والعمل على توطـين العـباد بتهـيـئـة البيئة الجـاذبة للاستـثمار بـما يساعد على التوطين.

- آراء الجويني في وظيفة الدولة في كتبه الأخرى:

وللجويني أقوال فقهية في وظيفة الدولة في كتبه الأخرى مثل: "نهاية المطلب في أحكام المذهب"، فهو كتاب مخصص للمذهب الشافعي، تناول فيه بعض صلاحيات الإمام وتقييدها في مسائل متفرقة، كمثل باب الأنفال والتعيين للجهاد في باب تفريق أربعة أخماس الفيء، إلا أنه لم يفرد وظائف الإمامة بباب خاص كما في كتاب "الغياثي" موضوع الدراسة، بل اعتذر عن عدم إفراده لهذا الباب كما في تناوله لأحكام الزكاة كقوله:

"ومما يذكر في ذلك أن السلطان لو كان جائرا، فسلم الزكاة إليه، فتفصيل ذلك على التحقيق الذي نبغيه في هذا المذهب، لا يحتمله هذا المكان، والقول فيه يتعلق بالإيالة [18] الكبيرة، وأحكام الولاة، ولعلنا نذكر في موضع نراه حظا صالحا منه، تمس الحاجة إليه".

كما اعتذر في موضع أحكام البغاة بقوله: "ولا مطمع في ذكر أوصاف الأئمة وما تنعقد الإمامة به؛ فإن القول في هذا يتعلق بفن مقصود" [19] .

[ ص: 73 ] وذكر في "نهاية المطلب" تفصيلات جزئية، مثل:

- أن الإمامة للصلاة نوع من الولايات؛ ولذا يقدم لها السلطان على كل أحد، ولو اجتمع في الدار مالك الدار والسلطان، فالسلطان أولى بالإمامة، وبتقديم من يرى؛ فإن الأئمة، رضي الله عنهم، كانوا يرون الإمامة للصلوات من أحكام الولايات، وقد وجدت كتب الأصحاب متفقة، ونص الشافعي عليه في المختصر، وعلته أن التقدم على السلطان، والتقديم بحضرته خروج من موجب المتابعة، وبذل الطاعة

[20] .

وفي هذا النص ما يبين الارتباط بين الشأن الديني والشأن السياسي؛ فالصلاة وهي عبادة لله تعالى، فيها مراعاة للنظام العام وتدريب الأفراد على المتابعة والطاعة واحترام الأنظمة والقوانين الصادرة عن السلطة العامة وبذل الطاعة على نحو طوعي.

- أن للسلطان أخذ زكاة الأموال الظاهرة قهرا، ولكن لا يأخذ الأموال الباطنة قهرا بل يفوضها للناس [21] ، وفي هذا التفات لأن تحقيق التكافل بالزكاة هو من وظيفة الدولة، لكنه لا ينبغي أن يمس حقوق الإنسان، فليس لموظف الدولة المكلف بجمع الزكاة، والمعروف تراثيا بساعي الزكاة، أن يطلع على [ ص: 74 ] الأموال الباطنة كالذهب والأوراق النقدية والفضة، احتراما لخصوصية الإنسان، فهناك توازن بين واجب الدولة في تحقيق العدالة الاجتماعية بأخذ الزكاة وواجبها في حفظ حقوق الإنسان واحترام خصوصية الإنسان في ماله.

وعند بحث الجويني لهذه المسألة تناول مسألة فقهية، وهي حكم إجزاء الزكاة من غير نية [22] ممن أخذت منه قهرا، ورجح أن نية السلطان تجزئ، بمثابة نية ولي الصغير عند إخراج الزكاة عن الصغير؛ لأن الزكاة عبادة مالية، فهي ليست عبادة محضة لا تصح إلا بنية، بل إن أخذ السلطان للزكاة من منعها جبرا عنه يسقط الواجب عنه دنيويا وأخرويا، وهذا يكشف عن وظيفة الدولة في تحقيق التكافل الاجتماعي وإعادة توزيع الثروة على الفقراء.

- نيابة السلطان عن الغائبين في حفظ أموالهم [23] ، وقال في موضع آخر: "والسلطان لا يتصرف في أموال الغيب بالغبطة المحضة، وإنما يتسلط على التصرف فيها بشيئين: أحدهما إذا أشرفت على الضياع، والثاني إذا مست الحاجة إليها في استيداء [24] حقوق ثبتت على الغائب" [25] .

- وظيفة الدولة بتوفير رواتب الجنود النظاميين، ويطلق عليهم لفظ المرتبين والمرتزقة [26] .

[ ص: 75 ] - وظيفة الدولة بالقيام بولاية التزويج في حالات خمس: كعضل الولي عن الزواج المناسب وحال غياب الولي الأقرب أو انعدامه، أو حال رغبة الولي بتزوج مولاته فيزوجه السلطان تجنبا لتعارض المصالح، وكذا حال تزويج المجنونة إذا كان النظر في تزويجها ولا أب لها ولا جد [27] .

- صلاحيات الإمام في الأنفال كتخصيص بعض الجند بأنفال لمهام قاموا بها، على أن يضمن لبقية الجند ما فاتهم من سهم المصالح العامة [28] ، وفي النص إشارة لتقيد السلطة العامة في قراراتها المبنية على المصلحة باحترام الحقوق الثابتة للأفراد، فالجويني قرر حق الإمام في تخصيص بعض الجند بمزيد من العطايا لما بذلوه من جهد، ولكن ليس للإمام أن يفوت بهذا البذل جزءا من حقوق المقاتلين الغانمين، بل يضمن للمقاتلين ما فاتهم من سهم خاص هو سهم المصالح يقدمه العامة.

- تقييد صلاحية الإمام في التكليف للمطوعة، والتفريق بين حق الإمام في تكليف المطوعة وتكليف الجند النظامي "المرتبين"، حيث يقول: "ولو أراد الإمـام أن ينـدب طـائفة من المطوعة، فـإن لـم تحدث حالة يتعين القتال لها فلا ينبغي للإمام أن يجزم أمره في ذلك؛ فإن المطوعة ليس الجند المرتبين" [29] .

[ ص: 76 ] - وظيفة الإمام بقتال أهل البغي ومنع اعتداء طائفة من الأمة على أخرى، وكذا وظيفة الإمام إقامة الحدود، حيث يقول تعقيبا على قوله تعالى: وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي ... (الحجرات:9):

ومضمون الآية في الطائفتين تبغي إحداهما على الأخرى، والإمام يرد الباغية منهما، وليس بغيها على الإمام، وإذا كانت الباغية [طائفة تقاتل أخرى]، فالباغية على الإمام أولى بذلك [30] .

كما تناول الجويني في كتابه: "لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة"، أحـكام الإمـامـة بإيـجـاز [31] ، وكـذا كتاب "الإرشـاد لقواطع الأدلة"، لكنها لا تتناول وظائف الدولة على هذا النحو المفصل في كتاب "الغياثي".

التالي السابق


الخدمات العلمية